الأحد، أبريل 01، 2007

الاستبداد بين الدين والسياسة

undefined 

تكاد السياسة أن تشكل الفضاء الذى إنشغل العرب، منذ مطالع ما يسمى بعصر حداثتهم، بالبحث داخله عن إجابات لأسئلة نهضتهم المتعثرة حتى الآن وإلى حد يمكن معه القطع بالطبيعة السياسية- وليس السياسية ـ للخطاب العربى الحديث. ولعل السياسية، بما تحمله من دلالة مبتذلة، تتآتى من إعتبار أن السياسة هى الإطار التفسيرى الأوحد، الذى يستحيل- بحسب مفكرى النهضة- إلتماس الجواب على أى سؤال أو إشكال خارجه. ومن هنا ما يبدو من "الإتفاق بينهم على إعتبار تفوق الغرب راجعا أساسا إلى نظامه السياسى الضامن للحرية، والمقيد للسلطة بالقانون، وأن تأخر الشرق بما فيه البلاد الإسلامية راجع أيضا إلى طبيعة نظامه السياسى القائم على الإستبداد. إن هذا الموقف يصدق على الفكر الإصلاحى العربى والإسلامى عموما، سواء ذلك الذى قام بإسم السلفية، أو ذلك الذى أراد أن يكون ليبراليا. هنا يلتقى لطفى السيد مع علال الفاسى، كما يلتقى محمد عبده مع خير الدين التونسى". والحق أن سياسية الخطاب العربى الحديث لا تقف عند حدود هيمنة المضمون السياسى على أجوبته لأسئلة النهضة وإلى حد الإشارة إلى إن الا المقالة السياسية تكاد تختصر تاريخه " على حد قول أحدهم، بل وتتجاوز إلى السطوة الطاغية لآلية القراءة بالسياسة على فضاء الخطاب بأسره وهى القراءة التى أعجزته كليا عن الإنتاج الحق لأى من مفاهيم النهضة ومفرداتها، وذلك إبتداء من إختزالها الكامل لموضوعها فى السياسة. وعلى أى الأحوال فإنه يبقى أن هذه القراءة بالسياسة وعبرها، إنما ترتبط، على نحو جوهرى، بالظروف التى أحاطت بإنبثاق النهضة، لا كعملية تاريخية يشتغل فيها الوعى كفعالية حرة غير مشروطة إلا بما يحددها ضمن سياقها الخاص، بل جاء تبلورها ضمن سياق تصادمى أجبر فيه الوعى على الإشتغال على نحو إكراهى وقسرى.
وإذا كان سؤال النهضة: "لماذا تخلف المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم" الذى يكاد تاريخ إنشغال العرب به أن يكمل الآن دورة القرنين تقريبا، قد راح ينقلب إبتداء من هذه السياسية الكامنة للخطاب- وكذا بحسب كيفية لقاء العرب مع "غيرهم المتقدم"، وقراءتهم لما أنتج به تقدمه- إلى سؤال السياسة:" كيف السبيل إلى تجاوز الإستبداد، فإن سؤال السياسة، أو سؤال الإستبداد بالأحرى، قد تحدد- وكان ذلك منطقيا على أى حال- بكيفية سياسية، أو بالأحرى سياسية أيضا وهكذا وعبر ما يبدو وكأنه مجرد الإبدال اللغوى لمفردات المأثور المشهور "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" - تحدد جواب العرب على سؤال الإستبداد بأنه لا يصلح أخر هذه الأمة إلا بما صلح به غيرها" وبما يعنيه ذلك من أنه "لا تجاوز للإستبداد (الراسخ عندهم) إلا بما تجاوزه به غيرهم". والحق أن حضور المأثور السلفى، ضمن هذه القراءة، ليس حضورا شكليا أبدا، بل إنه يكاد يحدد نظام هذه القراءة العميق كليا. فإذ لم تنبثق النهضة - حسب ما سبق الإلماح- كعملية تاريخية تتبلور ضمن شروط غير مفروضة عليها من الخارج، بل تبلورت كنتاج للإصطدام بين عالمين ينتميان إلى أزمنة متباينة (تاريخيا وثقافيا)، على نحو لم يكن للوعى معه أن يدرك واقع فواته وتخلفه إلا "قياسا". على تقدم الآخر فإن ذلك كان لابد أن يدفع