الجمعة، ديسمبر 30، 2011

د. على مبروك: الديكتاتورية العربية أشعرية




لكل قراءة هو موليها وأينما توجه قراءتك فى التراث ستجد لقراءتك موطئ قدم فى خارطة التأويلات
وعندما حاول الدكتور على مبروك أستاذ الفلسفة فى جامعة القاهرة الدخول إلى ميدان التراث تخلص إلى حد كبير من غلالة الأيديولوجية، وتسلح بالأسئلة المعرفية فى محاولة لاكتشاف بنية النسق المعرفى الذى وجه حركة ثقافتنا 
فاكتشف: 
إن الاشاعرة تنكروا للتاريخ وثبتوه عند لحظة نموذجية تنتمى إلى الماضى.
إنهم يرون التاريخ انهيارا دائما من حسن الى سيئ.
وإنهم روجوا ،عقائديا، لفكرة المطلق فاستغل السياسيون هذه النظرية ذات الثوب الدينى ، وتبنوها سياسيا على كل شكل من أشكال الديكتاتورية. 
ان ابن رشد لم يكن عقلانيا كامل العقلانية كما يروج الخطاب الفلسفى العربى المتأثر بالمقولات الغربية، وأن الخطاب الرشدى كان خطابا نخبويا يتنكر للعوام، 
ان المعتزلة كانوا الطائفة أو الفصيل الأكثر اقترابا من العقلانية فى التراث العربى، ان القفز على مقدمات التاريخ والتفكر له منهج عربى فى السياسة والفكر.


 وهذا نص اكتشاف على مبروك او قراءته للتراث:
عندما علم نصر أبوزيد نية قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة أن يكون تخصصه فى الدراسات العليا ميدان الدراسات الاسلامية، خاف بسبب ما تعرض له كل الذين اقتحموا هذا المجال بعقلانية، من طه حسين، وأمين الخولي، ومحمد أحمد خلف الله. ولكن صديقه جابر عصفور اقنعه بأن رغبته فى دراسة الأدب والتخصص فيه لا تبتعد كثيرا عن رغبة القسم فى أن يتخصص بالدراسات الاسلامية إذ إن الدرس الأدبى أو البلاغى للقرآن لا يبتعد كثيرا عن مجال الأدب.
 وعندما أنهى على مبروك – تلميذ أبوزيد - دراسته الجامعية بتفوق فى قسم الفلسفة وبدأ دراساته العليا كلفه القسم بالتخصص فى علم الكلام لان القسم فى حاجة إلى من يعمل فى هذا التخصص" ـ
يقول على مبروك:
 عندما علمت أنه تم تكليفى بالتخصص فى علم الكلام، كان لذلك وقع سيئ على نفسي؛ حيث تصورت انه سيتم اقتلاعى من المنطقة التى تستهوينى بشكل كبير، وهى الفلسفة المعاصرة، وإجبارى على العمل فى منطقة ميتة.
هكذا تصورت الأمر، ولكنى عندما بدأت الدراسة اكتشفت أنه تم غرسى فى التربة التى تناسبنى. فإن تكون مأخوذاً بأسئلة العصر ومسكوناً بهمومه، ثم يتم غرسك فى موروثك القديم- الذى لا يزال حياً - لابد أن يجعل منك شيئاً مختلفاً.


- تم تكليفك ولم تكن حرا فى اختيارك؟

عندما يتم تكليف أوائل الدفعات للعمل كمعيدين فى الجامعات المصرية، فإنه يتم اختيار التخصصات التى سيعملون بها على أساس احتياجات القسم العلمي، وليس على اساس الرغبات الآنية لهؤلاء المعيدين.

 ورغم أن ذلك كان إيجابياً فى حالتى كما أشرت، فإنه يبقى أن تلك الإيجابية جاءت بمحض الصدفة السعيدة؛ وأعنى أننا جميعاً ضحايا نظام تعليمى لا يسمح لنا بالتعرُّف على ما نريده- أو نقدر عليه - حقاً.


- كيف وفقت بين رغبتك، وتكليف القسم؟

كانت تستهوينى الحداثة فعلاً،ورغم أن هذا الإعجاب لم يكن خالياً من بعض الانبهار، فإنى سعيت إلى فهم ظاهرة الحداثة والوعى بأصولها. لم أكن غارقاً فى الفتنة بإكسسواراتها وزخارفها؛ بل سعيت إلى امتلاك الوعى النقدى بالمفاهيم المؤسسية لها. ولم يفارقنى هذا النوع من الانشغال عندما بدأت أعمل فى حقل الدراسات الإسلامية. 

وإذا كان تحقق الحداثة، وما ترتب على هذا التحقق من تحويل الغرب إلى قوة جبارة قادرة على أن تتحكم فى العالم، ارتبط بتبلور وانبثاق مفاهيم الإنسان والعقل والتاريخ، فقد سعيت إلى إثارة الأسئلة حول تلك المفاهيم الحاكمة للعصر، فى ثقافة الإسلام.
 وهنا فإنه لا يمكن القول بأنى أفرض على عالم التراث مفاهيم عالم الحداثة، لأن مدار الانشغال فى ثقافتنا على مدى القرنين الأخيرين كان التساؤل عن سبب "تقدم الأوروبيين" فى مقابل "تخلُّف المسلمين"؛ ما يعنى أن وعى صانعى النهضة العربية لا يفصل بين العالمين، بل يربط بينهما إلى حد أنه لا يفهم "تخلفنا" معزولاً عن "تقدمهم". 


- وهل حملت هذه الأسئلة معك فى ترحالك صوب التراث؟

أخشى ان يكون مغزى سؤالك أننى دخلت التراث بفكرة مسبقة، وأنا أبعد ما أكون عن هذه الفكرة وهذا المنهج ..

لأن الدخول إلى ميدان التراث بأفكار مسبقة لن يؤدى إلى فهم دقيق له بل سيؤدى إلى ماسماه الباحث العربى الكبير جورج طرابيشى «مذبحة التراث».

دخلت التراث مسكوناً بأسئلة اللحظة التى تثقل بضغطها على الواقع الذى أنتمى إليه، ورحت أبحث لها عن إجابات داخل التراث.

ولأنى أبحث عن إجابات لأسئلة يتفق عليها الكافة، ولا أسعى وراء أسانيد أدعم بها رؤية أيديولوجية جاهزة مسبقة، فإن اشتغالى على التراث كان اشتغالاً معرفياً فى الأساس.


هناك قراءات نقدية كثيرة للتراث تقدم اجتهادات جديدة، هناك قراءات «سلفية» تعيد طرح التراث كما هو من دون نقد أو تمحيص ـ كيف تقرأ هذه القراءات؟.

