الثلاثاء، مارس 31، 2009

فى كيفية إختراق الأبوية للإسلام من خلال مفهوم الأصل؟



في كيفية اختراق الأبوية للإسلام من خلال مفهوم الأصل؟

"ما لا أصل له فمهدوم" الغزالي
"لم يُؤمر المرء بإتباع نفسه، وإنما أُمر بإتباع غيره" الشافعى

"فكل خير في إتباع من سلف…..وكل شر في ابتداع من خلف" اللقانى

إذا كانت "الاتباعية" تفترض، أولياً، حضور أصل أوّل؛
 وأعنى من حيث لا إتباع إلا لأصل مسبق، فإنه يلزم التنويه بأنّ حضور الأصل لا يستلزم، آلياً، انبثاق (غلبة) الاتباعية بالضرورة.
 بل قد يحضر الأصل من غير أن تقترن به الاتباعية أبداً.
 أما الاتباعية فإنها لا تحضر أبداً من غير أصل؛ وإلى حدّ إمكان افتراض أنها قد تضع بنفسها الأصل، إن لم تجده قائماً.
 فالحقّ أنّ الأصل لا يضع نفسه كأصل؛ هو سلطة يلزم إتباعها والانصياع لها،
 بقدر ما يجرى فرضه، على هذا النحو، بتأثير فاعلية تتموضع خارجه؛
 وهي فاعلية تنتمي إلى الثقافة بمعناها الأنثروبولوجى الواسع والأقدم، وليس إلى مجرّد شكلها المكتوب المحدود والأقرب.
وإذ يحيل ذلك إلى أنّ الاتباعية لا تكون، هكذا، نتاجاً للأصل بمجرّده، بل نتاج كيفية في مقاربته، وطريقة في التعامل معه، فإنّه يمكن المصير من ذلك إلى أنها تتحدّد، كممارسة ثقافية، بكيفية في اشتغال الوعي على نحو ما؛ ولكنها سرعان ما تستعيد المبادرة فتظلّ تحدّد عمل هذا الوعي، الذي سبق لها أن تحدّدت به.
 ورغم أنّ هذه الكيفية في اشتغال الوعي، التي تؤطّر الاتباعية وتحدّدها،
 إنما تجد ما يؤسسها داخل بنية ثقافية أعمق، لها شروطها الموضوعية المجاوزة لما هو فرديّ، فإنّها- أي هذه البنية وما يرتبط بها من طرائق في اشتغال الوعي- لا تتجلّى إلا من خلال عمل الأفراد؛
 وخصوصاً أولئك الذين يكونون الأقدر من غيرهم على التعبير الأجلى عنها في أكثر صورها شمولاً وتماسكاً.

 وإذ تكون نصوص هؤلاء الأفراد هي النصوص التأسيسية في ثقافة ما،
 فإنّ هذه التأسيسية لا تتأتّى من كون هذه النصوص تختزل البنية الكامنة في الثقافة، وتجليها في أكثر صورها شمولاً وكليةً فحسب،
بل ومن كونها تصوغ هذه البنية وتعيد إنتاجها ضمن فضاءات جديدة لم تعرفها من قبل.
ومن هنا تأسيسية نصّ كل من الشافعي والأشعري؛
 وأعنى من حيث أنّهما ينطويان على ما يمكن اعتباره صوغاً وإعادة إنتاج للبنية الكامنة في الثقافة،
 بالمعنى الأنثروبولوجى الأقدم، وليس المكتوب الأقرب،
ضمن فضاء الثقافة المكتوبة في الإسلام.
 وبالطبع فإنّ ذلك يؤول إلى أن الثقافة المكتوبة، وأعني بالذات تلك التي سادت في الإسلام، لم تفلت من قبضة التوجيه الحاسم للثقافة بالمعنى الأنثروبولوجى الواسع؛ والتي تضرب بجذورها الأعمق فيما يسبق الإسلام ويتعداه.

إن ذلك يعنى أن الثقافة، التي تسيَّدت في الإسلام،
 لم تصبح اتباعية لأنّ نصاً (هو القرآن) قد فرض نفسه داخلها كأصل يلزم إتباعه، بقدر ما إن هذا النص نفسه، قد جرى وضعه كأصل (للإتباع وليس الإبداع)
 داخل هذه الثقافة
- وبما ينطوي عليه هذا الوضع من إهدار الممكنات الكامنة للنص-
بفضل ما تنطوي عليه تلك الثقافة أصلاً، من اتباعية كامنة؛ تضرب بجذورها الأعمق في أشكال وجود، وأنساق ثقافة، سابقة- في تشكُّلها- على انبثاق هذا النص ذاته.

