السبت، ديسمبر 07، 2013

مستقبل الإخوان في مصر ،،



ندوة حركة علمانيون بالقاهرة ،،





يقين | الدكتور علي مبروك يقول ان التلبيس هو اخفاء عناصر لاظهار صورة مخالفة لفرض هيمنة 




يقين | الدكتور على مبروك يشرح ماذا يترتب على اعتبار السياسة من اصول الدين





يقين | الدكتور على مبروك مفاهيم السمع والطاعة في جماعة الاخوان مفاهيم مركزية




يقين | الدكتور على مبروك كيف مارست الجماعة التلبيس فيما يتعلق بالحداثة وارتباط الدين بالسياسة



يقين | الدكتور على مبروك يقول ان تفكير حسن البنا مليئ بالتناقض فيما يخص علاقة الدين بالسياسة





يقين | على مبروك بالرغم من تاكيد حسن البنا ان الاخوان جماعة سنية الا انه يضعهم في المربع الشيعي ،،




يقين | الدكتور على مبروك يحكي قصة احد الشباب المنشقين عن جماعة الاخوان






الخميس، سبتمبر 05، 2013

تدويـر الإخوان وإعادة إنتاجهم




رغم كل ما يجرى فى مصر من الحرائق والدماء، فإنه لا يزال هناك فريقٌ من المشتغلين بالشأن العام، ممن يلحون - ومن دون كلل - على إعادة إدماج الإخوان فى المشهد المصرى الراهن.
المُلاحظ أن الطرائق التى يجرى بها تمرير الإلحاح على هذا الإدماج تتباين بحسب اختلاف الانتماءات الإيديولوجية التى يمكن تمييزها داخل هذا الفريق، بين من يجرى تقديمهم كإسلاميين تائبين عن انتمائهم السابق لجماعة الإخوان أو غيرها من جماعات الإسلام السياسي، وبين قطاعٍ من الليبراليين الذين تبدو ليبرالية بعضهم مصبوغةً باللون الأحمر الكاشف عن انتماءٍ يساريٍ سابق.
 وعلى العموم فإن الإسلاميين التائبين يقيمون استراتيجيتهم على التمييز فى تاريخ الجماعة بين لحظتين، أولاهما هى لحظة التأسيس مع الأب الأول حسن البنا، التى يجرى النظر إليها - فى تاريخ الجماعة - كلحظة فردوسية لابد من السعى إلى استعادتها، وبين ما جاء لاحقاً عليها من لحظة العنف والدم، التى ابتدأت فى التبلور مع سيد قطب، والتى يلزم نبذها وإعلان البراءة منها. وبالطبع فإن الفرضية التى تقف وراء هذه الاستراتيجية إنما تتمثل فى أن تسريب الادعاء بأن العلاقة بين اللحظتين ليست علاقة تطور لم يفعل فيها قطب إلا أن وصل بأطروحة البنا إلى نهاياتها القصوى، بقدر ما هى علاقة انقطاعٍ وانفصالٍ كاملٍ بينهما. 

ولسوء الحظ، فإن هذه الفرضية لا تصمد أمام التحليل المتعمق، وذلك من حيث أن الثوابت التى اشتغل بها خطاب العنف عند قطب تكاد أن تكون حاضرةً - وعلى نحو كامل - عند الأستاذ البنا. ويرتبط ذلك بانه إذا كانت جرثومة العنف تقوم، وبالأساس، فى توظيف مفردات الدين ومطلقاته فى السعى إلى احتلال المجال العام، توطئة للهيمنةِ عليه واقصاء كل المغايرين عبر ضروبٍ متباينة من العنف (الذى يبدأ ناعماً وينتهى دامياً)، فإن حسن البنا قد كان هو من أدخل هذه الجرثومة إلى الممارسة السياسية المصرية.
وضمن هذا السياق فإنه لابد أن يبدأ العنف ضد الآخرين عندما تحتكر جماعة لنفسها صفة "المسلمين"، وبما لابد أن ينشأ عن ذلك من خلق الإيهام لدى الجمهور بأن الأخرين، من خصوم الجماعة، يقفون خارج أسوار جماعة المسلمين التى تقتصر على الإخوان.



ولعل ذلك يجد ما يدعمه فى فهم حقيقة ما قيل من أن الانقلاب نحو العنف قد حصل فى فكر سيد قطب بسبب ما عاناه فى سجون عبدالناصر. فالحقائق تقطع بأن الثوابت الراسخة لخطاب العنف عند سيد قطب قد تبلورت، ليس فقط قبل أن يكون ضيفاً على سجون عبدالناصر، بل وحتى قبل وقوع ثورة يوليو نفسها. بل إنه يبدو أن قطب قد أصبح ضيفاً على السجون الناصرية بسبب هذه الأفكار العنيفة، وليس الأمر كما يحلو للبعض تصويره من أن هذه السجون كانت هى السبب فى تبلور هذه الأفكار. وللغرابة، فإنه يجرى تجاهل حقيقة أن ملامح توجه قطب نحو التشدد قد بدأت فى الظهور بوضوح عند أواخر الأربعينيات، وبالتواكب مع رحلته العلمية فى الولايات المتحدة، وبما يعنيه ذلك من أن بذور العنف قد بدأت فى التبرعم فى البيئة الأمريكية المنفتحة، ولا يمكن إلصاقها بالبيئة الناصرية المغلقة.

بل إن البعض يرتد بتوجه قطب نحو العنف إلى طبيعة ومزاج رومانسى يغلب على شخصيته، وهو المزاج الذى تجاوب معه واقع مأزوم كانت تشهده مصر على مختلف الأصعدة آنذاك. وبالطبع فإن الشرط الذاتى (الخاص بمزاجه الشخصي) والشرط الموضوعى (المتعلق بواقع مصر المأزوم فى نهاية الأربعينيات)، قد كانا بمثابة الشرط الخارجى الذى جعل سيد قطب يبلغ بالعنف الكامن فى خطاب حسن البنا إلى نهايته القصوى. وهكذا فإن خطاب "قطب" يكاد أن يكون تطويراً لخطاب البنا ضمن شروطٍ متغيرة (ذاتية وموضوعية)، وبما يعنيه ذلك من أن العنف لم يكن غائباً عن خطاب البنا، بقدر ما كان "كامناً" ينتظر الشروط التى سوف تسمح بظهوره واشتعاله.وإذا كان يحلو للجماعة أن تستخدم المفاهيم التى استقرت لفهم الدعوة النبوية بالتمييز داخلها بين الحقبة "المكية" والحقبة "المدنية"، وبحيث تكون لحظة البنا هى اللحظة المكية (القائمة على المسالمة)، فيما تكون لحظة قطب هى اللحظة المدنية (القائمة على التمايز والمفاصلة)، فإن هذه المماثلة تدعم الفكرة التى تقضى بأن العلاقة بين لحظتى البنا وقطب هى علاقة تطويرٌ واتصال، وليست - كما يحلو للبعض الإيهام - علاقة انقطاع وانفصال. 

وإذا كان داعية الإسلام السياسى التائب يسعى عبر هذه المراوغات إلى إعادة إدماج الجماعة الأم لكل تيارات الإسلام السياسى فى المشهد المصرى مرة أخرى، فإن داعية الليبراالية (ولو كانت حتى مصبوغةً ببقايا باهتة للون اليسار الأحمر) يسعى فى نفس الاتجاه، ولكن عبر الثرثرة بشعارات ليبراليته الساذجة، والتى ينكشف طوال الوقت أنها ليبرالية (محفوظات) وليس (مفهومات). فهم يحتجون بأنه إذا كان الإخوان قد قد قاموا بإقصاء الأخرين (من الليبراليين وغيرهم)، فإنه لا ينبغى أن يقوم هؤلاء الآخرون بممارسة نفس الإقصاء ضد الإخوان، لأن ذلك يعنى الانتهاء إلى نفس فشل الإخوان. ولسوء الحظ، فإن هذا الاحتجاج يكشف عن عقلٍ يشتغل بطريقة قياسية فقهية بائسة، حيث لا يقدر هؤلاء على إدراك أن الإقصاء لا يمكن أن يكون بمجرد ذاته سبباً فى الفشل، بل إنه يكون كذلك حين يكون وقوفاً فى وجه ما يقتضيه نظام العقل وتطوره. ولعل ذلك بالذات هو جوهر ما تسبب فى فشل الإخوان، لأن إقصائيتهم كانت تنطوى على السعى إلى العودة بالمصريين إلى مرحلة أدنى من تلك التى يقتضيها تطورهم العقلى والإنسانى الراهن. 



تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 5 / سبـتـمـبـــــــــــــــــر / 2013



الخميس، أغسطس 22، 2013

الدين والسياسة فى خطاب حسن البنا




يكاد الالتباس المتعلق بالعلاقة بين الدين والسياسة أن يكون هو أحد أهم الآليات التى ينبنى عليها خطاب الأستاذ حسن البنا، الرائد المؤسس لجماعة الإخوان، وابتداءً من تحديده لهوية تلك الجماعة. 
فإذ يقرر - من ناحية - أن الجماعة دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وبما يعنيه ذلك من تأكيد هويتها الدينية، فإنه لا ينفى عن الإخوان - فى الوقت نفسه - أنهم هيئة سياسية لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم فى الداخل وتعديل النظر فى صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم فى الخارج، وتربية الشعب على العزة والكرامة والحرص على قوميته إلى أبعد حد. ولقد أتاح هذا الالتباس للجماعة ومشايعيها أن يروجوا للجماعة على أنها ذات هوية دينية، وأن ما تمارسه من السياسة إنما يرتبط بكونها - أى السياسة - ركناً من أركان الدين، حيث الحكم - على قول البنا - معدودٌ فى كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع.

وهنا تأتى المفارقة من أن البنا حين يجعل الحكم السياسي من العقائد والأصول، فإنه ينقض ما وصف به جماعته من أنها طريقة سنية، حيث السياسة معدودة عند أهل السنة من الفقهيات والفروع، على عكس الشيعة الذين انفردوا وحدهم باعتبارها من العقائد والأصول. وإذ لا يمكن الشك فى معرفة الرجل بما يقول به الشيعة بخصوص الإمامة والسياسة، فإنه لا يبقى إلا أن التزامه ما يقول به الشيعة هو النهاية التى تفرض نفسها على كل من يسعى إلى إخفاء ممارسته السياسية وراء أستار المعتقد الديني، وإلى الحد الذى يبلغ به تخوم اعتبار السياسة ديناً. 
وللغرابة، فإنه يبدو - والحال كذلك - أنه إذا كانت السياسة هى التى شطرت المسلمين، فى القديم، إلى سنة وشيعة، فإنها تعود لتقرِّب بينهما فى اللحظة الراهنة. والعجيب أن يكون الاستبداد حاضراً، وبقوة، فى كلتا اللحظتين معاً.
فقد كان الاستبداد، هناك فى لحظة الانقسام، حين راح الشيعة يتعالون بالسياسة إلى السماء (حيث جعلوا تعيين الإمام بالنص من الله)، وذلك على سبيل اليأس من الناس الذين حالوا بين أئمة آل البيت وبين ما يراه الشيعة حقاً لهم فى الإمامة.
 وبالمثل فإنه كان حاضراً عند أهل السنة، حين راحوا يجعلون ما يقولون أنه تعيين الإمام من الناس بالبيعة والاختيار، ستاراً يخفون وراءه آليات الشوكة والمغالبة التى كانت هى الفاعل الحقيقي - والأهم - فى مسار ممارستهم السياسية. ولعل هذا التماثل القديم هو ما يقف وراء تقاربهما الراهن، وأعنى من حيث ما تتكشف عنه التجربة السياسية الشيعية (متجسدة فى النظام السياسى الإيرانى الحالي)، والسنية (متجسدة فى جماعة الإخوان فى مصر)، من السعى إلى توظيف الرأسمال الدينى المتجذِّر فى تثبيت خطاب وصائى أبوي.
 ولعل هذا الطابع الوصائى الأبوى للخطاب يتأكد من خلال المركزية الطاغية لمفهوم المرشد فى كلا النظامين الإيرانى (الشيعي) والمصرى (الإخواني - السني). وهنا يلزم التنويه بأن هذا الخطاب الوصائى إنما ينبني، وعلى نحوٍ جوهري، على تصور العقل قاصراً عن تدبير شأن الإنسان الذى يبقي، لذلك، فى احتياجٍ دائم إلى مرشد يقرر له ويختار. وغنيٌّ عن البيان أن ذلك التصور هو ما يؤسس - على مدى التاريخ - لكل أنماط السلطة المستبدة القامعة، التى تسلك بمنطق فرض الوصاية على الناس. 

وبالرغم من مركزية وضع المرشد فى كلا النظامين، فإن ثمة ما يتميز به النظام الإيراني، وأعنى من حيث ما يعرفه من تنظيم الدستور لمكانة وحدود دور المرشد على رأس هذا النظام، وذلك فى مقابل ما كان من خلو الدستور المصري - الذى جرى تعطيله أخيرا بعد الثورة الأخيرة على حكم الإخوان - من النص على ما ينظم دور ومكانة المرشد فى النظام السياسي. وهكذا، فإنه ورغم ما ينطق به واقع الحال، ويشهد به الكثيرون ممن أدوا أدواراً سياسية فى نظام الرئيس المعزول مرسي، من ممارسة المرشد - ومكتب الإرشاد على العموم - لدورٍ سياسى كبير، فإنه قد ظل دوراً منفلتاً، وخارج رقابة الدستور، وبما يعنيه ذلك من أن ممارسته السلطة، لم تكن تترتب عليها أى نوعٍ من المسئولية.

 وانطلاقاً من مبدأ أنه لا سلطة من دون مسئولية، فإن ذلك يبقى من قبيل القصور الذى يلزم تداركه، على ألا يكون ذلك من خلال النص على سلطة للمرشد فى الدستور، بل من خلال النص على ما يمنع التابعين للجماعات التى تتلاعب بالرأسمال الدينى للجمهور، ويكون لها مرشد أعلى يقف على رأس تراتبيتها التنظيمية، من الوصول إلى قمة النظام السياسى المصري، لكى لا يُتاح لهذا المرشد أن يمارس سلطة من دون مسئولية. 

ويرتبط ذلك بأن الإنسانية على العموم قد بلغت - فى تطورها العقلي - مرحلة الرشد، ولم تعد فى حاجة إلى من يقوم بإرشادها إلى ما فيه فلاحها. ولعله يمكن القول بوجوب التحصين الدستورى لمبدأ بلوغ الإنسانية حال الرشد، ولا يمكن الاحتجاج هنا بأن ثمة من المبادئ الإنسانية الكبرى ما يتعارض مع مستوى التطور الثقافى الراهن للمصريين، وأنه لا يمكن فرضها عليهم بالدستور أو القانون، ولابد من ترك التطور يأخذ مداه.
 إذ الحق أن غياب الوعى بهذه المبادئ هو ما يتيح لأصحاب خطابات الأبوية والوصاية أن يفرضوا خطاباتهم على الناس، وبما يعنيه ذلك من أن مصلحتهم تستلزم إبقاء المصريين عند نفس المستوى الثقافى الذى يسمح لهم بفرض وصايتهم عليهم. وبالطبع فإن ذلك يعنى أنه لن يكون ممكناً الخروج بالمصريين من حالهم الثقافى المتردى إلا عبر توفير الشروط التى تجعل هذا التطور ممكناً، وأهم هذه الشروط هو رفع غطاء المشروعية عن أصحاب خطابات الوصاية. 