من خلال قراءتى لمعظم هذه القراءات اكاد اكتشف ان مفهوما واحدا يخترقها جميعا، هو مفهوم الايديولوجيا؛ فبعد هزيمة يونيو 1967 وعلى مدى عقد السبعينيات من القرن الماضى يمكن للمرء أن يكتشف أن الانشغال العربى النقدى كان انشغالا ايديولوجيا فى الأساس.

 ومع بداية الثمانينيات بدأ يظهر شكل جديد من النقد، هو النقد المعرفي، يحاول أن يتجاوز هذا النقد الايديولوجي.
و بدأنا نقرأ عن «نقد العقل العربي» عند الراحل الكبير محمد عابد الجابري، وعن العقل الاسلامى عند الراحل الكبير محمد اركون، وهما المفكران اللذان حاولا تجاوز الايديولوجية.

ولكن أى قارىء لأعمال الجابرى واركون يكتشف اختراق الايديولوجيا لأعمالهما بشكل هائل.


- كيف؟
اعطيك مثالاً عاماً هو مفهوم "العقل الاسلامي"،
 الذى يستخدمه أركون والذى أرى أنه مفهوم أيديولوجى
والمفهوم الأيديولوجى : هو ذلك المفهوم الذى لا يساعدنا على فهم ظاهرة ما فهماً دقيقاً، لأنه يقدم - فى أغلب الاحوال- وجهاً واحداً من وجوهها ولا يقدم كل الجوانب المُكوِّنة لها والمحيطة بها،
 وذلك على عكس المفهوم المعرفى الذى يستوعب كل جوانب الظاهرة، فيسمح لنا بفهمها وفهم آليات تشكلها جيدا.

وعندما اتحدث عن العقل الاسلامي، فإن ما يتبادر الى الذهن هو أنه العقل الذى انتجه الاسلام أو حتى الذى أوصى به وذلك ليس دقيقاً أبداً،

 بينما الأدق أن نقول انه العقل الذى تحققت له السيادة فى الإسلام، وهو الاصطلاح الذى افضل استخدامه.

لأنه مفهوم يخلصنى من الظلال الأيديولوجية التى تسكن مفهوم "العقل الاسلامي". فإن كونه "عقلاً إسلامياً" لا يدع أمامى من سبيل لتفسيره إلا بالإسلام كدين؛ وهو ما لا يمكن اعتباره تفسيراً علمياً ً، بل إنه تفسير ملغوم تماماً لأنه يجعل من نقدى لهذا العقل مثلاً بمثابة نقد للإسلام.

 وأما كونه "عقلاً ساد فى الإسلام" فإنه يساعدنى كباحث على فهم وتفسير ما جرى بخصوص تبلور عقل بعينه تحققت له السيادة فى الإسلام.


- ولكن اركون طرح مفهوم العقل الاسلامى بطريقة نقدية ومعرفية؟

اركون تكلم عن العقل الاسلامى باعتباره عقلا حاملاً لسمات بعينها اكتسبها من الإسلام كديانة وحي،
وأحيانا يتكلم عن الطريقة التى تمت بها صياغة هذا العقل،أى عن عقل صنعه المفكرون والفقهاء بشكل أساسي، أو ما يسميه العقل العليم أو العقل الكتابى أو عقل الوحي، او ذلك العقل المقيد بسلطة الوحي،
أى أن اركون يقدم لنا عقلاً حاملاً لسمات جوهرية، وهذا نمط من الأرسطية الجديدة، وقد تجاوز العالم المفهوم الأوسطى للعقل كجوهر ويتعامل مع العقل كحدث ينبثق ويتشكل ويتكون داخل ثقافة معينة،
 وبذلك فإنه لا يمكن أن نتحدث عن سمات ثابتة للعقل، حيث أن هناك إمكانية لأن تتم عمليات زحزحة داخل فضاء ثقافة ما فى لحظات تاريخية ما، وهذه الزحزحة من شأنها أن تُحدث تحولات داخل هذه الثقافة، تلقى بأثرها على العقل السائد نفسه، وربما تصل إلى إقصائه.
 ولا شك أن فكرة العقل حامل السمات الثابتة تقترب من التصورات الأوروبية العنصرية التى تتحدث عن عقل أوروبى حداثى، فى مقابل عقل شرقى بدائى، وهذه فكرة عنصرية بامتياز.


- هل تعنى أن هذا غاب عن عقل جبار كعقل أركون؟ 

أعرف أن باحثا بحجم محمد أركون استخدم مفهوم العقل الإسلامى وفى ذهنه أن يستخدمه معرفيا وأن يقدم نقدا معرفيا له،
 لكن الطريقة التى تم بها استخدام المصطلح فتحت الباب لحضور الأيديولوجيا- واختراقها للجانب المعرفى فى بنية المصطلح.
 وفيما يخص مفهوم العقل الذى ساد فى الإسلام؛ فدعنا نوضح أولاً أننا نعنى بهذا المفهوم سيادة طريقة بعينها فى التفكير داخل ثقافة الإسلام.
 وقد تبلور داخل هذه الثقافة ما يمكن اعتباره طرائق فى التفكير، لكن واحدة فقط من هذه الطرائق قد تحققت لها السيادة داخل تلك الثقافة، لأسباب يمكن اكتشافها داخل التاريخ بالطبع.
وكمثال
فإنه إذا كان (الأشعري) قد بلور طريقة فى التفكير تقوم على الاستدلال بالخبر أو النص (فالنص هو الأصل فى أى معرفة)، فى مواجهة طريقة أخرى بلورها المعتزلة وتقوم على الإستدلال بالمُشاهدات الواقعة
(وبمعنى أن الواقعات هى أصل المعرفة)؛
 فإن الغالب على الممارسة العربية الآن يكشف عن تحقق السيادة لواحدة من هاتين الطريقتين (أو العقلين) على حساب الأخري.


