الخميس، مايو 26، 2011

هل هى الحساسية مع القرآن أم مع مجرد فهم بعينه للقرآن؟




إذا كان أحد لا يجادل فى أن مصر هى أحوج ماتكون، فى وضعها الراهن، الى الحوار، فإنه يلزم أن يكون حواراً منتجاً ينفتح فيه كل فريق من أطراف نخبتها على الآخر، وذلك على النحو الذى تتسع فيه تصورات الواحد منهم للآخر. وعلى هذا فإنه ليس مطلوباً أبداً أن يتمترس كل فريق وراء تصوراته ساعياً الى فرضها على الآخرين، أو مصراً عليها تاركاً لهؤلاء الآخرين ـ حين تعوزه الحجة ـ حق قبولها أو رفضها؛ حيث الأمر لا يتعلق بتصورات تخص فرداً أو جماعة يتداولونها داخل دائرتهم الخاصة، بل بتصورات يراد لها أن تصوغ مستقبل وطن لابد أن يتسع لجميع الفرقاء من غير إزاحة أو إقصاء.
ولعل الشرط اللازم لإنتاجية الحوار يتمثل فى ضرورة ضبط المفاهيم التى يدور حولها الحوار، وذلك عبر المساءلة والوعى النقدى بما تبنى عليه ويؤسس لها من أصول، قد لا تكون حاضرة فى أذهان المتحاورين. وإذن فالأمر يتعلق بضرورة التعامل المعرفى مع المفاهيم، بدلاً من التعامل السياسى معها الذى يحيلها من موضوعات للدرس والفهم الى محض أدوات للتعبئة والحشد، وهو التعامل الذى لاينتهي، فحسب، الى إفقار المفاهيم على نحو كامل، بل ويقود المتحاورين الى التقاذف والصدام. 
وانطلاقاً مما سبق فإن ما مضى إليه أحد أقطاب جماعة الإخوان المسلمين من القول: «لا أعتقد أن أى شخص مسلم يعترض على تطبيق القرآن، والحدود التى شرعها الله بنص القرآن، وأى مسلم لا يعجبه كلام ربنا، (فإن المشكلة تكون) مشكلته هو. وإن من عنده حساسية من القرآن أو دينه، فليعلن هذا صراحة دون التمسح فى الإخوان» إنما يندرج ـ بما ينطوى عليه من تبسيطية هائلة ـ فى إطار السعى الى حشد الناس وراء المشروع السياسى للجماعة التى ينتمى إليها الرجل، عبر الترويج لهذا المشروع على أنه «تطبيق القرآن والحدود المنصوص عليها فيه.
ولكن القول، فى حال التعامل المعرفى معه، يفتح الباب للنقاش حول مسألة بالغة الجوهرية تتعلق بالكيفية التى يؤسس بها الناس علاقتهم مع القرآن والنصوص المقدسة على العموم. وغنى عن البيان أنه فيما يؤول التعامل السياسى الى إفقار القرآن على نحو كامل، وذلك من حيث يجرى توظيفه، فى الأغلب، كقناع لسلطة تمارس القهر والإجبار، فإن التعامل المعرفى معه يفتح الباب أمام إمكانية تصوره كساحة تفاعل وحوار. 
ولعل ذلك يحيل الى ضرورة البحث فى الطرائق التى سعى المسلمون عبرها الى تأسيس علاقتهم مع القرآن. وهنا فإنه يلزم العودة الى اللحظة الأكثر مركزية فى تاريخ الإسلام بأسره، وأعنى بها لحظة «الفتنة» الشهيرة.
فعندما إتجه الصحابى الجليل «عمار بن ياسر» ـ إبان موقعة صفين ـ بخطابه الى بنى أمية قائلاً: «نحن ضربناكم على تنزيله، واليوم نضربكم على تأويله» فإنه كان يكشف عن وعى لافت بحقيقة أن الصراع الذى تفجر فى تلك الوقعة الأسيفة ـ التى لعبت الدور الأبرز فى توجيه ما جرى لاحقاً فى تاريخ الإسلام السياسى والثقافى هو صراع على فهم القرآن وتأويله، فى الجوهر. وإذا كان سؤال الفهم والتأويل هو، على نحو ما، سؤال عن الكيفية التى يؤسس بها الناس علاقاتهم مع النصوص، فإن ذلك يعنى أن ماجرى آنذاك كان، فى أحد وجوهه، صراعاً على كيفية تأسيس العلاقة مع النص (الذى هو القرآن بالطبع). وللمفارقة فإن التأمل فى مواقف الفريقين المتقاتلين، فى صفين يكشف عن كيفيتين متباينتين فى تأسيس العلاقة مع النص/ القرآن. 
فإنه إذا كانت واقعة رفع المصاحف على آسنة الرماح تمثل إستدعاء صريحاً للنص ليلعب دوراً فى الصراع السياسى المحتدم، فإن ما تنطوى عليه تلك الواقعة من دلالة الربط بين المصحف والرمح أو السيف، يكشف عن تصور «بنى أمية» للعلاقة مع النص بما هو قوة إخضاع، تحققوا من أنها أكثر نجاعة من السيف نفسه، وذلك من حيث ما تآدت إليه حيلة رفع المصاحف على الرماح من إيقاف حرب لم يفلح السيف وحده فى وضع حد لها. 