ولعله يمكن المصير، ابتداء مما سبق، إلى أنه إذا كان مفهوم "الأصل"
يحتل- أو يكاد- موقع المفهوم الأكثر مركزية وتأسيسية، في الثقافة العربية الإسلامية؛ وفي كلا خطابيها التراثي والحداثي،
 فإنه يلزم التنويه بأن هذه المركزية لا تحيل بمجردها إلى اتباعية هذه الثقافة بالضرورة، بل الأمر يقتضى، أولياً، فحص كيفية حضور هذا المفهوم،
ونوع وطبيعة اشتغاله.
 فقد تآدى مجرد الحضور إلى أن علوماً قد تبلورت حول "الأصل"
 إلى حد دخوله في تسميتها (كأصول الدين وأصول الفقه)؛
وتلك هي العلوم الأكثر تأسيسية داخل الثقافة،
 ابتداء من كونها تنطوي على العلوم المؤسِسة لعلوم أخرى جزئية،
 لأنه "ما من علم من العلوم الجزئية إلا وله مبادئ تؤخذ مسلّمة بالتقليد في ذلك العلم، ويُطلب برهان ثبوتها في علم آخر" .
 وبالطبع فإنّ هذا العلم الآخر الذي يُطلب فيه برهان ثبوت المبادئ المؤسِسة للعلوم الجزئية، لم يكن، في الثقافة العربية الإسلامية، إلا من تلك العلوم المنبنية حول مفهوم الأصل.
 أمّا كيفية حضور الأصل، وطريقة اشتغاله؛ والتي تكون بتأثير فاعلية تتموضع خارجه، فإنها قد لعبت دوراً بالغ المركزية في تشكيل العقل وبناء نظامه داخل هذه الثقافة؛
وأعنى من حيث أن نوع حضور الأصل وكيفيته، قد فرض تبلور طرائق محددة في التفكير وإنتاج المعرفة،
والتي تجاوز مجال اشتغالها حدود الخطاب التراثي إلى امتداده الحداثي؛ وبما يعنيه ذلك من أن المأزق الراهن للخطاب الحداثي العربي، إنما يستعصى على الفهم إلا عبر الوعي بما يؤسس له في سلفه التراثي.

ولعله يلزم التأكيد، هنا،
على أنّ ثمّة علاقة قوية بين كون "الأصل" هو المركز الذي انبنت حوله العلوم التأسيسية داخل الثقافة،
 وبين كون تشكيل العقل المنتج للمعرفة داخل هذه الثقافة هو نتاج كيفية حضور هذا الأصل وطريقة اشتغاله.
 فإذ تتموقع تلك العلوم التأسيسية داخل الثقافة، كمجرد ساحة يحقق عليها الأصل كيفية اشتغاله وطريقة حضوره، فإنها كان لا بدّ أن تكون، في الوقت نفسه، ساحة تشكُّل العقل وإنباء نظامه؛
 وأعنى من حيث أن كيفية حضور الأصل، إما كنقطة بدء للوعي ينطلق منها مستوعباً ومتجاوزاً لها إلى ما بعدها،
 أو كواقعة نهائية يجد نفسه في مواجهتها غير قادرٍ إلا على تكرارها والانصياع لها، هي- وليس سواها- ما يحدد طبيعة بناء العقل ونظامه.
وإذن فإنّ الانتقال من "الأصل" يؤسس علماً ما، إلى هذا العلم يؤسس لعلوم أخرى تمثل، في جملتها، ما يمكن اعتباره الثقافة (في شكلها المكتوب)،
 إلى هذه الثقافة تمثل حقل انبناء العقل،
 بما هو نظام في التفكير وإنتاج المعرفة؛ وبما يعنيه ذلك من الانتقال من "الأصل" إلى "العقل"، عبر ما يقوم بينهما من وساطة الثقافة.

