الخميس، يونيو 23، 2011

الدولة المصرية‏/‏ العربية الحديثة‏....‏ واقع أم أمنية ؟





لا تقل المشكلات التي تجابه الخطاب الرائج في مصر عن الدولة المدنية أو الحديثة عن تلك التي تجابه خطاب دولة يلعب فيها الدين دورا حاكما‏.‏ فكلا الخطابين ينطوي علي ضروب من المواءمات والتلفيقات الإيديولوجية التي تجعل الواحد منهما خطاب إنتاج أزمة‏,‏ وليس أبدا خطاب انعتاق منها..‏.‏.

وبالطبع فإن الخطابات لن تكون قادرة علي الإنتاج المثمر في الواقع ما لم تتحرر من عوائقها الإيديولوجية التي تحول بينها وبين الفحص المعرفي الدقيق للمفاهيم والتصورات التي تفكر بها, وتؤسس عليها حلولها لأزمات هذا الواقع. ولعل مثالا علي ذلك يأتي من مقاربة للخطاب الذي يدير البعض اسطوانته الآن, عن ضرورة التوقف عن استخدام مصطلح الدولة المدنية الذي يعد من قبيل اللغو الفارغ الذي لا معني وراءه, والتأكيد- بدلا منه- علي مفهوم الدولة الحديثة التي تعرفها مصر- ومعها العرب- منذ مطلع القرن التاسع عشر, والتي حدث أن خبا بريقها علي مدي نصف القرن الأخير, ويلزم إعادة الاعتبار إليها الآن.
 والحق أنه يمكن فهم التحفظ علي استخدام مصطلح الدولة المدنية; حيث إن الاجتماع المدني للبشر بما فرضه من ظهور السلطة السياسية لأول مرة- والذي يمثل تقدما أرقي بالقياس إلي أشكال الإجتماع الطبيعي القرابي الأسبق, بما تقوم عليه من سلطة طبيعية( آبوية بطريركية في الأغلب)- هو الأصل في نشأة الدولة ككيان سياسي مدني.
وإذ يحيل ذلك إلي أن المدنية هي الأصل في نشأة الدولة بما هي دولة, فإنه لا يمكن تصور أن تكون المدنية وصفا مضافا إلي الدولة; تماما كما لا يمكن أن تكون المائية وصفا مضافا للماء. وإذ يمكن التجاوب, علي هذا النحو, مع التحفظ علي استخدام مصطلح الدولة المدنية لأنه من قبيل تفسير الماء بالماء, فإنه لا يمكن, في المقابل, الاتفاق تماما- ومن وجهة نظر مدققة- علي أن ما عرفته مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر, مع محمد علي باشا, يعد من قبيل الدولة الحديثة.


وهكذا فإنه إذا كان ثمة من العرب من يقاربون دولتهم الراهنة باعتبارها دولة حديثة, فإنه يبدو- لسوء الحظ- أن هذه الدولة لم تعرف إلا أن اتخذت لها من الحداثة اسما ورسما أو قناعا وشكلا, وأما الطبيعة والمحتوي, والنظام العميق لهذه الدولة, فإنه قد ظل- في جوهره المتخفي وراء البراقع والزخارف- ينتمي إلي فضاء الدولة التقليدية ما قبل الحديثة. ولعل ذلك يرتبط بحقيقة أن تلك الدولة, التي يقال عنها أنها حديثة, قد انبثقت كجواب علي سئوال التغيير الذي فرض نفسه علي مصر بقوة مع مطلع القرن التاسع عشر. فقد بدا- حسب أحد شهود تلك اللحظة; وأعني به المعلم الجنرال يعقوب- أن تغييرا( في مصر) لا يمكن أن يكون نتاج أنوار العقل, أو اختمار الآراء الفلسفية المتعارضة, بل تغييرا تجريه قوة قاهرة علي قوم وادعين جهلاء. لقد حدد الجنرال النابه طريقين للتغيير; أحدهما العقل وثانيهما القوة, ولأن حضور العقل كان خافتا آنذاك- وربما للآن-, فإنه لم يكن من سبيل لإحداث هذا التغيير إلا محض القوة. وضمن هذا السياق, فإن ما يقال إنها الدولة المصرية/العربية الحديثة قد إنبثقت بما هي قوة لفرض هذا التغيير علي المجتمع; الذي إرتآي فيه المعلم يعقوب- مجرد قوم من الوادعين الجهلاء. وهنا يظهر التعارض زاعقا بين دولة الحداثة الشكلانية التي عرفها العرب; بما هي قوة لفرض التغيير علي مجتمع الوادعين الجهلاء, وبين دولة الحداثة الحقة التي انبثقت- في السياق الأوروبي- كنتاج لعملية تغيير واسعة يحققها المجتمع بنفسه في كافة المجالات.