-هل تنطبق ما تسميه" القراءة الايديولوجية" على طروحات محمد عابد الجابرى؟

إن اختراق الأيديولوجيا لأعمال الجابرى 
يكاد يكون أوضح منه مما عند اركون،
 لأن الجابرى كان يمارس نوعاً من "الإكراه المعرفي"، حيث إن المفهوم الأساسى الذى كان يعمل الجابرى من خلاله هو "القطيعة المعرفية" بين المشرق العربي، والمغرب العربي،
وهى منطقة مسكوت عنها فى خطاب الجابري.
 فالعقل المشرقى بيانى ثم عرفانى بمصطلحات الجابري، وليس عقلاًبرهانياً
 (كالعقل المغربي)،
 وهو المسئول عن الهزيمة العربية، لأنه عقل لا يفكر،
 و مقيد بقطعيات ثابتة، وعندما قدم الجابرى العقل المغربى قدمه من خلال نماذج برهانية - بحسب تصوراته- حيث قدم ابن خلدون، والشاطبي، وابن رشد، وسكت عن اسماء تنتمى للعقل البياني، واخرى تنتمى للعقل العرفاني.
 كما أن ابن خلدون الذى جعله الجابرى "عقلانياً برهانياً"،
 لا يمكن فهمه بعيداً عن البيانية الأشعرية.
بل إن ابن خلدون نفسه يعتز فى مواضع كثيرة باشعريته، كما ان المقولات المركزية التى كان يعمل بها فى مقدمته الشهيرة هى مقولات أشعرية صاغها الغزالى من قبل فمفاهيم مثل "الطبع" الذى عمل به ابن خلدون فى طبائع العمران، ومفهوم "الغلبة"والعصبية والشوكه ـ وهى من المحركات الأساسية للسياسة والإمامة تبلورت فى عمل الغزالي، قبل ابن خلدون.
إن ذلك يعنى أن مفهوم القطيعة المعرفية الذى اشتغل به الجابرى مفهوم مفروض من أعلي، وأعنى بذلك أنه قد فرض عليه نوعاً من الجغرافيا التى يتمايز فيها المغرب معرفياً عن المشرق، كما يفرض عليه السكوت عن الاختراقات فى الأنساق المعرفية بين الشرق والغرب.


وهل توافق على مقولات جورج طرابيشى فى نقده لمشروع الجابري؟

ـ طرابيشي لم يفعل شيئا سوى إعادة إنتاج منظومة الجابرى على نحو معكوس، حيث حاول رد الاعتبار للمشرق الذى ظلمه مشروع الجابري.
 وأعنى أن مفهوم المركزية والأصالة الذى ينتجه الجابرى لصالح المغرب، لا يفعل طرابيشى إلا أن يعيد إنتاجه لصالح المشرق.
 وإذن فإننا بإزاء مفهوم واحد يُعاد انتاجه بصرف النظر عن الحمولات التى تُعطى له. 


- الجابرى قرأ العقل العارف، وأركون قرأ العقل العليم فأين العقل «الثقافي» الشعبى من مشاريع قراءة التراث؟

العقل الشعبى فى حاجة إلى فحص كبير وتحليل لمنطقه وتجلياته، واكتشاف طرائق اشتغاله، ورغم ما يبدو من بعض الدراسات هنا وهناك، فإن الغالب، على العموم، هو أن مشاريع قراءة التراث العربى قد سكتت عن هذا العقل، لسوء الحظ.


- هل لذلك ارتباط بالتنكر الثقافى للواقع؟

يحتاج مفهوم الواقع إلى ضبط كبير،

ولكن يبقى على أى حال أن إهمال بلورة مفهوم منضبط للواقع فى المشاريع الفكرية العربية لا يرتبط فقط بما تراه من إهمال الموروث الشعبى فى تلك المشاريع.
 فإن إهمال الواقع يتعدى مجرد ذلك إلى ما يتعلق بكيفية تصور الواقع من خلال مجرد الاختزال الايديولوجى فى تلك المشاريع.
 وتلك هى المعضلة الكبري.

وأما فيما يخص إشارتك السابقة إلى :

الجابرى (والعقل العارف) وأركون (والعقل العليم)
فإنها تكشف عن اتفاقهما على تجاهل حقبة الثقافة غير المكتوبة، وأعنى بها ثقافة المنطقة العربية قبل الإسلام، والتعاطى معها باعتبارها صفحة "بيضاء" لم تؤثر بأى شكل من الأشكال على العقل الذى تشكل بعد ظهور الاسلام.
 و اللافت ان القرآن الكريم والسنة النبوية لم ينظرا إلى هذه الفترة السابقة على الاسلام نظرة اقصاء، بل ان هناك فى الاثر اعجابا بتلك الفترة وبعض قيمها يلخصها القول "خيركم فى الجاهلية خيركم فى الاسلام».

وأنا ارى أن قراءة هذه الفترة التاريخية يمكن ان تعطينا مفاتيح اساسية لفهم العقل الذى ساد فى الاسلام.

ولعلنا عندما نتحدث عن الإعجاز البلاغى للقرآن الكريم، نعنى أنه كان يتحدى منظومة من الأفكار والأساليب ولم يكن يتحدى صفرا، ولذلك أندهش من تجاهل الجابرى واركون لهذه المنطقة المعرفية التى يكشف التحليل عن أنها لعبت دوراً بالغ المركزية فى بناء العقل الذى ساد فى الإسلام.


- ما هو السؤال الرئيسى الذى كان يشغلك فى قراءتك للتراث:
السؤال عن الانسان، أم العقل؟

قراءتى تقوم على المساءلة، وأنا من المؤمنين بأن انحطاط المجتمعات يبدأ من غياب السؤال.

 ومساءلة التراث ونقده ـ كما امارسها ـ تنبع من تقديرى العميق للتراث، لأن المنجز التراثى يملك من القيمة الكبرى ما لا يخوِّل لنا أن نتعامل معه بمجرد التلقى والقبول والصمت، فإن ذلك يمثل استهانة به، بل وحتى إهانة له.
إن احترامه يفرض علينا، فى المقابل، أن نحاوره ونتفاعل معه بالتفسير والفهم، وحتى النقد. إن هذا هو الاحترام الحقيقي، وأما ما يراه البعض من احترامنا للتراث يعنى أن نقلده ونكرره، فإنه لا يعنى ألا ندخل به إلى دائرة الجمود والإضمحلال؛ الذى هو قرين التقليد والتكرار. وفى كلمة واحدة، فإن حياة التراث الحقة ترتبط بالتفاعل المعرفى النقدى معه.


- لماذا برأيك ساد العقل الأشعري« فى التراث الاسلامي؟

لأسباب شتى أهمها على الإطلاق أنه "عقل سلطة".
 فهو عقل تلق وتبرير؛ وتلك هى السمة البنيوية لعقل السلطة. ومن هنا راحت السلطة تفرضه على الكافة، باعتبار أنه عقل الإسلام.
وهكذا يتم تنسيبه إلى الإسلام بالقول أنه "العقل الإسلامي"- بألف ولام العهدـ وبما راح يتخفى وراء تلك النسبة من حقيقة أنه كان العقل الذى قامت تلك السلطة بتسييده لما يؤديه لها من خدمات كبري.
ولعلى أشير- فى هذا السياق- إلى أن هذا العقل لا يزال يفرض سطوته على الواقع الذى نعيشه الآن. ومن هنا فان السعى لفهمه هو- فى جوهره- سعى لفهم هذا الواقع والسيطرة عليه توطئة لتغييره إلى الأفضل.فالتراث هو أقرب ما يكون إلى الصندوق الذى يختفى فيه مفتاح فهم واقعنا.