وبالطبع فإن الإلحاح على إخفاء الهوية السياسية الغالبة للجماعة وراء براقع الدينى وأستاره، لا يكشف إلا عن محض السعى إلى استئناف نوعٍ من التاريخ الطويل - الذى عرفه الأسلاف - من ممارسة السياسة بالدين، وهى الممارسة التى كان قد شاع الظن بأنها قد انقطعت وتوقفت تحت تأثير ما بدا وكأنه القصف بالحداثة، على العالمين العربى والإسلامي، الذى انطلق مع حملة بونابرت على مصر فى أُخريات القرن الثامن عشر. لكنه بدا وكأن ما تخلَّف عن هذا القصف الصاخب لم يكن إلا بضعة خدوش تافهة على سطح عالم ظل محتفظاً، فى العمق، بمعظم ثوابت نظامه التقليدى الموروث. 


تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 22 / أغسطــــــــــس / 2013


الخميس، أغسطس 08، 2013

سـيد قطـب ومفهـوم الجماعـة الربانيـة





إذا كان القرآن قد تنزَّل بما هو أحد تجليات "المعرفة الإلهية" المتعالية، فإنه يبقى أن كل ما يصدر عنه من معرفة تتمثل فى منظومات (التفسير والفقه والعقائد والأصول وغيرها)، إنما يكون من قبيل (المعرفة الإنسانية) المشروطة تاريخياً ومعرفياً.

وهكذا فإنه لا ينبغى التمويه بحقيقة صدور القرآن عن مشكاة العلم الإلهى غير المحدود، وهى الحقيقة التى لا يمكن أن تكون موضوعاً للشك أبداً، على حقيقة أن ما يصدر عنه من معرفة تبقي، هى نفسها، من قبيل المعرفة الإنسانية التى يستحيل استيعابها خارج إطار التحديدات - بل وحتى الإكراهات - الزمانية والمكانية. ولسوء الحظ، فإن ثمة من يقوم بهذا التمويه، فيضيف ما يتميز به القرآن (بما هو أحد تجليات العلم الإلهى غير المحدود) من الثبات والكمال والقدرة على تجاوز تحديدات الزمان والمكان إلى ما نشأ وتخلَّق حوله من منظومات أنتجها الفهم الإنسانى على النحو الذى يجعل تلك المنظومات الإنسانية فى جوهرها، تكتسب - أو تكاد - كل سمات العلم الإلهى من الثبات والاكتمال وعدم القابلية للتجاوز أبداً. وغنيٌّ عن البيان أن الأمر - ضمن هذا السياق - لا يتجاوز حدود السعى إلى تأبيد تلك المنظومات - وذلك عبر فك روابطها مع تاريخها والتعالى بها إلى فضاء تكتسب فيه حصانة ضد التفكير والمساءلة - للتغطية بها على أنظمة سياسية وأوضاعٍ اجتماعية تريد أن تحقق لنفسها دوام الحضور وثبات الهيمنة.

وكنموذجٍ حديث لهذا النوع من المنظومات المعرفية التى يدَّعى لها أصحابها استنفادها للقرآن على النحو الذى يتعالى بها إلى مقام المنظومة المقدسة، فإنه يمكن الإشارة إلى الإنجاز الذى قدمه الأب المؤسس للحركات الجهادية المعاصرة، الذى هو (سيد قطب). فنصوص الرجل قاطعةً بأن ما يطرحه مما يقول أنه (التصور الإسلامي) ليس نتاجاً لقراءته أو تفسيره الخاص للقرآن، بقدر ما هو التصور (ذاته) الذى جاء به القرآن، وهو يقدم نفسه من خلال الرجل (أى قطب).
فالرجل - فى كتابه (خصائص التصور الإسلامي) - يقرر صريحاً وحاسماً "إنما نحن نحاول تقرير حقائق التصور الإسلامى فى ذاتها كما جاء بها القرآن كاملة شاملة متناسقة".
وهو - فضلاً عن ذلك - يرى أن "من الخطأ المنهجى الأصيل محاولة استعارة أى ميزان، أو منهج من مناهج التفكير المتداولة فى الأرض - فى عالم البشر - للتعامل بها مع هذا التصور الخاص المستقل الأصيل، أو الاقتباس منها والإضافة إلى ذلك التصور الربانى الكامل الشامل الذى جاء به القرآن". وإذن فإنه ليس التصور فقط، بل وكذا منهج التعامل معه، هو من قبيل ما لا ينتمى إلى عالم البشر، وبما يعنيه ذلك من أن قطب يعتبر أن كل ما يقدمه هو التصور الربانى والمنهج الربانى كما جاء بهما القرآن.

وبالطبع فإنه لن يكون غريباً أن الجماعات التى تبنت أو تناسلت من خطاب قطب (وأعنى جماعة الإخوان المسلمين وذريتها من الجماعات الجهادية التى تنمو كالفطريات على جسدها المترهل) قد تعالت بنفسها إلى مقام الجماعات الربانية، بسبب ما يعتقد فيه المنتسبون إليها من سعيها إلى تحقيق ما يقول قطب أنه "التصور الرباني" الذى جاء به القرآن. وبالطبع فإن كون التصور "ربانيا" لا يجعل أمام الواقع من سبيلٍ فى التعامل معه إلا لمجرد التلقى والخضوع. فإن الحركة بين هذا التصور من جهة، وبين الواقع من جهة أخري، تمضى فى اتجاهٍ واحد فقط، وأعنى من التصور إلى الواقع فقط.
 وإذ يعجز هذا التصور الربانى المثالى عن استيعاب حركة الواقع المعقدة، فإنه لا يكون أمام حاملى هذا التصور إلا هجاء الواقع والسعى إلى إدخاله، على نحوٍ قسري، ضمن تحديدات هذا التصور، وعلى النحو الذى يدفع بهم إلى تكفيره والخروج عليه. وهكذا تكون النهاية القصوى لذلك الضرب من المعرفة الذى يدعَّى لنفسه استنفاد القرآن - وبما يترتب على ذلك من التعالى بنفسه إلى مقام المعرفة المقدسة - هى الدخول فى مواجهات عنيفة مع الدولة والمجتمع فى آنٍ معاً. ولعل ومن نافلة القول، التأكيد أن هذا التصور القطبى إنما يتسق مع تأكيد - تلميذه ودارسه الأكبر الباحث الأردنى (صلاح الخالدي) - على انحياز قطب للمعتقد السلفي - الحنبلي، الذى يعرف الكافة أنه يقوم على تصور الوجود الأزلى القديم للقرآن، لا بما هو المعنى القديم القائم بذات الله، بل بما هو الحروف المنطوقة والأصوات المسموعة.

 ويرتبط ذلك بأنه إذا كان الوجود القديم للقرآن بما هو المعنى القديم القائم بذات الله يفتح الباب أمام (مناهج التفكير المتداولة فى عالم البشر) للاشتغال بما يتيح اقتناص هذا المعنى من الألفاظ التى تتضمنه، والتى ليست قديمة مثله، فإن تصور الوجود الأزلى القديم للقرآن، بما هو ألفاظٌ وأصوات على طريقة الحنابلة، يعنى أن المعنى ظاهرٌ فى الألفاظ من دون أدنى حاجةٍ إلى مناهج من تفكير البشر وتأويلاتهم. ومن هنا ما يقرره قطب - فى الظلال - من عدم الميل "إلى المنهج الذى تتخذه مدرسة الإمام محمد عبده فى التفسير، من محاولة تأويل كل أمرٍ غيبى تأويلاً معيناً ينفى الحركة الحسية عن هذه العوالم". 

والحق أن الفرق بين الرجلين هو فرقٌ بين من يستوعب معطيات الواقع فى فهمه للقرآن (وأعنى محمد عبده بخلفيته الإصلاحية)، وبين من لا يرى لمطيات الواقع أى دورٍ فى فهم القرآن، الذى يحضر فيه المعنى مكتملاً، والذى لا يكون للمرء من دورٍ فيه إلا أن يهيئ نفسه لتلقى هذا المعنى المكتمل الجاهز عبر فصل نفسه عن كل ما هو دنيوى وبشري. ولعل الاقتناع بهذه الربانية المُفترضة للجماعة وقادتها هو ما يفسر السلوك الهائج العنيف لفيالق المنتسبين إليها، الذين يتصورون أنفسهم، بما يفعلون فى ميادين وشوارع القاهرة، من المجاهدين المدافعين عن رسالةٍ "ربانية" ولا يخطر ببالهم أنهم مجرد قطعٍ يجرى تحريكها فى ساحات معركة "سياسية". 


تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 8 / أغسطــــــــــــــس / 2013

الخميس، يوليو 25، 2013

خطاب الرؤى والبشارات فى ساحة رابعة





ليس من شكٍ فى أن ما تسمى نفسها جماعة الإخوان المسلمين تجابه أزمة تهدد وجودها فى الصميم، وذلك على إثر الثورة العارمة التى اندلعت ضدها، نتيجة لفشلها الكامل فى إدارة الشأن المصرى بعد عام من وصول مرشحها إلى كرسى الرئاسة.

ولسوء الحظ، فإن استجابة الجماعة للأزمة تكاد أن تتبلور جميعها ضمن الأفق ما قبل العقلاني، وبصنفيه الرؤيوى الحالم بالسماء تهبه الخلاص مما يعنيه، والانتحارى الماسادى (نسبة إلى قلعة ماسادا) الساعى إلى استرجاع مفردات عصر قرابين الأضاحى والدماء.
 ومن هنا ما يلحظه المرء من دوران الخطاب السائد على منصة الاعتصام الذى تنظمه من تقول عن نفسها جماعة "الإخوان المسلمين" فى ساحة رابعة العدوية بين التبشير بالرؤى المنهمرة، بغزارة، على خطبائها من الشيوخ الذين صفت نفوسهم فجأة وأصبحوا جاهزين لاستقبال الإشارات القدسية التى تخصهم بها السماء، وبين التحذير من أولئك الذين نذروا أنفسهم للموت من أجل رجعة إمامهم الغائب إلى قصره.
وهنا فإنهم يشيرون إلى ما يقولون إنها كتائب من الرجال والنساء الذين اختاروا أن يجعلوا أنفسهم "مشاريع شهداء"، وبما يعنيه ذلك من أن الشهادة نفسها قد استحالت إلى "مشروع" وعلى النحو الكاشف عن طبيعتها الانتهازية الفجة. 

هكذا فإن ساحة رابعة العدوية قد أصبحت - على مدى الأسبوعين الماضيين - مهبطاً لملائكة ورؤى وبشارات غزيرة على النحو الذى توافرت معه مادة حية كافية تتيح للباحثين فى علم النفس الديني، أن يأخذوا منها مادة لتحليلاتهم التى كانت تعتمد قبل ذلك على المرويات التاريخية فقط. إذ لا مجال أبداً لدرس هذا الخطاب الرؤيوى بعيداً عن المفاعيل النفسية التى ينتجها عند المتلقين له. حيث الخطاب لا يستهدف ما هو أكثر من طمأنة المُخاطبين به وتثبيتهم نفسياً بترويج الادعاء بوقوف السماء معهم من خلال ما ترسل من الإشارات والرسائل التى تتواتر فى شكل رؤى وبشاراتٍ نورانية. ولقد بلغت قوة هذا التأييد أن النبى الكريم لم يكن وحده هو محور هذه الرؤى والبشارات، بل إن الملاك جبريل المُكلَّف من السماء بنقل رسائل الله إلى الأرض قد هبط فى ساحة رابعة، وبما يعنيه ذلك من تأكيد الدعم المباشر من الله عبر ملاكه المخصوص.
وغنيٌّ عن البيان أن مروجى هذا الخطاب يدركون فاعليته الكبرى، وتأثيره الكاسح على من يتلقونه من أتباعهم. إذ هم يعتمدون، لا محالة، على ما يعرفون استقراره فى وعى هؤلاء المتلقين من موروث يرتقى بالرؤى المنامية إلى مقام الوحى من جهة، وعلى ما يؤمنون به، من جهة أخرى، من أن حضور النبى الكريم فى الرؤيا يكون هو السبب الكافى فى تأكيد صدقها ووثوقيتها.

 وبحسب ذلك فإنه يلزم قبول رواية كل من يقول برؤيته للنبى فى المنام، ولو كان - فى الحقيقة - مدعيا، حيث الصدق هنا لا يرتبط بالرائى، بل يرتبط بمجرد إحضاره للنبى فى الرؤيا لتكون رؤيته مقبولة. وبالطبع فإن ذلك يعنى غياب أى معيار تتميز به الحقيقة عن الادعاء. 
ولعل ذلك يؤول - وعلى نحو ضروري - إلى أن القائم بالترويج لهذا الخطاب لا تشغله الحقيقة، بقدر ما يشغله التأثير الذى يتركه على المتلقين بقصد تثبيتهم. ولعل انشغاله بهذا التأثير، ولو على حساب الحقيقة، يتبدى فى التجرؤ على إظهار النبى الكريم متصاغرا فى حضرة رجل الجماعة "محمد مرسى". إذ يروى أحدهم أن النبى الكريم قد تراءى له فى جمعٍ فيه "مرسي"، وحين حان وقت الصلاة فإن الجمع قد قدَّم النبى الكريم لإمامتهم فيها، فما كان من النبى إلا أن تراجع مقدَّما لمرسى ليؤم الجمع - وفيهم النبي - فى الصلاة. إن من يروَّج لهذه الرؤيا ليس معنيِّاً بحقيقتها، بقدر ما يعنيه ما ستقوم بتثبيته فى وعى الجمهور المتلقى من الدلالة السياسية التى يبتغيها، رغم عدم التصريح بها.

 فهو يدرك - ومن دون شك - ما يعرفه الناس جميعاً من أن الحالة الوحيدة التى قدَّم فيها النبى غيره للصلاة بجماعة المسلمين كانت هى تلك التى قدَّم فيها أبى بكر ليصلى بهم حين اشتد عليه المرض. وأن هذا التقديم كان من بين ما جرى الاستناد إليه فى تأكيد أحقية أبى بكر بخلافة النبى فى الحكم السياسى للمسلمين، وبما يعنيه ذلك من أن إمامة أبى بكرٍ للصلاة، كانت الدليل على تثبيت إمامته السياسية. وإذن فإن من يروَّج لرؤيا تقديم النبى لمرسى ليؤم الجمع فى الصلاة، يعتمد على هذا المعروف للجمهور من أن التقدُّم فى إمامة الصلاة فى حضرة النبي، هو دليلٌ على التقدم فى الإمامة السياسية، بحسب ما جرى مع أبى بكر، ليؤسس على ذلك أن تثبيت المكانة السياسية لمرسى هو إشارة من النبى نفسه.
وبالطبع فإن القصد من ذلك هو البلوغ بالجمهور المُتلقى للخطاب إلى الإيمان بأن احتشاده فى الميدان، وإلى حد الاستعداد لبذل النفس، ليس من أجل شخص مرسي، بل من أجل إنفاذ ما أشار به النبي، وأراده. وإذن، فإنه القصد السياسى وهو يخفى نفسه وراء مخايلات الدين ومراوغاته. 