وفي كلمة واحدة، فإن ذلك يعنى أن مفهوم الأصل، إنما يدخل في تركيب العقل؛
 وإلى حد ما بدا من أن العقل، في الثقافة العربية الإسلامية،
 يكاد أن يستحيل إلى عقل تفكير بالأصل. وبالطبع، فإن طبيعة بناء هذا العقل ونظامه، إنما تتحدد بالكيفية التي اشتغل بها هذا "الأصل" داخل الثقافة.
 فإن اشتغال الأصل كنقطة بدء ينطلق منها الوعي مستوعباً ومتجاوزاً لها على نحو خلاق، إنما يؤول إلى عقل مغاير بالكلية لذلك الذي تؤول إليه كيفية أخرى في اشتغاله (أي الأصل) كسلطة نهائية ليس أمام الوعي إلا الانصياع لسطوتها.

ومن هنا أهمية الوعي بالكيفية التي حضرت بها الأصول،
 والطريقة التي اشتغلت بها عند مؤسسي الأصول الكبار؛
وأعني كل من الشافعي والأشعري،
 اللذين يتجاوز الانشغال بهما- في سياق هذه القراءة-
مضمون ما أنجزاه على صعيد المذهب الفقهي أو العقائدي، إلى الدور الإبستيمولوجي الحاسم الذي لعبه كل منهما
- باعتبارهما مؤسسين لعلمي أصول الدين والفقه-
في تثبيت وترسيخ آلية "التفكير بالنص"، التي حددت- ولم تزل-
بناء الثقافة العربية الإسلامية،
وبالتالي العقل المتشكّل داخلها؛ وأعنى من حيث أن العقل ليس مقولة بيولوجية،
 أو معطى مكتمل يقوم بمعزل عن أيّ معطى ثقافي مسبق، بقدر ما هو مقولة ثقافية، أو كياناً ينبني ويتشكل في الثقافة، وبكيفية يكون فيها تفكيك الثقافة
(المهيمنة بالذات) بمثابة تفكيك للعقل السائد فيها، في الآن نفسه.

 وإذن فإنّ الانشغال بالرجلين (الشافعي والأشعري)، 
لا كأصحاب مذاهب (فقهية وعقائدية) تسود عالم الإسلام حتى اليوم،
 بل كصائغين لإبستيمولوجيا تتمحور، بالأساس، حول مفهوم الأصل.
ولسوء الحظ، فإن حضور الأصل داخلها، لم يجاوز حدود أنه سلطة نهائية
 ليس أمام الوعي إلا أن ينصاع لما تمليه وتفرضه عليه.
 وفي كلمة واحدة، فإن هذه القراءة تجادل بأن حدود عمل كلٍ من الشافعي والأشعري تتجاوز مجرد التقعيد للفقه والعقائد، إلى التقعيد لطرائق التفكير التي تحددت بها قواعد الفقه والعقائد؛ التي أنتجاها.
وبالطبع فإنه إذا كانت قواعدهما الفقهية والعقائدية إنما تعمل، في الواقع،
على نحو جليّ،
 فإن قواعد التفكير التي ارتبطت بها، تكاد لا تعمل إلا على نحو خفي ولا واعي ولعلها كانت، عبر هذا التخفي في صميم اللاوعى، بمعناه الثقافي والمعرفي،
تتحصن ضد أي سعي للانفلات من سطوتها، حتى لو نجح الوعي في القطع مع قناعها الفقهي والعقائدي الجلي، وتحول عنه إلى تبني قناع فقهي وعقائدي آخر.