اسطورة الاشعري


- ماذا تعنى بهذا الواقع؟

يمكن أن نميز فى الواقع بين مستويين:

 الاول: مستوى الممارسة على السطح،
والثانى: مستوى الفكرة العميقة الكامنة تحت السطح.
 ومشكلتنا الاساسية اننا فصلنا بين هذين المستويين، وانشغلنا فقط بمستوى السطح او الممارسة الظاهرة.
وكمثال على ذلك، 
أشير إلى الديمقراطية التى انشغلنا برسومها وإكسسواراتها بأكثر من انشغالنا بجوهر ما تقوم عليه فى العمق.
 ومن هنا أننا إستوفينا الشكل الديمقراطي، ولكن هذا الشكل تحول إلى قناع تتخفى وراءه إرادة المتسلط المنفردة.
فتحت الشكل الديمقراطى ترقد بنية أبوية تسلطية عاتية؛ وهى بنية تجد ما يؤسسها كاملاً الفكرة الأشعرية.
وهكذا فإن هذه الفكرة الأشعرية هى ما يشكل جوهر ما يسكن تحت سطح الواقع. ومن هنا فان تفكيك الأشعرية هو من أجل الإمساك بما ينتظم عمق الواقع الذى نعيشه اليوم.
ولعل أحد المداخل إلى هذا التفكيك تنطلق من فهم مسيرة أبى الحسن الأشعرى نفسه؛ وهو الذى بدأ مسيرته الفكرية معتزليا ثم تحول فى سن الاربعين تحولا درامياً بلا مقدمات تمهد لهذا التحول.
 حيث تقول الروايات انه رأى النبى (صلى الله عليه وسلم) فى منامه فى العشر الاوائل من شهر رمضان،
 وقال له النبي:
 أترك ما أنت عليه، وانصر مذهبي، وفى العشر الثوانى ظهر النبى مرة أخرى للاشعرى فى المقام وسأله عما فعل بخصوص ما طلبه منه. ثم ظهر له مرة ثالثة فى العشر الاواخر من رمضان مؤكداً على ضرورة تحقيق هذا المطلب.
 فما كان من الأشعرى بعد هذه الرؤى الثلاث إلا أن خرج للناس خاطباً فيهم:
 أنه قد تاب عن الاعتزال وانخلع عنه، وأنه سيقوم بكشف كل فضائح المعتزلة ومخازيهم.
 وهكذا تقدم الرواية انقلاب الأشعرى على الاعتزال على أنه كان استجابة لمطلب سماوى نبوي. ولقد قمت بقراءة مدققة لتلك الرواية فى إطار ما هو معروف عن حياة الأشعري، وبدا لى أنه يمكن تفسير إنقلاب الأشعرى على الاعتزال على أنه كان استجابة لمطلب سياسى نفسي. 
إنه يمثل أحد تجليات نظرية قتل الأب.


- لا أومن بنظرية "قتل الأب" كما روج لها فرويد ولكنى أسأل عن علاقة الأشعرى بهذه النظرية؟

ـ تزوجت والدة أبى الحسن الصبى من أحد كبار شيوخ المعتزلة بعد وفاة والده. وبالتالى فإنه يمكن فهم سلوكه ضد الإعتزال من خلال نظرية "قتل الأب"،

 لأن انقلابه العنيف والمفاجئ لا تفسير له من زاوية منطق التطور المعرفي.
 ولعل ما يُزيد الصورة وضوحاً يتجلى فيما يبدو أنه توحُّد الأشعرى مع أحمد إبن حنبل وخطابه؛ حيث يتحدث الأشعرى عن أصول أربعة لمذهبه هى الكتاب والسنة والإجماع وما قال به أحمد بن حنبل.
 إن الدلالة هنا تتمثل فى أن إبن حنبل كان مثل الأشعرى ضحية للمعتزلة؛ ولذلك إرتفع به الأشعرى إلى مقام الأصل الذى يفكر به.
 وإذن فإنها الرغبة فى الإنتقام من المعتزلة هى ما تجعله يتوحَّد مع خصمهم اللدود إبن حنبل؛
 وهو إنتقام راح يعبر عن نفسه فيما يطفح به خطابه من عنف لغوي.

أما مسألة الرؤيا فإنها نوعٍ من التغطية على هذه الرغبة فى الإنتقام التى تجد ما يفسرها فى المكبوت النفسي، والتى تلاقت مع ما يمكن القول أنه إحتياج سياسي، فكان هذا الإنفجار العارم لتلك الرغبة.

ولعله يمكن الإشارة- فى سياق هذا التحول للأشعري- إلى تحول نقيض قام به القاضى عبد الجبار الذى بدأ أشعريا، وإنتهى معتزليا، ولعل بقايا الأشعرية التى لم تفارقه قد أسهمت فى تقويض الفكر الإعتزالى من داخله.


- تقول بـ "لاعقلانية" الأشاعرة، مع أنهم يقدمون على أنهم ممثلو الوسطية العقلانية فى الخطاب الإسلامي؟

فى الحقيقة يمكن القول أن الجوانب العقلية فى الفكر الأشعرى تعمل فى سياق مجرد التبرير، أو تعمل كمجرد قناع شكلى فقط ؛ وأعنى من دون أن تكون قادرة على مساءلة المنهج الأشعري، ونقده.

وإذا كان الأشاعرة قاموا بتكريس سلطة النص على حساب العقل، وتثبيت مفهوم العقل المقيد بأصل مُعطى سلفاً، 
فإنهم فيما يتعلق بالإنسان جعلوه بلا حول ولاقوة.
 إذ ليس من فاعلية للإنسان فى الخطاب الأشعري، لأنهم يتبنون نظرية الفاعل الأوحد على الحقيقة، والتى يكون معها البشر مجرد فاعلين بالمجاز؛ وهى نظرية ذات وظائف وغايات سياسية زاعقة، رغم سعى القائلين بها إلى القول بأن غايتها صيانة التوحيد الخالص.
 ولعل ما يؤكد على الدور السياسى لهذه النظرية يأتي- أولاً- من تأكيد المعتزلة على أن الجبر، وهو جوهر هذه النظرية، عقيدة أموية (أى سياسية)، كما أنه يتجلى فى أنها تمثل، وللمفارقة، تهديداً لنقاء التوحيد.
 ويظهر هذا التهديد واضحاً إذا ما إنتقلنا بهذه النظرية إلى الميدان الإجتماعي؛ حيث نجد أنها تؤدى إلى نتائج مُهددة لنقاء الوحدانية على نحو كامل.
 فحين يتحدث الأشاعرة عن أن غلاء الأسعار ورخصها يكون من الله، لأنه هو الذى يخلق رغائب الشراء عند الناس، ويوفر للبعض منهم الدواعى على الإحتكار.
 وبالطبع فإن جعل الله قناعاً للمحتكرين - على هذا النحو - لا يمكن أن يكون ناتجاً عن الحرص على نقاء التوحيد، بل إنه يلوث هذا النقاء.