وفضلاً عن ذلك، فإن طبيعة الخطاب الرؤيوى تكشف، على العموم، عن وقوف المتلقين له عند مرحلة، فى مسار التطور الإنساني، تتميز بقصور الإنسان، وعدم بلوغه حال الرشد العقلي. ولعل ذلك يتسق مع حقيقة أن الجماعة التى ينتسبون إليها تضع على رأس هيراركيتها التنظيمية ما تقول إنه امر شدها العام"، وبما يعنيه ذلك من الإقرار بحاجة المنتسبين إليها إلى من يوجههم ويرشدهم. إن ذلك يعنى أن الجماعة ومنتسبيها تظل تنتمى إلى لحظة ماضية فى تاريخ الإنسانية، كان البشر خاضعين فيها لهيمنة الخطابات الوصائية 


تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 25 / يوليـــــــــــــو / 2013


الخميس، يوليو 11، 2013

هل تتصالح الديمقراطية مع خطاب الإسلام السياسى؟





تقوم ظاهرة الإسلام السياسي - وتحتل موقع القلب فيها جماعة الإخوان المسلمين - على ضروبٍ من الالتباس التى يجرى إخفاؤها، وعن عمد، لتكون بمنأى عن الوعى المنضبط بها، وعلى النحو الذى يهبها الديمومة واستمرار البقاء. كما يرتبط ذلك بالسعى إلى تصوير الجماعات المكونة لظاهرة الإسلام السياسي، على أنها جماعاتٌ "طهورية"، لا انشغال لها بما يجاوز حدود "المقدس" الديني، وبما يعنيه ذلك من تعمُّد إخفاء طابعها السياسي. ومن هنا وجوب فض الالتباسات المتعلقة بموقف هذه الجماعات من الحداثة، والعلاقة بين الدين والسياسة، والعقل والتقليد والطاعة وغيرها. 
وفيما يخص الالتباس المتعلق بالموقف من الحداثة، فإن الأصل فيه يأتى من أن أحداً لم يلتفت - بما يكفي - إلى استقصاء السياق الفكرى والمعرفى الذى تبلور فيه خطاب جماعة الإخوان المسلمين، وتيار الإسلام السياسى على العموم، وذلك على الرغم من غزارة الالتفات إلى السياق السياسى والتاريخى الذى أدى إلى ظهور كلٍ منهما، والذى يتمثل فى إعلان سقوط الخلافة فى العام 1924، بالذات. ولعل المدخل إلى الوعى بهذا السياق المُهمل، ينطلق من الإقرار بأن تيار الإسلام السياسي - وضمنه جماعة الإخوان - هو جزءٌ من صميم ما يُعرف بظاهرة الحداثة العربية، وإلى حد إمكان القطع بأنه لو أمكن تصور غياب ظاهرة "الحداثة" على العموم - والنمط العربى منها على الخصوص - لما كان لتيار الإسلام السياسى أن يتبلور من الأساس. ويعنى ذلك أنه يستحيل استيعاب ظاهرة الإسلام السياسى خارج القوانين والمحددات التى حكمت انبثاق وتطور ظاهرة التحديث فى العالم العربى منذ العقود الأولى فى القرن التاسع عشر. وبالطبع فإنه لا يؤثر فى ذلك ما يجرى الإيهام به من أن الإسلام السياسى يبغى استبدال الإسلام - كمنظومة حياة - بالحداثة، من أجل استرداد ماضيه الذهبى السابق عليها، حيث الأمر لا يتجاوز مجرد استخدام الإسلام والحداثة معاً من أجل بناء وتثبيت أيديولوجيا سياسية، لا تختلف عن غيرها من أيديولوجيات مناوئة إلا من حيث نوع القناع التى تتخفى خلفه. 

من صاغوا خطاب التغيير فى العالم العربى قد قاموا بالتمييز فى الحداثة الأوروبية - ومنذ البدء - بين المكون "التقنى الإجرائي" لها، والذى اعتبروه من "النفيس" المقبول الواجب نقله إلى ديار المسلمين، وبين مكونها "العقلى النقدي"، الذى اعتبروه من "الخسيس" المرذول الذى لا يجوز تعاطيه أو نقله إلى ديارهم. وبالطبع فإن ما يجرى الآن فى العالم العربي، لم يقطع بأن هذه الأطروحة التى استقر عليها الجميع على مدى القرنين الفائتين، قد حافظت للجمهور على وضع "الجاهل" الذى يشهد ما يحصل الآن بأنه لم يغادره، وفقط فإن هذا الجمهور قد اختار - مع تراخى قبضة الدولة - أن يتخلى عما فرضته عليه من "الوداعة".

ورغم ما بدا من بؤس هذا الضرب من التغيير فى الواقع الخارجي، مع الإهمال شبه الكامل للشرط العقلى اللازم لأى تغييرٍ حقيقي، فإن ذلك قد حدد طريقة عمل الفرقاء العاملين تحت مظلة الخطاب العربى الحديث، والتى تتمثل فى وجوب الإمساك بأدوات القوة التى تفرض التغيير من أعلى، والتى تتمثل فى الدولة بالأساس.

وضمن هذا السعى إلى الإمساك بالدولة، فإن دعاة الإسلام السياسى لا يختلفون - من جهتهم - عن غيرهم من الذين عملوا، من جهة أخرى، تحت رايات الأيديولوجيات التحديثية (الليبرالية والقومية والاشتراكية وغيرها). وأعنى من حيث إنهم جميعاً يراوحون تحت مظلة ذات الأطروحة التى لا ترى للتغيير سبيلاً إلا بتسكين الجوانب التقنية الإجرائية من الحداثة فوق ذات البنيات التقليدية المتوارثة للوعى التى تحتفظ للجمهور بوداعته وهدوئه وطاعته. وفقط فإن الاختلاف بينهما يأتى من نوع المفردات التى يستخدمها كل فريق فى سعيه إلى الهيمنة على المجال العام.

 إذ فيما ظل دعاة الأيديولوجيات الحداثوية يستخدمون المفردات المتداولة فى إطار الأيديولوجيات التى يبشرون بها (من قبيل الحرية والديمقراطية والدستور والاشتراكية والطبقة العاملة والقومية وغيرها)، والتى لم يقدروا على السيطرة بها على المجال العام لعدم امتلاك الجمهور - المقصود التأثير عليه بها - للتراث المعرفى والتاريخى الذى تقف عليه هذه المفردات، فإن دعاة الإسلام السياسى يستخدمون مفردات تنتمى للرأسمال الرمزى الدينى للجمهور للسيطرة على المجال العام (من قبيل الشريعة والحكم بما أنزل الله وتطبيق الحدود وغيرها)، وبما سيجعل من دولة الإسلام السياسي، "الدولة التنين" فعلاً. حيث ستحضر الدولة، كقوة قابضة ليس فقط بكل أدوات قمعها الحديثة، بل وكذا على الرأسمال الرمزى المقدس الذى سيجعل من الخروج عليها هرطقةً وكفراً.
 وهكذا فإنه، وبدلاً من تجاوز أطروحة مركزية الدولة فى التغيير، عبر نقد أطروحة التغيير البرانى الذى تفرضه الدولة من أعلى على المجتمع الوديع المستكين فى الأدنى، وفتح الباب أمام ضرورة امتلاك الشروط العقلية والمعرفية للدخول إلى عصر الحداثة الحقة، فإن الإسلام السياسى لا يملك ما يقدمه إلا المزيد من "مركزة" الدولة من جهة، و"إخضاع" الجمهور من جهة أخرى، وبما يعنيه ذلك من أنه لا يقدر على تقديم ما يمكن أن يساعد مصر على بلوغ عتبة تطورها الديمقراطي، بل إنه يمثل العائق الأهم أمام مثل هذا التطور. لذا لزم التنويه وخصوصاً مع تزايد الدعاوى لاحتواء جماعات الإسلام السياسى فى العملية السياسية.

 ولعله يلزم تأكيد ضرورة أن يكون إدماج الأفراد، من المنتمين لهذا التيار، بعد تأهيلهم على نحو يبرأون منه من فيروس هذا الخطاب المرعب. 


تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 11 / يونيــــــــــــو /2013


الخميس، يونيو 27، 2013

عن الاستبداد والتنطع





لعله يلزم التنويه بأنه إذا كانت العلاقة بين الدينى والسياسى فى الإسلام تحتاج إلى استقصاءٍ أعمق يتجاوز حدود هذا الحيز، فإنه يمكن القول - على العموم - بانه إذا كان الدين قد ظل يقدم للسياسة لغتها وقاموس مفرداتها، فإن كل موجهاتها ومحدداتها الرئيسية قد ظلت تنتمى إلى مجال آخر غير الدين. 