ولعل مثالا علي هذا التعارض الزاعق يتبدي- كأجلي ما يكون- في صورتين للحاكم/الدولة تحملهما نصوص رائد الحداثة العربية الأكبر الطهطاوي; وهي النصوص التي لم تفقد هيمنتها للآن. فإذا كان الرجل قد مضي- في سياق ما قال إنه كشف الغطاء عن تدبير الفرنساوية, مستوفيا غالب أحكامهم ليكون تدبيرهم العجيب عبرة لمن اعتبر- إلي إن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف, وإن السياسة الفرنساوية هي قانون مقيد بحيث إن الحاكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين التي يرضي بها أهل الدواوين, فإن ذلك يتعارض كليا مع ما سيقوله- كاشفا الغطاء عن تقاليد دولته المصرية التي استعاد, في حديثه عنها, مفردات قاموس السياسة الشرعية المغاير كليا, لذلك الذي تداوله بصدد تدبير الفرنساوية- من إن للملوك في ممالكهم حقوقا تسمي بالمزايا, وعليهم واجبات في حق الرعايا. فمن مزايا الملك أنه خليفة الله في أرضه, وأن حسابه علي ربه, فليس عليه في فعله مسؤلية لأحد من رعاياه, وإنما يذكر للحكم والحكمة من طرف أرباب الشرعيات أو السياسات برفق ولين, لإخطاره بما عسي أن يكون قد غفل عنه, مع حسن الظن به, لقوله صلي الله عليه وسلم, الدين النصيحة, فقلنا لمن يا رسول الله, قال لله ولكتابه, ولرسوله ولأئمة المسلمين. ورغم ما ألمح إليه الطهطاوي من أن علي الملوك واجبات في حق الرعايا, فإنه لم يذكر منها إلا واجب مراعاة العدل في حقهم; وهو الواجب الذي تركز عليه القول في أدبيات السياسة السلطانية, وإلي حد إمكان القول بأنه قد استغرق هذه الأدبيات كليا..
 وهكذا فإنه وحتي حين استحضر الطهطاوي الرأي العمومي, فإنه لم يستحضره ليجعل منه قيدا علي هذا النوع من الحاكم المنفلت, بل وفقط لأن الحاكم قد يشعر, في مواجهته, بالحياء; الذي هو- من غير شك- أمر ذاتي يخصه, لأنه قد يحدث أن يوجد حاكم لا يشعر بذلك الحياء في مواجهة محكوميه. وإذ يكاد الطهطاوي ينتهي, تبعا لذلك, إلي أن أصل ومصدر سلطة الباشا, ليست الأمة, بل الله; الذي يلح الطهطاوي- في غير موضع من نصه- علي أنه هو الذي ولاه حكم مصر, فإن كون ذلك مما يتعارض مع الواقع التاريخي الذي يقطع بأن تولية الباشا كانت من جماهير الشعب ونخبته التي استمسكت به في مواجهة الإرادة السلطانية العثمانية, التي كانت تتخفي وراء المشيئة الإلهية المتعالية, لمما يكشف عن أزمة مثقف يجد نفسه مضطرا لأن يكون بوقا لسلطة القوة علي حساب سلطة الحقيقة.
وهكذا يتعارض تدبير السياسة الفرنساوية الحديث, القائم علي الحكم المقيد بالقانون والمشروط بالرضا العمومي للجمهور, مع التقاليد التراثية الراسخة للدولة السلطانية; التي لا تعرف إلا حكم المتسلط, المنفلت من أي قيد أوحد; والذي لا يملك الرعايا, في مواجهته, حق المساءلة, حتي وإن جار وأخطأ, بل إن عليهم واجب النصح له وحسن الظن به أبدا. ولعل هذا التجاور بين ما ينتمي لعالمين, هو- وللمفارقة- ما يؤكده الذين ينافحون, الآن, عن وجود الدولة الحديثة. فهم- وللغرابة- يقرون بأن ممارسة السياسة في إطار تلك الدولة ( الحديثة!!)
 قد ظلت تتحقق من خلال روابط ومؤسسات القوة التقليدية