ومن جهة أخري، فإنه إذا كانت عقيدة الجبر تضع الله فى مواجهة مع البشر، فإن المواجهة الحقيقية هى بين البشر أنفسهم؛ الذين يتخذ البعض منهم وضعية الحاكم فى مواجهة المحكومين، وما يحدث فقط هو أن الحاكم قد أراد لعلاقته مع المحكوم أن تكون علاقة إكراه وجبر، فما كان منه إلا أن راح يتخفى وراء الله. ومرة أخري، فإن جعل الله قناعاً للمتسلط المستبد لا يمكن أن يكون نقاء للتوحيد.

 لايتعلق الأمر، إذن، بما يعلنه الأشاعرة من القصد إلى إفراد الله وحده بالفعل،
 بل يتعلق بما يخفونه من القصد إلى التغطية به (أى الله) على أفعال الاحتكار والاستبداد وغيرها من أفعال الظلم السياسى والإجتماعي.
 وأظن أن ذلك ليس من قبيل التوحيد، بل إنه من صميم السياسة.
بل إنه يجوز القول انه من قبيل الشرك الصريح. وهكذا يجعلنا الأشاعرة نتعبّد الله بموقف سياسي، يقولون عنه إنه التوحيد.

- هل لهذا تعمل على نزع القداسة عما هو غير مقدس؟

ـ لعلك تندهش عندما تدرك أن الله نفسه كان "يؤنسن" ما يوحى به إلى البشر من علم ومعرفة.

 وبالطبع فإن ذلك يرتبط بأن قصده من الوحى هو أن يتفاعل معه البشر فهماً وتفسيراً. فالهدف هو أن يتحول الوحى إلى فاعلية إيجابية تئول إلى تغيير العالم إلى الأفضل.
وإذ "يؤنسن" الله وحيه للبشر- على هذا النحو- لكى يفهموه،
 فإن الغريب حقاً أن يضفى البشر هالات من القداسة على ما ينتجوه هم من الأفكار والمذاهب؛ وعلى النحو الذى راحت معه مذاهب فقهية وعقائدية، تتعالى إلى مقام المقدس الذى لا مجال فيه إلا لمجرد التلقى والقبول بلا أى نقد أوحواربالطبع
ولذلك لابد من نزع أقنعة التقديس عن تلك المذاهب والأفكار؛
 وذلك عبر فهمها فى سياقها التاريخى والمعرفى الذى تبلورت داخله، على نحو يسمح للعقل بإنتاج معرفة تتجاوب مع التحديات التى يفرضها الواقع. 


- ماذا تعنى بأنسنة الوحى؟

كمثال على أنسنة الله لمعارفه الموحاة للبشر،

 دعنا نقرأ إلى قصة النبى موسى مع الخضر التى يبدو فيها النبى عاجزاً عن فهم أفعال الخضر (من خرق السفينة وقتل الغلام وهدم الجدار) إلا حين يتم ردها إلى السياق الذى يجعلها مفهومة.
 وهكذا يرد الله الأحداث إلى سياقها الأشمل لكى تصبح مفهومة؛ وبالطبع فإنه لا معنى لنزع أقنعة التقديس عن مذاهب ومعارف البشر إلا بردها إلى سياقها الذى تصبح داخله مفهومة.

ونحن لا نفهم ذلك من القرآن، لأننا نكتفى بما قال عنه "ابن كثير" انه "الحمل الحسي" له، وليس "الحمل المعنوى العقلي".

فأى متابع للمشهد الإسلامى يجد أن الغالبية منا لا تحمل القرآن وحده حملاً حسياً،
 بل إننا نحمل ديننا كله هذا الحمل الحسي؛ حيث تحولت العبادات الى مجرد طقوس شكلية مظهرية، وبات خطابنا مركزاً فقط على قضايا الشكل كالحجاب واللحية والزي، ومتجاهلا لقضايا مثل الاستبداد والاحتكار واغتصاب الحقوق الفردية والجماعية وغيرها.
وبالطبع فإن هذا الخطاب الذى يهمل ما يتعرض له الناس من مظالم لا يكف عن مطالبتهم بأن يقابلوا ذلك كله بالطاعة والصبر.


- ألا ترى أن اتهام الاشعرى ابن القرن الرابع الهجرى او العاشر الميلادى بانتاج الديكتاتورية فى القرن الحادى والعشرين يجافى المنطق والتاريخ؟

دعنى أقل مرة أخرى أنى لست مشغولاً بالأشعرى (الشخص)

بقدر ما أنا مشغول بما أنتجه من خطاب لا تزال له السيادة والهيمنة فى الواقع الاسلامي.
 وحتى حين أتحدث عن هذا الخطاب فإن ما يهمنى فيه هو ما أنتجه هذا الخطاب الأشعرى من "عقل" لا يعرف إلا أن يفكر وهو يخضع على الدوام لسلطة ما تقوم خارجه. وإذن فإنه من نوع العقل الخاضع غير المستقل.
 وبالطبع فإن عقلاً كهذا هو ما يؤسس لكل إستبداد وديكتاتورية، لأن الديكتاتورية فى الواقع هى فرع على الديكتاتورية القائمة فى العقل.
 وتبعاً لذلك فإنه لن يكون ممكناً تجاوز ديكتاتورية القائمة فى الواقع إلا بتفكيك ما يؤسس لها فى نظام العقل أولاً.


- ولكن ما الذى جعل الأشاعرة أباء روحيين للسلطة و الطغيان؟

لا توجد سلطة أو دولة إلا وهى فى حاجة إلى عقيدة أو ايديولوجيا تؤسس بها لشرعيتها وقبول الناس لها.

 وما يجعل سلطة ما تتخذ من عقيدة ما غطاءً لها هو مدى ما تقدمه تلك العقيدة لها من الرسوخ والثبات والحماية من كل أشكال المعارضة والتحدي.
ولعله يمكن القول انه بقدر ما تكون العقيدة سلطوية بقدر ما لابد أن تكون الأكثر تجاوباً مع طبيعة تلك الدولة التى تسيَّدت التاريخ السياسى للإسلام؛
والتى قامت- حسب الكثيرين من الأشاعرة أنفسهم- على مفاهيم الغلبة والعصبية والشوكة (بحسب تعبيرات الغزالى وابن خلدون).
إن سلطة تقوم، هكذا، على محض "القوة" بكل ما تحمله من معانى الإكراه والعسف والإخضاع، هى فى مسيس الحاجة إلى غطاء عقائدى يعمل على ترسيخ معانى الطاعة والخضوع. وهكذا كانت الأشعرية، بكل ما تئول إليه من تثبيت آليات التلقى والإذعان والخضوع، هى العقيدة الأنسب والأكثر تجاوباً مع معطيات دولة القوة والإكراه التى تسيَّدت معظم التاريخ الإسلامي.
 فليس من شكٍ فى أن عقيدة تكرس قبول الاحتكار والقتل والغصب من خلال نسبتها لهذه الأفعال إلى الله بما هو فاعلها
 بحسب نظرية الفاعل الأوحد المُشار إليها سلفاً، وتنزع الفاعلية عن الإنسان (محكوماً)، فى الوقت الذى تنزع فيه المسئولية عن الإنسان (حاكماً)، لا يمكن أن يوجد أفضل منها غطاءً لدولة "القوة والعصبية" العربية.