فإذ تبنى الشافعي إستراتيجية في بناء الأصول،
 تقوم على الاتساع بالأعلى من هذه الأصول ليستوعب ما تحته من أصول كان عليها، بالتالي،
 أن تضيق لتقبل الإدماج ضمن ما فوقها؛
 وبما يعنيه ذلك من أن الأصل الأعلى عنده- وهو الكتاب أو النص-
 قد راح يتسع ليستوعب سائر الأصول تحته، فإنه قد انتهى إلى استحالة أي تفكير في الفقه إلا بالنص، وهو أصل الأصول؛
وبما يترتب على ذلك من طرد كل ما سواه من فضاء التفكير الفقهي.
 وبالمثل فإن الأشعري قد أسس عمله الكبير في العقائد على ما أسماه هو نفسه، بطريقة الاستدلال بالأخبار التي لا تعنى إلا التفكير بالنص أيضاً؛ والتي كانت هي طريقته في التمرد على طريقة الاستدلال العقلية التي اشتغل بها، هو نفسه، حين كان يفكر ضمن الفضاء المعتزلي، الذي نشأ وترعرع فيه.
وهنا يُشار إلى إن التفكير بالنص لا يعنى، عند الرائدين الكبيرين، إلا التفكير ابتداء من هيمنة أصل معطى مسبق، لا يمكن للوعي أن يتمرد على سلطته أبداً.
ولسوء الحظ 
فإن هذه الطريقة في التفكير بأصل لم تكن، بدورها،
إلا إحدى بقايا ثقافة الأبوية التي يتمحور كل بنيانها حول سلطة الأب/الأصل،
التي يستحيل إلا الانصياع الكامل لسطوتها،
وهو الانصياع الذي يبدو- حسب القرآن نفسه- وكأنه العائق الأكبر أمام الإنصات لوحي السماء؛ وأعنى من حيث ما يلح عليه القرآن من ربط إنكار الوحي بتقليد الآباء والتأسّي بما كانوا عليه.
وإذا كان الإسلام قد أخذ على عاتقه تفكيك هذه الثقافة الأبوية وسلطتها،
ليس فقط لأنها العائق أمام سيادة وحيه 
(وأعنى من حيث لا تعرف إلا التفكير بالأصل-الأب)،
 بل ومن حيث كونها تمثل عائقاً أمام أشكال وجود أرقى،
 فإن الغريب حقاً أن تكون هذه الأبوية (ثقافة وسلطة) قد اخترقت الإسلام من خلال تسريب آليتها في التفكير بالأصل إلى بناء الثقافة التي تحققت لها الهيمنة داخله. 

ولعله لن يكون غريباً، والحال كذلك،
أن يكون نص الإسلام المؤسس، أو القرآن،
 قد عانى من اشتغال هذه الآلية أكثر من غيره؛ وأعنى من حيث تحول قراءته أو التفكير فيه بأصل جاهز معطى دون انكشافه عن ممكناته الكامنة، التي يستفيد منها حياته الحقّ، وحضوره الفاعل الخلاق في العالم.
 ومن هنا أن التفكير بالنص يتجاوز مجرد نص بعينه (كالقرآن والسنة مثلاً)،
إلى كل تفكير بالأصل على العموم،
 وإلى حد يمكن معه التأكيد على أن القرآن نفسه يمكن أن يكون- بل قد كان فعلاً- موضوعاً لهذا النوع من التفكير بالنص/الأصل.
والعجيب أنه حين يكون موضوعاً لاشتغال تلك الآلية، ينتهي به الأمر إلى أن يكون عرضة للجمود والاضمحلال، لأنه يصبح موضوعاً للترديد والتكرار،
 وذلك على النحو الذي يمنعه من التكشُّف عن ممكناته المضمرة التي تحتاج، في انكشافها، إلى آلية حرة وغير مقيدة في اشتغالها، بأيّ أصل أو معطى مسبق، يفرض نفسه عليها.