الوعى إلى أن يجرد، على طريقة أسلافه الفقهاء، علة تقدم الآخر فى مقابل تخلفه. وهكذا راح الوعى بنظامه الفقهى فى التفكير- الذى لم يعرف غيره آنذاك، والذى يبدو لسوء الحظ أنه لم يتحرر منه للآن- يحيل الحداثة إلى نموذج أو أصل، ساعيا إلى تجريد العلة المؤسسة لحداثته، ليتسنى له بعد هذا التجريد، على طريقة الفقهاء، أن يستوفيها فى واقعه (الذى هو فرع)، فيكسبه بذلك حداثة الأصل (الذى هو- بالطبع- الغرب). ولسوء الحظ، فإن ما راح يجرده ذلك الوعى الفقهى كعلة مؤسسة ومنتجة للحداثة، لم يكن أبدا إلا محض جوانبها الإجرائية والشكلية التى لا ترتقى أبدا إلى مقام العلة المؤسسة والمنتجة، بقدر ما تصلح أن تكون نتاجا للحداثة ومعلولا لها. إن المفارقة هنا تتآتى من أن معلول الحداثة ونتاجها قد جرى إعتباره علة لها. ولأنه كان مطلوبا نهيما يبدو من هذا المعلول أو النتاج للحداثة أن يتكفل بإنتاجها فإنه لم يكن غريبا أن يكون الإخفاق هو مآل مشروع الحداثة العربى، وذلك مع التحفظ بأن الإخفاق هنا لايتعلق بفشل الحداثة فى ذاتها، بقدر ما يتعلق بالخلل الكامن فى كيفية إشتغال الوعى عليها ومقاربته لها. وهو الخلل المرتبط بحقيقة أن نظام القراءة العربية للحداثة قد تحدد ضمن أفق تراثى خالص وأعنى من حيث أنه إنبنى بحسب آلية المقايسة الفقهية، التى سادت فضاء التراث كليا.
ولعل فى هذه المفارقة، أعنى مفارقة السعى إلى مقاربة "الحداثى" بحسب قراءة تجد ما يؤسس نظامها الأعمق فى "التراثى"، تلخيصا للمأزق المهيمن على فضاء الخطاب العربى الحديث بأسره، وأعنى به مأزق المجاورة بين ما ينتمى إلى أنظمة ثقافية ومعرفية متباينة، بل وحتى متناقضة. وهنا يلزم التنويه بأن هيمنة " التراثى" على نظام هذه القراءة "للحداثى"، قد يسرت، أو لعلها آلت إلى، الإنبناء السياسى للخطاب وأعنى من حيث إنها لم تتمخض إلا عن مقاربات شكلية، بل ومغلوطة على نحو كامل، لأسئلة التقدم والنهضة. فقد راح العرب، فيما يبدو وكأنه الوجه الذى تعرفوا منه على أوروبا جيشا وأسطولا ومصنعا وتنظيما، يقرأون شرط تقدم هذه الأوروبا فى "السياسى"، فيما ظل " الثقافى" مهملا فى الهامش، وذلك بالرغم من مركزية دوره لا فى مجرد خلخلة السائد والمستقر من المواريث المتكلسة لعصر ما قبل الحداثة، بل وفى إبداع المفاهيم التى تؤسس لهذا الوجه السياسى، وإلى حد إستحالة إنبثاقه من دون إشتغالها تحته. وهكذا فرغم أن السياسى يكون هو الأسبق إشتغالا عند السطح، فإن الثقافى يكون هو الأسبق إشتغالا فى العمق. وبالطبع فإن ذلك لا يحيل إلى أى أولية أنطولوجية للعمق على السطح أو العكس حيث الواحد منهما يحدد الآخر ويتحدد به فى ان معا. وفقط يتعلق الأمر بأن مقاربة الواحد منهما هى مما يستحيل تماما من دون الوعى بإشتغال الآخر تحته، أو فوقه. وإذ يحيل ذلك إلى إستحالة مقاربة السياسى من دون الوعى بجوهرية إشتغال الثقافى تحته، فإن العرب، وكنتيجة لقراءتهم شرط تقدم أوروبا فى السياسى، لم يعرفوا إلا أن يقرأوا شروط نهضتهم فى السياسى كذلك. ولسوء الحظ، فإنه كان السياسى فى أكثر صوره بؤسا وتفاهة وأعنى من حيث أن الإنشغال، ضمنه، لم يتجاوز حدود السعى إلى الإستنساخ الفقير لهياكل وتنظيمات شكلية ووثائق براقة لامعة، لم تفعل إلا أن أمدت الإستبداد بما راح يزخرف به وجهه الكالح.