- كيف تم استنساخ الخطاب الأشعرى فى المشهد الحالى؟

يحضر الأشعرى فى المشهد الراهن بخطابه المتخفى تحت أردية الحداثة الشكلية التى تعرفها المجتمعات العربية،

 ولكنه يحضر أيضاً من خلال حضوره الطاغى فى الخطاب السلفي.
 فقد إستعار إبن تيمية بنية خطابه بأسرها من الأشعري؛ وبالذات من كتابه الذى أسس فيه طريقته فى التفكير "رسالة إلى أهل الثغر" التى يكاد إبن تيمية أن يستعير أفكارها بقاموس مفرداتها.
 وهكذا يخترق الأشعري - ولست أقول الأشعرية- خطاب السلفية فى تجلياته الكلاسيكية والحديثة.
 إن طريقة استدلال الأشعرى بالنص هى ما سيستفيد منه إبن تيمية، وما سوف ينسرب منه بعد ذلك إلى الأتباع المعاصرين.
والحق أن العلائق بين المذاهب والأفكار والشخوص داخل الإسلام تحتاج إلى تدقيق يتجاوز التصنيفات الشائعة المستقرة.
وفيما يخص إبن تيمية فإنه إذا كان قد أخذ من الأشعرى "نصيته" فيما يخص تعامله مع أصول الإسلام، فإنه أضاف إليها "نقديته" فيما يخص تعامله مع أصول اليونان. وإذا كان أتباعه المعاصرون إحتفظوا منه بنصيته،
 فإن ذلك يعنى أنهم إحتفظوا بجانبه الأشعري، وليس النقدى وتلك مفارقة تثير العجب حقاً!.

تم النشر بجريدة الأهرام بتاريخ 30 ديسمبــر 2011
بقلم : محمد حربي


الخميس، ديسمبر 15، 2011

الدولة والإبريق‏..‏ هامش فلسفي علي أمثولة الأستاذ البشري



 مضي أسابيع علي نشر جريدة الشروق مقالاً للأستاذ طارق البشري في الجدل حول الدينية والمدنية فإن أهمية الموضوع تقتضي إستئناف الحوار حول ما يثيره من أفكار تبدو في حاجة إلي التفنيد والرد‏.‏
وإذ أقام الأستاذ مقاله علي أمثولة, مستعارة من مولانا جلال الدين الرومي, فإن تفكيك تلك الأمثولة سيكون مدار الإنشغال في هذا الحوار.
تحكي الأمثولة عن شيخ طلب من تلميذه الأحول أن يأتيه بإبريق الماء الخاص به. ولما صور له الحول الإبريق إبريقان, فإنه قد إحتار أيهما يأخذ, ثم هداه تفكيره إلي أن يكسر أحدهما ويأخذ الآخر, لكنه لما كسر أحد الإبريقين لم يجد الآخر.
 ويرتب البشري علي ذلك, أن جماعات المصريين التي تري الدولة الدينية والدولة المدنية, دولتين, وليستا دولة واحدة, إنما تعاني من نفس داء التلميذ الأحول. وبالطبع فإن عليهم أن يوقفوا حجاجهم ضد الدولة الدينية; لأنهم إذا كسروها لن يجدوا الأخري.
للوهلة الأولي, ينصرف الظن إلي أن قصد الأستاذ من توظيف الأمثولة هو قصد معرفي يتمثل في إيضاح فكرته وتقريبها للأفهام, ولكن قراءة مدققة للسياق الذي يجري توظيفها فيه يكشف عن دور إيديولوجي يراد لها أن تلعبه, ويتمثل في إقصاء الخصوم تثبيتا لإتجاه سياسي بعينه. فحين يوضع المصريون القائلون بالتعارض بين الدولة الدينية والدولة المدنية, في خانة المرضي الذين تجعلهم أنظارهم الكليلة يتوهمون ما لا حقيقة له من التعارض بينهما, فإن الإقصاء وحده لن يكون مصيرهم, بل إنه سيكون واجبا إحتجازهم في المشافي, فلا يبرحوها إلا وقد برأوا من توهماتهم الكليلة.

ولعل ما يؤكد علي الدور الإيديولوجي وليس المعرفي لتوظيف الأستاذ البشري للأمثولة, يتمثل في أنها إذا كانت تندرج في إطار التفكير بالتمثيل أو التشبيه, فإن كفاءة هذا النوع من التفكير ترتبط بإنتماء طرفيه( المشبه به والمشبه) إلي مجال وجود واحد; وبمعني أنه لا يمكن نقل صفة الموجود الحقيقي إلي الموجود الإعتباري لإختلاف مجالي الوجود.
وهكذا فإنه لا يمكن نقل صفة المريد الأحول( الذي هو موجود حقيقي) إلي الشعب المصري( الذي هو موجود إعتباري); وذلك تماما كما أن الإبريق( الذي هو موجود حسي) لا يمكن أن يكون معادلا للدولة( التي هي موجود معنوي). وحين يدرك المرء أن تباين مجالات الوجود يستوجب تباين طرق الإدراك, فإنه يترتب علي ذلك عدم جواز تمثيل ما يتصوره المصريون من التعارض بين الدولتين( الدينية والمدنية) الذي هو من قبيل الإدراك العقلي, بما يصوره الإدراك الحسي المخادع للمريد الأحول من أن الإبريق الواحد إبريقان. وبالطبع فإنه لا يمكن الإدعاء ـ تبعا لذلك ـ بأن إحتجاج المصريين ضد الدولة الدينية سيؤدي إلي تحطيم الدولة( كمفهوم وكيان) علي العموم, بمثل ما أدي خداع البصر, في حال المريد الأحول, إلي تحطيم الإبريق الحقيقي.
وفضلا عن ذلك, فإن وعيا بالسياق الذي تشتغل فيه الأمثولة عند كل من مولانا جلال الدين والأستاذ البشري يكشف عن التباين الكامل بينهما في القصد من توظيفها. فإنه كان يمكن لمولانا الرومي أن يجعل مريده الأحول يهوي بفأسه علي النسخة المتوهمة للإبريق ليكسرها, وذلك بدلا من نزوله بها علي الإبريق الحقيقي. لكنه أراد له أن يكسر الإبريق الحقيقي, ليؤكد له مدي ما يمكن أن يؤدي إليه خداع الحواس من التضحية بالوجود الحقيقي; وذلك ليتسني له الإرتقاء من أحبولة الحواس المخادعة إلي ضروب أرقي من الإدراك العقلي والذوقي. وهكذا فإن الشيخ ليس منشغلا بنقد حواس مريده المخادعة العليلة, إلا بقدر ما يؤدي إليه هذا النقد من الترقي به في معراج الإدراك المجاوز للحس.