وإذ يبدو، هكذا، أن كيفية اشتغال الأصل في الثقافة التي سادت في الإسلام،
 قد تآدت إلى تبلور نظام العقل المُقيد بسلطة
 لا يقدر على ممارسة التفكير متحرراً من سطوتها،
فإن كون هذا العقل لم يزل هو المحدد لطرائق التفكير المُتَداولة في فضاء الخطاب العربي حتى الآن، وذلك ابتداء من أن هذا الخطاب لم يقدر على تجاوز الثقافة التي انبنى هذا العقل في حقلها، إنما يؤول إلى حقيقة أنه هو المحدد لطريقة العرب في مقاربة الحداثة.
ولعل ذلك ما يفسر طبيعة مقاربتهم لها كسلطة، أو نموذج جاهز يُفرض على الواقع قسراً من خارجه.
وهكذا راح يجرى التفكير في الحداثة كنموذج جاهز ومكتمل، يحمل كل سمات الأصل الذي لابد من احتذائه ليتسنى إخراج الفرع (الذي هو واقع العرب) من أزمة جموده وفواته.
 ورغم أن هذا الضرب من التفكير في الحداثة،
 قد ارتبط بكيفية في التعامل معها على صعيد الممارسة، فإنه يبقى أن نظام العقل المهيمن، بالمعنى الثقافي، قد فرض على الوعي آلية في مقاربتها والتفكير فيها كنموذج/أصل، والذي لابد- تأسياً بما دشنه أصحاب التفكير بالأصل الرواد- من تجريد العلة المؤسسة لحداثته (أولاً)، ثم تحقيقها في الفرع الذي هو الواقع العربي (ثانياً)، ليتسنى الحكم، ترتيباً على ذلك، بحداثته كالأصل. وإذ يبدو هكذا أن التفكير في الحداثة قد تحقق، ولم يزل، بحسب آلية "التفكير بالنموذج"، الذي راح يجرى التنزّل به على واقع موات، فإنه يبدو- لسوء الحظ- أن هذه الآلية في التفكير لم تكن إلا امتداداً لآلية "التفكير بالنص أو الأصل" التي تبلورت في النصوص التأسيسية لآباء الثقافة العربية الإسلامية المؤسسين. ومن هنا دلالة الإلماح إلى أن مركزية مفهوم الأصل في الثقافة العربية الإسلامية تتجاوز فضاء خطابها التراثي إلى الحقل الخاص بخطابها الحداثي أيضاً.
وإذا كان قد بدا أن هذه الآلية في التفكير بالأصل، أو ما يقوم مقامه من النص أو النموذج (الذي هو المعادل- في الخطاب العربي الحديث- لكل من النص والأصل)،
 إنما تجد- أو تكاد- تفسيرها الأتم في قلب البناء الأصولي الكبير،
 الذي دشنه الشافعي في الفقه، ورسخه الأشعري، من بعده، في العقائد،
 فإن ذلك يحيل إلى ضرورة الوعي بالشروط التي تقف وراء انبثاق التنظير الأصولي لكلا الرائدين المؤسِسَين بالذات.
فإذ اتفق الرائدان على التعالي بما يؤسس لعملهما إلى ما يجاوز الشرط الإنساني ويتعداه، فإن هذا التعالي كان لابد أن يهب عملهما مفارقة المقدس المجاوز وحصانته؛ وعلى النحو الذي استحال معه عملهما إلى موضوع للتقديس،
 وليس حتى إلى موضوع للفهم، ناهيك عن المحاورة والنقد.
 وبالطبع فإن ما تبلور- في قلب هذا العمل الأصولي- من قواعد الفقه والعقائد لم يكن وحده موضوع التقديس، بل وكذا القواعد والآليات التي جرى التفكير بها في هذه القواعد؛ وأعنى أن طرائق التفكير قد اكتسبت، بدورها، نفس قداسة وحصانة المضمون المعرفي الذي اشتغلت في إطاره.
 إن ذلك يعنى أن آلية التفكير بالنص/الأصل قد اكتسبت، عبر هذا التعالي
، قداسة النص/الأصل نفسه،
وبكيفية استحالت معها من مجرد آلية معرفية مشروطة بما يحددها إنسانياً، إلى قاعدة دينية يؤول الخروج عليها بصاحبه إلى الكفر والضلالة.
 وإذا كانت دلالة انبثاق "الأصل" في ارتباط مع الديني والفقهي، تتبدى،
 على نحو جلي، فيما يسبغانه عليه من القداسة، فإنه يلزم التنويه بأنه قد ظل محتفظاً بتلك القداسة، حتى عند اشتغاله، والتفكير به، خارج حدود كلٍ من الديني والفقهي.

وبالطبع فإنه لا سبيل للانفلات من عقابيل تلك الآلية، وآثارها التي لم تزل تتداعى، حتى اليوم، استبداداً وتبعية،
 إلا عبر الارتداد بما يقوم وراء أصول الرائدين الكبيرين (الشافعي والأشعري) من الشرط المتعالي والمجاوز الذي جرى الإيهام بأنه -وليس سواه-
هو ما يقوم وراءها، إلى الشرط الإنساني المتعيّن الذي يكاد، منفرداً، أن يحدد بناءها ويفسره؛ والذي تتجاوب فيه- على نحو مدهش-
كل أبعاد الإنساني وعناصره، من النفسي والاجتماعي والسياسي والمعرفي.
 وبقدر ما يؤكد هذا التجاوب على إنسانية الشرط الذي انبثقت في إطاره الأصول،
 وما ارتبط بها من آليات وطرائق في التفكير، فإنه يقطع- بذلك- بإمكان تجاوزها والانفلات من سطوتها.
 وهنا يلزم التنويه بأن هذه القراءة لا تسعى إلى إنجاز ما هو أكثر من التأكيد على إمكان هذا الارتداد من "المتعالي" إلى "الإنساني".


تم النشر في موقع الآوان بتاريخ 31 مـــــــــــارس 2009