فإذ تراءى للعرب ع ن هذا الذى تجاوز به غيرهم الإستبداد إنما يقوم- على قول خير الدين باشا التونسى- فيما عرفه هذا الغير من "التنظيمات المؤسسة على العدل، ومعرفتها باحترامها من رجالها المباشرين لها"، فإنهم قد إنخرطوا فى عملية إصطناع للتنظيمات والمؤسسات، وبما يجرى تداوله فى فضائها من مفردات تنتمى إلى زمان ثقافى مغاير للزمان الثقافى الذى كان يعيشه العرب، ولا يزالون. ومن هنا فان هذا الذى "تجاوز به غير (العرب) الإستبداد" لم يتمخض عندهم (أى عند العرب) عن نفس ما أنتجه من التجاوز عند هذا الغير (الذين هم الأوروبيون بالطبع). ومن هنا فانه إذا كان العالم العربى قد شهد، إبتداء من النصف الثانى للقرن التاسع عشر، تجارب حزبية وبرلمانية متفاوتة القيمة والآثير، فإنه يلاحظ أن هذه التجارب- وتحت وطأة الضغوط المزدوجة للخارج (إحتلالا وهيمنة)، وللداخل (إنقساما وتشرذما طبقيا وإجتماعيا حادا)- قد إنحسرت تماما عند منتصف القرن الفائت، حين شهد العالم العربى موجة من الإنقلابات العسكرية التى كتبت النهاية الحزينة لهذه التجارب، وأعلنت عودة الإستبداد صريحا لا يكذب، رغم أن البعض قد راح يزخرفه بأنه قد عاد مستنيرا وعادلا هذه المرة، ربما بسبب ما كان يتجمل به أنئذ من أصباغ الإشتراكية ومساحيق العدالة.
لقد بدا إذن أن التنظيمات، التى إصطنعتها فيالق الليبراليين العرب على مدى القرن منذ منتصف القرن التاسع عشر تقريبا، ليس فيها الإبراء من الإستبداد. بل إن الإستبداد- وللمفارقةـ قد أدرك، مع عودته الظافرة عند منتصف القرن العشرين، ضرورة أن تكون له تنظيماته، بعد أن تحقق من إستحالة العيش دونها فراح يصطنع تنظيمات لم يزل بعضها يقاوم عاديات الزمان لحى، وذلك من قبيل الجبهات القومية والهيئات القطرية، التى تصر- متسربلة فى نفس أرديتها البالية المرقعة- على المزاحمة فى عصر لم يعد يتسع لها، وبعضها راح ينحل- نزولا على رغبة المستبد فى أن يراه السادة فى الغرب ديمقراطيا، فيكفوا عنه ضغطهم- إلى أحزاب، يمارس أحدها الإستبداد فى الحكم، وأخرى تمارسه فى المعارضة.
وإذا تبدى، هكذا، أن غمة الإستبداد لم ترتفع، عن كاهل الأمة، بالتنظيمات وبما يحيل إليه ذلك من بؤس مقاربته "سياسيا"، فإن ذلك يعنى أن أى سعى جدى لمجاوزة حقة لمعضلة الإستبداد المستعصية، لابد أن يتبلور ضمن سياق مقاربة من نوع مغاير والتى لن تكون إلا مقاربته "ثقافيا"، ولكن من غير أن يعنى ذلك تعطيل الإشتغال السياسى عليه. حيث الأمر لا يتعلق بما هو أكثر من ضرورة أن يجد هذا الإشتغال السياسى ما يؤسسه، ويجعله منتجا، وذلك بعد أن شهدت تجربة قرنين من حضوره على الساحة منفردا أنه لم يتمخض إلا عن الأزمة تأخذ بخناق عالم العرب، ولا شئ سواها تقريبا. وضمن سياق هذه المقاربة التى لا يشتغل فيها آى من الثقافى أو السياسى، على ساحة الخطاب، منفردا، فإن معضلة العلاقة بين الدينى والسياسى تكاد تنفرد بوضع بالغ الخصوصية، لا من حيث الدور المركزى للدينى فى بناء الثقافة العربية، بل ومن حيث ما يتبدى من أن العجز عن تصور الطبيعة الحقة للعلاقة بينهما، لا يمكن أن يسمح بتفكيك حقيقى لمعضلة الإستبداد.