وبعبارة أخري، فإنه إذا كان الدين قد منح السياسة لغتها وشكل ممارستها، فإن مضمون تلك الممارسة ومحتواها قد ظل شيئاً يقع خارج حدوده فى الأغلب. ولعل استقراء للمصنفات التاريخية الكبرى يئول إلى أن صراعات القوة قد كانت هى المحدد الرئيسى لممارسة السياسة فى الإسلام. فلا يكاد ابن خلدون - الذى يستمد قيمته الكبرى من كونه صاحب خطاب عن التاريخ، وليس من كونه مجرد مؤرخ، أو ناقلٍ للأخبار مثل غيره - يرى فى تاريخ المسلمين، إلى عصره، إلا نوعاً من الفاعلية شبه المطلقة لقانون العصبية القبلية التى كانت - ولعلها تبقى للآن - الشكل السائد لاشتغال القوة. والغريب أن المحاولات لا تتوقف لإخفاء هذا التاريخ الطويل الذى كتبته القوة لكى يتوارى من الذاكرة بالكلية، لحساب تاريخ مثالى ومُتخيل يستخدمه دعاة الإسلام السياسى فى الترويج لأجنداتهم السياسية النازعة للهيمنة.
 ورغم هذا السعى الدائب إلى طمس هذا التاريخ الرذيل الذى يجرح الوعى ويشقيه، فإن ما يشهده العالم العربي، فى اللحظة الراهنة، من انفجار المكبوت القَبَلى والعشائرى والطائفى والمذهبى الذى لطالما جرى كبته وراء أقنعة الدين - ثم الحداثة بعد ذلك - لما يؤكد على أنه من قبيل التاريخ الذى يأبى الغياب والسكوت.

إن ذلك يعنى أن الدين كان - ولا يزال - جزءا من لعبة القوة ومن أدوات اجتيازها والإمساك بمفاتيحها. وضمن هذا السياق، فإن ثمة علاقة طردية بين تصورٍ بعينه للدين وبين حجم القوة التى يوفرها للقائمين على توظيفه سياسياً، وأعنى أنه كلما كان الدين حرفياً وقطعياً يكون مقدار القوة التى يقدمها لهؤلاء الساعين إلى التخفى وراءه أكبر - بما لا يُقاس - من تلك التى يوفرها لهم حين يكون موضوعاً لتفكير مفتوح. ويرتبط ذلك بحقيقة أن "قطعية الدين وحرفيته" تكون هى الأكثر مثالية فى إخضاع الجمهور وقهره، وأعنى من حيث لا يكون متاحاً له، فى إطارها، إلا محض التسليم والامتثال من دون جدلٍ أو سؤال. وإذ يقوم دعاة الإسلام السياسى بتثبيت هذا التصور القطعى للدين على أحد المفاهيم الشائعة المستقرة فى وعى الجمهور، وهو مفهوم "القطعى الثبوت والدلالة"، فإنه يلزم التنويه بما يقوم عليه هذا المفهوم من مراوغة تسوية "قطعية الثبوت" مع "قطعية الدلالة"، وذلك فيما ينتمى "الثبوت" إلى مجال التاريخ الذى يغاير بالكلية مجال المعنى الذى تنتمى إليه "الدلالة". وبالطبع فإنه لا يمكن التسوية أبدا بين ما ينتمى إلى مجال "الثبوت التاريخي"، وبين ما ينتمى إلى مجال "المعنى الدلالي"، وبمعنى أنه فى حين أن أحدا لا يجادل فى يقينية "ثبوت" القرآن، وبما يعنيه ذلك من إمكان - بل وجوب - التأكيد على "قطعية" ثبوته، فإنه لا يمكن القول بقطعية دلالته ومعناه، لأن ذلك يعنى وجوب القول بأحادية الدلالة والمعني، وهو ما لا يمكن لمسلم أن يقبله بخصوص القرآن. 

وعلى العكس من هذا التصور القطعى للدين، فإن تصوره موضوعاً لتفكير مفتوح إنما تجعل منه إحدى الساحات التى تنفتح أمام الفرد لتأكيد قدرته على التفكير الفاعل المستقل. وبحسب ذلك، فإنه فيما يتيح التصور القطعى للدين للسلطة أن تهيمن على المجال العام، وتتحكم فيه بالكليّة، فإن الأثر الذى يؤدى إليه التصور المفتوح للدين - فى المقابل - لا يقف عند حد حرمانها من هذا الامتياز فحسب، بل ويئول إلى جعلها موضوعاً للتحكّم والضبط من جانب الأفراد. ولعله يلزم الوعي، فى هذا السياق، بجدلية العلاقة بين تصور الدين "حرفيا وقطعيا" من جهة، وبين الطبيعة الاستبدادية التسلطية للسلطة من جهة أخري، وبمعنى أن العلاقة بينهما لا تمضى فى اتجاهٍ واحد، بل إن الواحد منهما يحدد الآخر، ويتحدد به فى الآن نفسه. 

وإذ يعنى ذلك أن "قطعية الدين وحرفيته" إنما تؤسس للاستبداد، بذات القدر الذى يؤسس به - هو أيضاً - لها، فإن ذلك ما انشغل به، وأفاض فى بيانه، رجل الإصلاح وداعيته الكبير عبدالرحمن الكواكبي. فقد مضى الرجل يفضح الطريقة التى يسطو من خلالها المستبد على الدين ويحيله إلى مطية لطغيانه واستبداده، سواء كان ذلك من خلال اتخاذه لنفسه "صفة قدسية يتشارك بها مع الله، أو تعطيه مقاما ذا علاقة مع الله، أو يتخذ بطانة من أهل الدين المستبدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله". وبالطبع فإن هذا الامتطاء للدين، من جانب المستبد، هو ما كان لابد أن يجعل منه مجرد زخارف ورسوم شكلية خارجية، وبحيث يتحول إلى ما يشبه الدواء المهدئ الذى تتعاطاه جماهير يائسة محبطة، لتتعزى به عما تعانيه من الاستبداد والقهر، ويفقد دوره الجوهرى فى تنوير الإنسان وتحريره بالأساس، وبما يعنيه ذلك من التأكيد على دور المستبد فى تفريغ الدين من مضمونه وتحويله إلى مجرد شكل فارغ. 

ولقد كان الكواكبى هو من كشف، ببراعة، عن الكيفية التى ينتج بها الاستبداد "التنطع" فى الدين الذى هو علامة خوائه وصوريته. فقد مضى إلى إن "المستبدين قد سطوا على الدين واتخذوه وسيلة لتفريق الكلمة وتقسيم الأمة شيعاً، وجعلوه آلة لأهوائهم، فضيعوه وضيعوا أهله بالتفريع والتوسيع والتشديد والتشويش وإدخال ما ليس منه فيه كما فعل أصحاب الأديان السائرة، حتى جعلوه دينا لا يقوى أحد ممن يتوهم أن كل ما دونه هو منه على القيام بواجباته وآدابه ومزايداته التى صارت تشتبه مراتبها على العام والخاص. وبذلك انفتح باب التلّوم على النفس واعتقاد التقصير المطلق، وأن لا نجاة ولا مخرج، ولا إمكان لمحاسبة النفس. وهذه الحال تصغر النفس وتخفت الصوت وتمنع الجسارة على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر المنوط بها قيام الدين وقيام النظام والعدل. وهذا الإهمال للمراقبة والسيطرة والمؤاخذة والسؤال أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود. 


تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 27 / يونيـــــــــــو / 2013


الخميس، يونيو 13، 2013

مصلحة الإنسان وصلاح الحكم





يتميز القرآن - ككل النصوص الكبرى التى لا تكف عن الإشعاع والوميض على مرِّ الأزمان - بكونه ساحة التقاء بين "التاريخى" بتحديداته الجزئية، وبين "المُتجاوز" بشموله وكليته. 
وإذا جاز القول بأن التأسيسى فى القرآن يتمثَّل فى هذا "المتجاوز" الذى يحيل إلى عالم القيم والمعانى الإنسانية الكبري، فإن الإجرائى فيه يكون هو جملة التحديدات الجزئية التى تتحقق هذه القيم والمعاني، من خلالها، فى لحظة بعينها.
 ولابد أن يكون مفهوماً أن الأمر، فيما يختص بالعلاقة بين التأسيسى (الكلي) والإجرائى (الجزئي) لا يتعلق بثنائية جامدة، يقف كل طرف منها بمعزلٍ عن الآخر، بقدر ما يتعلق بحقيقة واحدة يكون "التأسيسي" هو جوهرها الذى يدخل "الإجرائي" فى تركيبها، ولكن من دون أن يكون قادراً على استنفادها. فإن هذا "التأسيسي" المتجاوز يكون - وعلى نحوٍ ما - أشبه بالحقيقة العلمية التى هي، بدورها، تركيبٌ يتنامي، فى التاريخ، عبر تصحيحه المستمر لنفسه، ولكن من دون أن يكون هذا التاريخ قادراً على استنفادها بالمثل، وإلا فإن ذلك يؤشر على ما لا يمكن تصوره، بالعقل، من "نهاية العلم".
وفقط فإن الفارق بينهما يتأتى من أنه فيما تكتمل الحقيقة العلمية فى "الوعي"، وليس فى "الوجود"، لأنها تكون - طوال الوقت وبصرف النظر عن الوعى بها - قائمة فى الوجود وضابطه لظواهره على نحو فعلى، فإن التأسيسى المتجاوز فى القرآن (والمجال الإنسانى على العموم)، يكتمل فى (الوجود)، وليس فى (الوعي)، لأن هناك من القرائن ما يقطع بأن هذا التأسيسى المتجاوز (قيمةً ومعني)، قد كان - ومنذ أقدم العصور - حاضراً فى (الوعي)، ولو بوصفه مثلاً أعلى يرنو إليه البشر، ولكن تحققه لم يكتمل فى (الوجود) فى أى لحظة من التاريخ. إنه - هكذا - أقرب إلى القيمة أو المعنى الكلى الذى يمتص كل تحققاته الجزئية داخله، ومن دون أن تكون تلك التحققات قادرة على اقتناصه واستيعابه فى واحدة منها، وإلا فإنها ستكون "نهاية القيمة أو المعني".
 وإذن فإنه التباين بين "انفتاح" القيمة أو المعني، وبين "محدودية" شكل تحققها. وبالرغم من هذه "المحدودية" لأشكال تحقق القيمة أو المعني، فإنه يمكن القول إن كل واحدٍ منها يمثل، فى تحقيقه لهذه القيمة أو المعني، درجة أعلى من تلك التى يكون سابقه عليها. ويعنى ذلك، وعلى نحو مباشر، إمكان القول بأن "مصلحة الإنسان وصلاحه" هى أحد مبادئ القرآن التأسيسية، وأما المضمون الذى يتحقق من خلاله هذا المبدأ فى لحظة بعينها، فإنه يكون هو الحد "الإجرائي" المحقق لها فى تلك اللحظة. 
وبالطبع فإنه إذا كان الوحى هو بمثابة إحضار للقيمة، المعني، المصلحة، كمبادئ تأسيسيةٍ كبري، إلى واقع مجتمعات بشرية، لم تكن لتقدر على بلوغها بجهدها الخاص، فإنه كان لابد أن يجرى تنزيل هذه المبادئ التأسيسية فى واقع حياتها، ضمن شروط اللحظة التى تعيش فيها، وإلا فإن تنزيلها خارج تلك الشروط كان يمكن أن يترتب عليه رفض فعل الوحى بالكلية. ومن هنا ما يمكن القول إنها مراوحة الوحى وحركيته بين "المبدأ التأسيسى المتجاوز" من جهة، وبين "التحديد الإجرائى المتعيّن" الذى يتحقق، هذا المبدأ، من خلاله فى واقع بشرٍ بعينهم، وفى إطار لحظة بعينها، من جهة أخري. فإنه ليس خطابا بهذا المبدأ فى "المطلق"، بقدر ما هو خطابٌ به فى الواقع "المتعيِّن"، أى إلى بشر محددين، وفى لحظة تاريخيةٍ بعينها. وبالطبع فإنه يبقي - ضمن هذه المراوحة - أن "الحد الإجرائي" - الذى يتحقق من خلاله "المبدأ التأسيسي"، إنما يكون "موضوعا" من أجل تحقيق القيمة المرتبطة بهذا المبدأ، فى تلك اللحظة بعينها، وليس على نحو نهائى مطلق. وإذ يعنى ذلك أنه يتحقق فى ارتباطٍ حاسم مع "التاريخ"، فإن صرامة هذا الارتباط تبلغ حد أنه قد يتحوَّل فى لحظة مغايرة، لتلك التى تبلور فيها، إلى عائقٍ يحول دون تحقيق "المبدأ التأسيسى المتجاوز" الذى يقف وراءه.

ومن هنا ما توافق عليه أهل التفسير والأصول من النسخ فى القرآن، الذى لا يعنى شيئاً إلا أن حضور وصلاح الحكم (وهو الحد الإجرائى المحقق للمبدأ التأسيسى أو القصد) يكون مرتبطاً بوقتٍ بعينه. فإن رفع الحكم، ليحل محله غيره (وهو معنى النسخ)، لا يعنى إلا أنه قد استحال إلى عائق يحول دون تحقيق المبدأ أو القصد الذى يقوم خلفه، ولذا وجب رفعه لأنه لم يعد صالحا فى لحظة مغايرة لتلك التى تنزَّل فيها. وحين يلاحظ المرء قصر المدة الزمنية التى كان يتحقق ضمنها.

ولقد كان ربط صلاح الحكم بالوقت هو أداة الفخر الرازى فى الفرار من مأزق نسبة النقص إلى الله، فإنه "إن قيل: لو كان (الحكم) الثانى (الناسخ)، أصلح من الأول (المنسوخ)، لكان الأول ناقص الصلاح، فكيف أمر الله به؟ قلنا: الأول أصلح من الثانى بالنسبة للوقت الأول، والثانى بالعكس". إن الصلاح هنا هو المبدأ التأسيسي، وأما الحكم الذى يتحقق من خلاله هذا الصلاح، فهو الحد الإجرائي، وبحسب تقرير الرازى فإن الحكم، أو الحد الإجرائى المحقق للصلاح، قد يتحول فى غير وقته إلى عائقٍ يُمتنع معه تحقيق الصلاح، فيلزم رفعه بالنسخ.
 الغريب، هنا، أن تجربة الجيل الأول من المسلمين تشير إلى حقيقة أنهم - ورغم انقطاع الوحي - قد رفعوا من الأحكام، ما أدركوا فيه حائلاً يمنع تحقيق الصلاح، وكان ذلك استناداً إلى وعيهم العميق بالمنطق الذى يحكم علاقة كلٍ من الوحى والعقل والواقع. ولعله يلزم الإشارة، هنا، إلى ما جرى بخصوص الأحكام المتعلقة بسهم المؤلفة قلوبهم، وتوزيع الغنائم على الجند الفاتحين، والحد المفروض على شارب الخمر وغيرها مما أدرك فيه الصحابة أن صلاحه مرتبطٌ بوقت تنزيله، وأن شروط صلاحه قد ارتفعت، ولم تعد قائمة.

فهل يقدر حمقى هذا الزمان الحكمة من وراء ذلك فيميزون بين التأسيسى والإجرائى فى القرآن؟. 