والحق أن المدنية هي المتلازمة التي إذا سقطت, فإن الدولة تسقط معها آليا; وأعني من حيث أن قوام الواحدة منهما يكون بالآخري. فإنه لا قوام للدولة ـ بحسب أي قراءة تاريخية أو معرفية ـ إلا بالمدنية, تماما بمثل ما لا قوام للمدنية إلا بالدولة. إن ذلك يعني أن سقوط المدنية ولا شيء غيرها, هو ما يؤول إلي تحطيم الدولة وإنحطاطها فعلا. فإذ الإجتماع المدني هو المنشئ للدولة بحسب ما هو معلوم, فإن ذلك يرتبط بأنه لا قوام لهذا الإجتماع المدني إلا بالدولة, والعكس. ومن حسن الحظ, أن ذلك ما تنطق به النشأة التاريخية للدولة, وذلك فضلا عن المفهوم المستقر لها في الفكر السياسي.

وحتي إذا إحتج أحدهم بأن للعرب تجربة مختلفة مع الدولة, يكشف عنها قول ابن خلدون:
 إن العرب لم يحصل لهم الملك إلا بالدين
 فإن ما قاله تفسيراً لذلك يكشف عن أن الدين لم يكن بديلا للإجتماع المدني كأساس للدولة, بقدر ما كان هو السبيل إلي تحصيل هذا الإجتماع.
 وإذن فإنها كانت تجربة خاصة يربطها ابن خلدون بما كان عليه العرب من خلق التوحش الذي جعلهم أصعب الأمم إنقيادا..., فإذا كان الدين سهل إنقيادهم وإجتماعهم. وهكذا كان حضور الدين مرتبطا بتسهيله للإجتماع المدني; وعلي النحو الذي تكون معه المدنية هي الغاية من ظهور الدين.
 والمهم أن ذلك يبقي جزءا من تجربة خاصة بالعرب, ولا يمكن تعميمها خارج سياقها. ففي مصر مثلا, كان النهر ـ وليس الدين ـ هو المسهل لإجتماع أهلها المدني. ولعل ذلك يعني أن تجربة العرب مع الدولة لا تخلخل قاعدة أن قوام الدولة يكون بالمدنية; بل إنها, علي العكس, تؤكد أن حضور الدين قد إرتبط بتحصيل المدنية. وهكذا, فإن الدين ليس هو المتلازمة التي يؤدي تحييدها إلي كسر الدولة, بل إن المدنية هي المتلازمة التي تزول مع زوالها الدولة.
 ولعل الدليل علي ذلك يأتي كاشفا من الصومال; التي تلازم سقوط الدولة فيها مع ما جري من الغياب الكامل للمدنية التي تكشفها مجرد نظرة علي شوارع عاصمتها المدمرة, ولم يتلازم هذا السقوط للدولة مع غياب الدين الذي راح يجري, علي العكس, إستدعاؤه لكي تتناحر الفصائل الصومالية المتحاربة تحت راياته. ولكن ما هو جوهر تلك المدنية التي هي قوام الدولة؟
لعل ما يلفت النظر حقا, أن معظم المتجادلين حول المدنية يركزون علي تعريفها بما يتصورون أنه نقيضها( العسكري والديني), ولا يتوقفون عند جوهر ما تعنيه بمعزل عن نقائضها. ولعل جوهر المدنية هو وعي البشر بضرورة العيش المشترك, مع وجوب أن ينضبط هذا العيش بقانون يتوافقون عليه; وبحيث يتجاوزون حالة ما قبل المدنية التي كان الفرد فيها منشغلا بإشباع مجرد حاجاته الأنانية معتمدا علي قوته, ولو علي حساب الآخرين.
 ولأن القانون يكون تعبيرا عن إرادة الناس ووعيهم, فإنه لا يمكن أن يكون جامدا, وإلا فإنه لن يكون ممكنا إلا فرضه علي الناس بمحض القوة الباطشة المستبدة. وغني عن البيان أن هذا الفرض علي الناس بالقوة هو ما يمثل التهديد الأكبر ليس فقط للمدنية, بل وللدولة التي سيكون مآلها السقوط والتفكك إذا ما قامت علي مبدأ الفرض الإكراهي لشرعيتها بالقوة علي الجماعات المكونة لها.

وترتيبا علي ذلك, فإن ما يقوم به الصاخبون في مصر من إستدعاء الدين كمنظومة فقهية جاهزة وثابتة, ليجري فرضها كرها علي المسلمين وغيرهم( بسبب ثباتها وجمودها), هو ما يمثل التهديد الأكبر للمدنية والدولة معا. وللمفارقة, فإنه يمثل تهديدا للدين أيضا; وعلي النحو الذي لابد معه أن يكون الدين موضوعا للتفكير ليستوعب حركة الواقع, فيستوعبه الواقع بالتالي. ومن حسن الحظ أن ذلك ما يدفع إليه الإسلام فعلا, وذلك علي عكس ما يتصور أولئك الصاخبون من الذين يغطون علي بلادة العقل بإرتفاع الصوت.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 15 /ديسمبر /2011