ولعل قصور الوعى عن إكتناه الطبيعة الحقة للعلاقة بين الدينى والسياسى، يظهر بجلاء فيما أدت إليه القراءة بالسياسة وعبرها، للمفاهيم- التى لم يعرف العرب سواها- من أنه إذا كان مسار التقدم فى أوروبا قد إرتبط بكيفية فى الفصل بين الدينى والسياسى، فإنه ليس أمام العرب، فى سعيهم إلى قطع نفس المسار، إلا أن يحققوا نفس الفصل أيضا وبما يعنيه ذلك من أن وحدة المعلول (الذى هو التقدم) لابد أن تحيل إلى وحدة العلة (التى هى الفصل بين الدينى والسياسى) بالمثل. والحق أن هذا المبدأ الأخير أعنى مبدأ وحدة المعلول تعنى وحدة العلة، الذى يؤسس لربط التقدم (كمعلول) بالفصل بين الدينى والسياسى (كعلة) يكاد أن يكون مغلوطا على نحو كامل وأعنى من حيث ينبنى كليا على خط بحيث جعل ما ينبغى أن يكون المقدمة (أو وحدة العلة التى هى هنا الفصل بين الدينى والسياسى) يأتى كنتيجة من جهة، وجعل ما ينبغى أن يكون النتيجة (وهو التقدم) يأتى كمقدمة من جهة أخرى. ولعل مأزق هذه البنية يتأتى من حقيقة أن وحدة العلة قد تؤول إلى وحدة المعلول، فإنه نهى المقابل- لا يمكن أن وحدة المعلول تعنى وحدة العلة، لأن المعلول الواحد قد ينشأ عن علتين متغايرتين وخصوصا حين يتعلق التحليل بما يجاوز المجال "الطبيعى" إلى المجال التاريخى والإنسانى. وهكذا فإن الإلحاح على أن الفصل بين الدينى والسياسى هو علة التقدم وأصله، إنما يقوم كاملا على مبدأ مغلوط يستحق التفنيد والمراجعة. والحق أن حضور هذا المبدأ المغلوط فى بناء الخطاب العربى إنما يرتبط بما ييسره له هذا المبدأ من إجراء المماثلات التى لا يعرف هذا الخطاب، فى إشتغاله الراهن، سواها والتى جعلته يتعامى نهى هذا السياق- عن التباين بين تجربة الدينى والسياسى، وطبيعة وترتيب العلاقة بينهما، فى عالم العرب عنها فى عالم الغرب.
إذ الحق أن السياسى لم يستقل بمجال إشتغال خاص عن الدينى فى التجربة التاريخية للإسلام، بل إنه راح ينبنى داخله ويتجذر فى قلبه منذ لحظة التأسيس المبكرة الأولى. ومن هنا ما يبدو من تصور المرء فى الإسلام- أنه يسلك بحسب ضرورات "الدينى" وفروضه، فيما هو يسلك حقا تبعا لقواعد "السياسى" المتقنع بالدينى والمتخفى فى قلبه. وهنا تكمن المعضلة التى تتعصى على الإنفراج فى عالم الإسلام وأعنى معضلة صعوبة التمييز فيه بين الدينى والسياسى، والتى تتآتى إبتداء من عدم إختصاص الواحد منهما بمجال خاص يشتغل داخل حدوده، وذلك على العكس من إختصاص كل منهما بمجال يخصه فى عالم المسيحية الأمر الذى جعل، لا مجرد التمييز، بل الفصل بينهما ممكنا. والحق أنه إذا كان يصعب الحديث، فى تجربة الإسلام، عن فصل الدينى عن السياسى فيه، وذلك إبتداء من إلتباس الواحد منهما بالآخر على نحو كامل، فذلك يبرر السعى إلى ضرورة التمييز بينهما من جهة، وترتيب منطق ونظام العلاقة بينهما من جهة أخرى.