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 13 / يونيــــو / 2013

الخميس، مايو 30، 2013

العنف بين نيات الأفراد ومنطق الخطاب




من الطبيعى أن يكون الصعود الملحوظ لخطاب تديين السياسة، فى مصر وغيرها، قد أعطى دفعة معنوية هائلة لجميع الفيالق المنضوية تحت راياته التى بدأت ترفرف خفَّاقة، وذلك بالرغم من كل ما يقوم بين فصائلها من تباينات تطال التصور ومنهج العمل. 
فقد اندفع الجميع يعملون على تحقيق الغاية القصوى للخطاب
(التى هى تديين السياسة) بطرائق فى الاشتغال تتراوح بين التطرف والاعتدال.
وهنا يلزم التنويه بأنه إذا كان التطرف والاعتدال هما محض طريقتين فى الاشتغال يتسع لهما الخطاب، فإن ذلك يعنى أنهما من قبيل العارض الذى لا يؤثر فى حضور المشتغلين بهما معاً تحت مظلة ذات الخطاب الواحد. وبعبارة أخرى، فإن الفارق بينهما يتعلق بمحض "الإجرائى" السطحى، وليس "بالبنيوى" العميق، أو أنه من قبيل الفارق فى الدرجة، وليس النوع. وتبعاً لذلك، فإنه لن يكون بمقدور أحد التبرؤ من العنف الواقع تحت مظلة هذا الخطاب، باعتبار أنه مجرد ممارسة منحرفة لأفرادٍ غير أسوياء، لأن هذا العنف - فى حقيقته - لا يتعلق، فحسب، بما يقصد إليه الأفراد، بل يرتبط - وهو الأهم - بضرورات منطق الخطاب. ولسوء الحظ، فإن "العنف" - فى كل أشكاله الناعمة والدامية - يكاد أن يكون أحد أهم المآلات التى لابد أن ينتهى إليها الخطاب الرامى إلى تديين السياسة. ويتفرع ذلك عن حقيقة أن التفكير فى السياسة أو ممارستها بالدين، يحيلها إلى جملة "مطلقات" سوف يجد البعض أن لا سبيل لتسكينها فى الواقع - على فرض إمكان ذلك - إلا بالإكراه والقسر. وعلى الدوام، فإنه يبقى أن العبرة هى بالمصائر والمآلات (التى تقتضيها أنظمة الخطابات)، وليست بالمقاصد والنيات (التى تسكن نفوس الأفراد).
فقد يقصد الواحد من دعاة تديين السياسة، واعياً، إلى جعل قوله ساحة لصوت الاعتدال، ولكن منطق الخطاب يأبى إلا أن يجعل صوت "التطرف"، المُراد إسكاته، ينطق فى قوله. ولعل مثالاً لذلك يأتى من تحليل أحد وجوه خطاب الإسلام السياسى المتمحور حول مفهوم "أستاذية العالم". فرغم السعى إلى ربط هذا الوجه للخطاب برموز الاعتدال والمسالمة، فإن ذلك لا يقدر على زحزحة الحضور الراسخ لرمز التشدد والمفاصلة، الذى هو الأستاذ سيد قطب صاحب التنظير الأوفى لخطاب "الأستاذية على العالم"، وإلى الحد الذى تكاد معه أن تكون مركزاً لخطابه كله. وهكذا، فإنه وابتداء من أن المنطق الكامن لأى خطاب قد يجد تعبيره الأجلى والأنقى عند أحد المشتغلين فى حقله، بأكثر مما يجده عند آخر، فإنه يبدو أن الإطار الذى كان قطب يفكر داخله، على مدى الخمسينيات والستينيات، قد أتاح له أن يكون هو صاحب التعبير الأصفى عن هذا الخطاب.

 ولسوء الحظ، فإنه يبقى أن ما ينبنى عليه هذا الخطاب لا يسمح له - مهما اختلفت أشكال التعبير عنه - إلا بأن يكون ساحة إقصاء وتنابذ، وليس فضاء حوارٍ وتواصل. ويرتبط ذلك بحقيقة أن مفهوم "أستاذية العالم" يحيل إلى عالمٍ هيراركى تتراتب فيه العلاقات من الأعلى فرضاً على الأدنى، وبما يعنيه ذلك من قيام العلاقات بين الناس فى الواقع على أن هناك طرفاً فى الأعلى هو الأستاذ الذى له أن يفرض هيمنته على الطرف الجاهل فى الأدنى. ولكن ما الذى سيحقق به هذا الأستاذ أستاذيته على العالم؟ يأتى الجواب - عن السؤال - حاسماً من الأستاذ قطب الذى مضى فى كتابه "معالم فى الطريق" إلى تقرير: "إن هذه الأمة لا تملك الآن - وليس مطلوباً منها - أن تقدم للبشرية تقدماً خارقاً فى الإبداع المادي، يحنى لها الرقاب، ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية. فالعبقرية الأوروبية قد سبقتها فى هذا المضمار سبقاً واسعاً.

 وليس من المنتظر - خلال عدة قرون على الأقل - التفوق المادى عليها!. فلابد إذن من مؤهل آخر لقيادة البشرية، غير الإبداع المادي، ولن يكون هذا المؤهل سوى العقيدة والمنهج". وحين يدرك المرء أنه ليس ثمة من مجال للإبداع فيما يخص هذا المؤهل البديل، حيث إنه "لابد فيه - على قول قطب - من التلقى عن الله"، فإن ذلك يعنى أن أستاذية المسلمين للعالم لا ترتبط بشئٍ أنتجوه (من الإبداع المادى أو الروحي)، بقدر ما تتعلق بالسعى لإخضاع العالم (طوعاً أو قسراً) لما يتصورون أنه المنهج الذى تلقُّوه عن الله. وإذن فإنها الأستاذية لا ترتبط بما ينتجه الناس على الأرض، بل بالمعطى لهم من السماء، وبما يعنيه ذلك من أنها ستكون عملاً من أعمال المشيئة العليا التى لا اختيار للناس معها، بل يلزم فرضها عليهم.

 ولعل الدليل على الطابع الإخضاعى لتلك الأستاذية يتآتى من تعيين الأستاذ "قطب" لنقيضها على أنه "الجاهلية"، حيث إنه لا سبيل لمن يتمرغون فى بؤس الجاهلية، إلا الخضوع لسادتهم الأعلين، من الذين يترقون فى معارج الأستاذية. وإذا كانت الجاهلية تتعين، عند قطب، بما هى "إسناد الحاكمية للبشر"، فإن الأستاذية لابد - وبمنطق المخالفة - أن تتعين بما هى "إسناد الحاكمية لله"، وبما يعنيه ذلك من أن "قطب" يعيِّن طرفى الصراع فى "حاكمية الله" فى الأعلى، و"حاكمية البشر" فى الأدنى، وبكيفية لا مجال فيها إلا لإخضاع الأدنى لسيادة وهيمنة الأعلى.وحين يدرك المرء أن خطاب الأستاذية سوف ينتهى به، على هذا النحو، إلى فكرة "الحاكمية الإلهية"، بكل ما تؤدى إليه من ضروب الإقصاء والعنف (اللفظى والمعنوي) سواء بين المسلمين وغيرهم، أو بينهم وبين أنفسهم، فإن له أن يقطع بأن العنف، هنا، ليس محصلة انحراف أفراد، بقدر ما هو من لوازم الخطاب.
وتبعاً لذلك، فإنه ليس لأحدٍ من الخاطبين فى ليل خطاب تديين السياسة - الذى تتعالى راياته فى العالم العربى الآن - أن يعتذر بسلامة النيِّة والمقصد عما تئول إليه ضرورات منطق الخطاب، وذلك ابتداءً من أن مقصد الفرد هو ما يخضع لتوجيه منطق الخطاب، وليس العكس.

 وبالطبع فإنه إذا كان التعويل على النيِّة والقصد يتعلق بتحديد المسئولية (فى شقيها الجنائى والسياسي) عن حدثٍ ما، فإن الأمر، فى هذا التحليل، يتعلق بتعيين المسئولية المنطقية والخِطابية عنه، إذا جاز التعبير. ومن هنا أن مسئولية العنف تقع على كاهل الخطاب، وبما يعنيه ذلك من المسئولية التبعية لحامليه بصرف النظر عما تطويه نياتهم ومقاصدهم. 

تم النشر بجريدة الأهرام بتاريخ 30/ مايـــــو/ 2013