الخميس، ديسمبر 01، 2011

طلب النبي واستجاب الله‏!‏





حين تعود الأمة بذاكرتها إلي العصر النبوي الزاهر‏,‏ فإن أحد المشاهد التي تظل ماثلة في وعيها‏:‏ مشهد
الصحابة رضوان الله عليهم. وهم يتلقون آيات القرآن الكريم من فم الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم, ثم يسارعون إلي إنفاذها وتطبيقها دون إبطاء أو تسويف.
يتجاوز القصد من إيراد هذا المقتطف مجرد تصوير موقف صاحبه( الذي هو الآن أحد أعلام المؤسسة الدينية الكبار). إلي كونه يعبر, بدقة, عن التصور الذي إستقر بين جمهور المسلمين, للكيفية التي تعامل بها مع القرآن, الجيل الأول من المسلمين الذين تلقوه من النبي الكريم مباشرة.
يقوم التصور, إذن, علي أن الصحابة قد تلقوا القرآن, وفهموا معانيه المحددة ودلالاته المنضبطة, ليطبقوها من دون إبطاء أو تسويف, ثم تلقف علماء الأجيال التالية تلك المعاني المحددة والدلالات المنضبطة, ليؤصلوا منها الأصول ويجعلوا منها سياجا منيعا يصون قدسية القرآن, لكي تنتهي تلك المعاني والدلالات إلي وعي الأمة ثابتة راسخة مستقرة. ورغم بساطة هذا التصور ومثاليته التي أتاحت له سهولة الإستقرار والرسوخ, فإن إنشغاله بتثبيت السلطة(سلطة الصحابة, ثم سلطة من تلقوا عنهم من علماء الأجيال التالية, والرجل أحدهم لا محالة), يتجاوز إنشغاله بالحقيقة.
إذ الحق أن نظرة مدققة علي مايعرضه تكشف _ أو تكاد _ عن أن مايسكنه من بلاغة الكلمات يفوق بكثير ماينطوي عليه من الوقائع والحقائق. ولربما كانت الحقيقة الظاهرة التي يعرض لها هذا التصور, هي ما أورده من أن علماء الأجيال التالية من الأصوليين وغيرهم, قد مارسو ضروبا من التقييد والتضييق التي إنتهي معها التعدد في مجالي القراءة والمعني الذي إنطوت تجربة الصحابة مع القرآن, إلي آحادية صارمة للقراءة والمعني.
 وبالطبع فإن الرجل لايري في ماقام به هؤلاء( العلماء) إلا أنهم قد صانوا المعاني المحددة والدلالات المنضبطة التي كانت للقرآن في ذهن الصحابة, وأوصلوها إلي وعي الأمة لتبقي ثابتة وراسخة فيه, وذلك علي الرغم من حقيقة ماتكشف عنه القراءة المدققة للمصادر القديمة من أن هؤلاء العلماء قد إنتقلوا بالمسلمين ـ من خلال مامارسوه من إختيارات أو حتي إنحيازات لقراءات وآراء بعينها, وتشوية وإزاحة مايختلف معها ـ من سعةالتعدد إلي ضيق الأحادية, الذي تعاني منه المجتمعات الإسلامية الراهنة علي كافة الأصعدة تقريبا.
والحق أن الأمر لايتجاوز حدود السعي إلي تثبيت ماينطوي عليه هذا التصور من أحادية القراءة والمعني فيما يخص القرآن, ولو كان ذلك عبر طمس حقيقة تجربة الصحابة مع القرآن, والتي تكشف ماتورده عنها المصادر المعتمدة من جانب أهل السنة, بغزارة ملفته, عن ماتنطوي عليه من ثراء يتآتي من أنهم كانوا بشرا, لم يختلفوا في فهمهم للقرآن فحسب, بل وآختلفوا في قراءتهم له, بحسب مايقوم بين قبائلهم من إختلاف اللسان, ولو كان ضيئلا. بل إنهم قد تلكأوا ـ بحسب المصادر نفسها ـ في إنفاذ بعض ماكان يشق عليهم بسبب تعارضه مع تقاليدهم الموروثة.

ومن هنا ماأورده الطبري في تفسيره من أنه حين نزلت آية المواريث في سورة النساء التي جعلت للأنثي وللطفل نصيبا من المال, حرمتهم منه التقاليد المتوارثة
( لأنهم لا يقومون بالغزو وهو أصل الثروة في المجتمعات العربية القديمة),
 فإن ذلك كان شاقا علي الناس حتي لقد قالوا  والرواية للطبري ولغيره من المفسرين أيضا تعطي المرأة الربع والثمن, وتعطي الإبنة النصف, ويعطي الغلام الصغير, وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ويحوز الغنيمة, إسكتو عن هذا الحديث لعل رسول الله صلي الله عليه وسلم ينساه أو نقول له فيغيره. ورغم أن السماء لم تغير حكما, وأنهم قالوا حنئذ إنه لواجب لابد منه, فإنه يبقي أنهم كانوا بشرا, وأن بشريتهم جعلتهم يتلكأون في إنفاذ أمر السماء لما فيه من المشقة عليهم, وألي حد أنهم قد تمنوا نسيانه آو تغييره.
وأما أنهم كانوا بشرا تعددت قراءاتهم وأفهامهم للقرآن, فان ذلك ماتفيض بتأكيده موسوعات التفسير ومدونات الحديث.
ومن ذلك ماأورده إبن حجر العسقلاني في فتح الباري بشرح صحيح البخاري مما يمكن إعتباره دليلا علي حضور التعدد القرائي للقرآن بين الصحابة, وذلك عند شرحة عن عمر بن الخطاب الذي يقول فيه:
سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله( صلى الله عليه وسلم ), فإستمعت لقراءته, فإذا هو يقرأ علي حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله, فكدت أساوره( أي أراجعه) في الصلاة, فتصبرت حتي سلم, فلبيته( أي أمسكة من رقبته) بردائه, 
فقلت:
 من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ,
 فقال:
 أقرأنيها رسول الله,
 فقلت: 
أرسله( أي إتركه), إقرأ ياهشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ,
 فقال رسول الله:
 كذلك أنزلت,
ثم قال:
 إقرأ يا عمر, فقرأت القراءة التي أقرأني,
 فقال رسول الله:
 كذلك أنزلت. إن هذا القرآن نزل علي سبعة أحرف, فإقرأوا ماتيسر منه.

 وتفسر الرواية هذا الترخيص
وهكذا يكون النبي الكريم قد طلب رخصة التعدد في القراءة تيسيرا علي العباد, وإستجاب له الله بجلاله, ومارس الصحابة هذا التعدد( قراءة ومعني) فعليا, ثم جاء العلماء لأسباب بعينها وقيدوا هذا التعدد, وتابعهم الناس علي آحادية القراءة والمعني. ولعله يلزم التأكيد, هنا, علي أن من يدافع عن الحرف الواحد( في القراءة) والمعني الواحد( في التفسير, إنما يدعم ـ ولو من دون أن يدري حكم الواحد( في السياسة). وسلطة الأب( في المجتمع). وإ يبدو, هكذا, أن الأحادية السياسية والإجتماعية إنما تجد مايؤسس لحضورها الراسخ في الأحادية المعرفية, فإن المفارقة تتجلي في سعي الكثيرين إلي بناء التعددية السياسة غلي سطح بنية ذهنية لاتعرف إلا آحادية القراءة والمعني. بل الأمر يقتضي أن يكون بناء التعددية في( الواقع) مصحوبا ـ إذا لم يكن مسبوقا ـ ببنائها في العقل).

وبالرغم من ذلك, فإنه يلزم التأكيد علي أن الأمر لايتعلق فقط بضرورة السعي إلي فتح الباب أمام التعددية في مجالي القراءة والمعني( وحتي العقل), لما يؤدي إليه ذلك من ترسيخ حضورها في مجالي السياسة والمجتمع, بل ولما يؤدي إليه ـ وهو الأهم ـ من تمهيد السبيل أمام قول جديد في حقل الخطاب الإسلامي يخرج به من دائرة الجمود والتكرار التي تردي إليها علي مدي القرون.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 1 /ديسمبر /2011