فقد إكتمل تشكل "الدينى" فى المسيحية فى إنفصال كامل عن مجال إشتغال السياسى، الذى لم تتصل به المسيحية إلا بعد قرون من إكتمال تشكل الدينى فيها. ومن هنا فان السياسى لم يتجذر، فى المسيحية، فى قلب الدينى، بل ظل كل واحد منهما قابلا للإستقلال بمجال خاص. فقد إرتبط تحول الدولة الرومانية، مع الإمبراطور قسطنطين، إلى المسيحية بالسعى إلى توظيف هذا الدين لخدمة أهداف سياسية يعكسها ما كان الإمبراطورـ بحسب أحد مؤرخى الحضارة الكبار ـ "ايرجو من أن يطهر هذا الدين الجديد أخلاق الرومان، ويعيد إلى نظام الزواج والأسرة ما كان له من شأن قديم، ويخفف من حدة حرب الطبقات. واذ يضاف إلى ذلك أن المسيحيين كانوا قلما يخرجون على الدولة رغم ما لاقوه من ضروب الإضطهاد الشديد، لأن معلميهم قد غرسوا فى نفوسهم واجب الخضوع للسلطات المدنية، ولقنوهم حق الملوك المقدس، فإن ذلك ما بدا ملائما تماما لنزوع قسطنطين، إلى أن يكون ملكا مطلق السلطان. وبالطبع فإن هذا النوع من الحكم المطلق إنما يفيد لا محالة من تأييد الدين، وخصوصا حين ينشغل هذا الدين بترسيخ سيكولوجيا الخضوع والطاعة. وهكذا فإنه قد بدا للإمبراطور الساعى لدعم مطلق سلطته، أن النظام الكهنوتى وسلطان الكنيسة الدنيوى يقيمان نظاما روحيا يناسب نظام الملكية. ولعل هذا النظام العجيب، بما فيه من أساقفة وقساوسة، يصبح أداة لتهدئة البلاد وتوحيدها وحكمها". وإذ يتجلى وعى الإمبراطور حادا، بأن السياسى قد فقد شرعيته، وأنه فى حاجة ماسة لما يؤسس به شرعية جديدة راح يلتمسها فى الدينى، الذى كانته المسيحية أنئذ، فإنه يلزم الوعى بأن ما تصوره الإمبراطور توظيفا للدينى لخدمة السياسى، قد إنقلب- بفضل دهاء التاريخ ومكره الذى يتجاوز إرادات الأفراد، وإلى حد تحقيق ما يناقض مضمون ما سعت إليه تلك الإرادات أحيانا- إلى توظيف السياسى لخدمة الدينى. والحق أن ذلك يكشف عن التباين بين عالمين وأعنى عالم الإسلام الذى كان الدينى فيه ينبثق فى قلب السياسى أو فى قلب السعى إلى تأسيس الدولة، وهو ما ينعكس جليا فى تلك المقولة التر تشيع فى أدبيات الإسلام السياسى الراهنة بأن "الإسلام دين ودولة"، وعالم المسيحية التى كان الدينى فيها يتعانق مع السياسى فيما يشبه الزواج بين بالغين يتمتع كل واحد منهما بحصانته واستقلاله عن الآخر. ومن هنا فان الأمر فى المسيحية كان يتعلق بالدولة، وهى تدرك إحتياجها للدين تسعى به إلى إقتلاع بذور الفناء التى تتبرعم فى قلبها، فراحت "تتدين " مضطرة وبما يعنيه ذلك من لزوم إنصياع السياسى لمقتضيات الدينى وشروطه، بسبب إحتياجه إليه، وذلك رغم ما يبدو، على السطح، من أنه قد جرى إستدعاء "الدينى" ليعمل فى خدمة السياسى وتبعا لشروطه. إذ إنه "الدهاء" الذى يجعل من يتصور نفسه "فاعلا"، هو المفعول به حقا.