وهكذا فإن للمرء أن يتوقع تحول النص ـ مع بنى أمية بالذات ـ إلى سلطة، أو ـ بالأحرى إلى قناع لسلطة تحتجب خلفه وتمارس تحت رايته اقسى ضروب التسلط والقمع. 
ويرجع السبب فى ذلك إلى أنه إذا كان السيف هو أداة بناء السلطة وحراستها، فإن ما حدث من تعليق النص / القرآن عليه، سوف يجعل منه 
(أى القرآن) محض امتداد للسيف فى تثبيت نفس السلطة سوف تكون هى الأحرص ـ حماية لنفسها ـ على تحويله، هو نفسه، الى سلطة، وبما يعنيه ذلك من التعالى به عن إمكانية أن يكون موضوعا للقراءة وطرح الأسئلة، حيث ستصبح عملية طرح الأسئلة على النص بمثابة مساءلة لسلطة السياسة التى تحتجب خلفه، وهكذا فإنه يتم ـ ضمن هذا السياق ـ إلغاء التمييز بين »سلطة السياسة «وبين »سلطة النص»، وعلى النحو الذى جعل معاوية يعتبر ـ فى سياق آخر ـ ما قضى به من توريث سلطته لابنه يزيد، بمثابة القضاء النازل من الله، والذى لا راد له أبدا. وليس من شك فى أن تحول النص الى سلطة لابد أن يدخل به الى دائرة التكرار والجمود، وذلك لاستحالة التعاطى معه، بما هو سلطة، على نحو يسمح بتفجير دلالاته الكامنة الخصبة. وفقط سيصبح النص «أيقونة» يتبرك بها الناس ويتمسحون بها ويتمتمون بمفرادتها، ولكنه سيفقد كل حياته وديناميته.
وإذا كانت تلك الكيفية فى العلاقة مع النصوص هى التى تحققت لها الهيمنة والسيادة كاملة فى الإسلام، فإن ما صار إليه الإمام على فى تعليقه على ماقام به بنو أمية من رفع المصاحف على أسنة الرماح ـ من «إن القرآن كتاب مسطور بين دفتين، لاينطق بلسانه، وإنما ينطق عنه الرجال » إنما يكشف عن كيفية أخرى فى تأسيس العلاقة مع النصوص، تنبنى على الإقرار بدور بالغ المركزية للإنسان فى إنتاج دلالة النص، وبما يترتب على ذلك من ضرورة تصور النص، لا بما هو قوة إخضاع وإجبار، بل بما هو ساحة للتفاعل والسؤال والحوار. ولعل ذلك ينبنى على حقيقة أنه إذا كان الانسان يدخل (وعيا وواقعا) فى تركيب وحى التنزيل (وهو ما يستفاد، من جهة، ومن تعدد وتباين لحظات هذا التنزيل بحسب حاجات الواقع ومستوى تطور الوعي، كما يستقاد، من جهة أخري، من حقيقة أن القرآن نفسه قد ظل يتنزل وحيا على مدى يقترب من ربع القرن متجاوبا مع أسئلة الوعى والواقع)، فإنه يستحيل تصور هذا الإنسانى معزولا عن فعل الفهم والتأويل.
وبالطبع فإنه كان لابد من تحول مسار السياسة فى الإسلام، مع معاوية، من الخلافة الى الملك العضوض المستبد (بما يستلزمه هذا الملك المستبد من الإقصاء الكامل للفاعل الانسانى)، من إزاحة الكيفية التى أسس بها الإمام على للعلاقة مع القرآن تفاعلا وحوارا، وبحيث لم تستمر إلا الطريقة الأموية فى العلاقة معه تلقيا وتكرارا. ولأن تحصين سلطتهم السياسية كان يقتضى تثبيت طريقتهم فى التعاطى مع القرآن تلقيا وتكرارا، فإنهم قد راحوا يراوغون معتبرين التنكر لطريقتهم تلك، بمثابة نوع من الإنكار للقرآن نفسه. وهنا يلزم تأكيد، مرة أخري، أن الأمر لايتعلق أبدا بإنكار القرآن، بل الأمر يتعلق، بالأساس، بإنكار ضرب من العلاقة معه يكون فيها "سلطة" لاتقبل إلا محض الترديد والتكرار، وليست «نقطة بدء» ينطلق منها الانسان، عبر السؤال والحوار، الى بناء وعى مطابق بعالمه. وللمفارقة فإن تصور القرآن، على هذا النحو، كسلطة لايؤول فقط الى إهدار الوعى الذى لن يكون مسموحا له، بإزاء تلك السلطة، إلا أن يكرر ويردد، بل وينتهى الى الإفقار المعرفى الكامل للنص نفسه، وذلك من حيث يستحيل عبر الترديد والتكرار الكشف عن كل ما يكتنزه النص من ممكنات خلاقة هى أساس حياته الحقة. وإذن فإنه التباين بين موقفين من النص، أحدهما يجعله قوة إبداع، والآخر يجعل منه قوة اتباع وإخضاع.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 26 / مـــــايو / 2011