وأما فى الإسلام، فإن الأمر يتعلق- فى المقابل- بالدينى وهو يرى نفسه فى تلازم صميمى مع السياسى منذ إبتداء إنبثاقه، فكان لازما أن يتسيس. وهنا يشار إلى أن إكتمال تشكل الدينى بمعزل عن السياسى فى المسيحية، إنما يحيل إلى أنه- أى الدينى- قد تبلور فى أصل مبدأه بوصفه شأنا خاصا وبما يعنيه ذلك من إنه لم يتبلور كفضاء لممارسة عمومية. حقا كانت هناك جماعة، ولكنها كانت جماعة المؤمنين التى لا تمتد سلطتها إلى ما وراء الجانب الروحى الخاص بالإنسان. وفى المقابل، فإن حضور السياسى فى قلب الدينى فى الإسلام قد فرض على الدينى أن يتبلور كشأن سياسى عمومى. ومن هنا فانه إذا كانت منظومات العقائد فى الإسلام قد تبلورت فى قلب الصراع على السياسة، وبحيث كانت تباينات العقائد بمثابة إنعكاس لإختلافات الفرقاء السياسيين، فإنه فى المقابل لم يقدر للسياسة أن تلعب دورا حاكما فى الشأن العقائدى إلا مع تسييس المسيحية الذى تحقق بعد حوالى أربعة قرون من نشأتها. فقد إنعقد أول المجامع المسكونية فى نيقية (325 م) بطلب من الإمبراطور قسطنطين لتقنين منظومة العقائد التى إعتنقتها الكنيسة، فكان ذلك إيذانا بأن الدينى لم يعد شأنا خاصا، بل شأنا عاما تنشغل الدولة بتقنينه وتنظيمه، وتستخدمه فى فرض سيطرتها على المجال العام. واذا كان هذا التباعد الزمانى بين لحظتى تبلور كل من الدينى والسياسى قد يسر ما جرى لاحقا من تصور الدينى كشأن خاص فى التجربة المسيحية، فإن غياب هذا التباعد قد أدى إلى إحتلال الشأن العام موقعا متميزا فى قلب الدينى فى الإسلام. ومن هنا فان مفهوم الجماعة الذى يعد بالغ المركزية فى الإسلام قد ظل إحتلال الشأن مسكونا بدلالة الدينى والسياسى فى آن معا والى حد ما صار إليه الفقهاء من أن النجاة ليس فى الآخرة فقط، بل- وقبل ذلك- فى الدنيا وهو الأهم، تكون فى محض الإستمساك بالجماعة.
وإذ يتقاطع الدينى والسياسى فى بناء المجال العام، فإن ذلك يكشف عن تلازمهما، وليس أبدا تمايزهما فى تجربة الإسلام.
ولعل مثالا على قوة هذا التلازم وعمق تجذره يتأتى من أن حدثا تاريخيا كفتح مكة، الذى يمثل تمام الإنتصار السياسى، فى مغامرة الإسلام الأولى، قد كان بمثابة التتمة والإكمال للدينى وبحيث بدا وكأن مغامرة الإسلام الأولى إنما تنطوى على تشكل الدينى والسياسى فى نفس المصهر تقريبا.
واذ لا مجال للحديث عن مثل هذا التلازم الصميمى بين الدينى والسياسى خلال مغامرة المسيحية الأولى - بل هى الضرورة التى دفعت "السياسى"، بعد قرون من إنبثاق هذه المغامرة، إلى أن يستعير الدينى كمجرد معين له فى أزمته، فوجد نفسه فى قبضته، فإنه يلزم الوعى بجوهرية التباين فيما يخص إشكالية علاقة الدينى والسياسى بين عالمى الإسلام والمسيحية. وغنى عن البيان أن جوهرية هذا التباين إنما تتآتى مما يؤول إليه فيما يتعلق بطبيعة عمل الوعى. فإنه إذا كان عمل الوعى قد إنصرف فى عالم المسيحية إلى تحرير السياسى من قبضة الدينى بعد أن إضطر، فى سعيه لتجاوز أزمته، لأن يضع مصائره فى يده فإن طبيعة عمله، فى عالم الإسلام ينبغى أن تتأطر ـ فى المقابل- بالسعى إلى تحرير الدينى من قبضة السياسى التى وجد نفسه غير قادر على الفكاك منها منذ البدء. ولعل ذلك يستحيل إلا عبر هيمنة الوعى على الطرائق والآليات التى إحتل السياسى بواسطتها فضاء الدينى، فى الإسلام، وهيمن عليه. ولأن السعى لإكتساب قداسة الدينى وتعاليه يبقى هو قصد السياسى من هذا الإحتلال لفضاء الدينى والهيمنة عليه، فإنه قد راح يتخفى وراء الدينى، والى حد تماهيه الكامل معه وبحيث يجوز التمييز بين الدينى يحضر، ظاهرا، على صعيد اللغة والشكل، وبين السياسى يحضر، كامنا، على مستوى الجوهر والبنية الأعمق. ومن هنا تلك المعضلة، فى الإسلام، التى تجعل تحرير الدينى من السياسى وتمييزه، أو حتى فصله، عنه، مشروطا بوصلهما، والإمساك بنظام العلاقة بينهما أولا وأعنى بذلك بيان كيفية إشتغال أحدهما تحت الآخر فى خفاء ودهاء. واذن فإنها المعضلة التى تجعل الوصل بين الدينى والسياسى هو شرط التمييز، أو حتى الفصل الحق بينهما.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 1 / أبريــــل / 2007