  (كالعائلة والعشيرة والقبيلة والعصبيات وغيرها);


 وبما يعنيه ذلك من أن المؤسسة السياسية الحديثة, كالبرلمان والحزب وغيرها, لم تقدر علي تقويض, أو حتي اختراق, روابط ومؤسسات القوة التقليدية. بل إن ما جري لا يتجاوز حدود أن تلك المؤسسة الحديثة قد استحالت إلي هيكل أو رسم فارغ, راحت المؤسسات والروابط التقليدية تملؤه بحضورها الذي بدا وكأنه يتأبي علي الغياب.
ولعل تفسيرا لذلك يأتي من الوعي بحقيقة أن المؤسسات السياسية الحديثة كانت محض أدوات لتفعيل الأساس الفلسفي لدولة الحداثة الحقة; والذي يتمثل في انبثاق الأفراد بما هم إرادات واعية حرة. وأعني أنها كانت وسائل إنسان الاستنارة في تحقيق كينونته السياسية; وعلي النحو الذي لا يمكن معه تصور حضورها من دون منجزات إنسان الاستنارة المعرفية العقلية والسياسية والاقتصادية.
وبالطبع فإنه كان لابد, حين جري استدعاء تلك المؤسسات الحديثة, مع عدم توفر المنجز الفلسفي العقلي والاستناري- وحتي المادي- المؤسس لها, أن تستحيل إلي مجرد أوعية جديدة, ولكن فارغة, وعلي نحو راح معه يجري تحميلها بالمضمون الراكد القديم. وهكذا فإنها صارت أدوات تفعل من خلالها إرادة المستبد, بدل أن تكون سلاح الأفراد في مواجهة تلك الإرادة المنفلتة.

ولسوء الحظ, فإن ذلك لا يؤدي بدعاة الدولة الحديثة إلي الإقرار بما سبق أن انتهي إليه أحد كبار مفكري النهضة- وأعني به سلامة موسي- من أن تلك الدولة الديمقراطية الحديثة هي أقرب إلي لأمنية المرجوة منها إلي الواقعة المتحققة, مع ما لهذا الإقرار من قيمة كبيرة.
فالإقرار بأن تلك الدولة هي أمنية لا واقعة سوف يفتح الباب أمام ضرب من التحليل الذي يجعل غايته الكشف عن العوائق الدفينة التي جعلتها مجرد أمنية لا تقبل التحقق, رغم السعي الدؤوب لذلك; وبما يعنيه ذلك من الحفر العميق وراء تلك العوائق التي تضرب بجذورها في البنايات الثقافية الراسخة.

تم النشر في جريدة الاهرام بتاريخ 23 / يونيو /2011

الاثنين، يونيو 20، 2011

حوار الدكتور علي مبروك مع جريدة الأهرام عن الربيع العربي



د. علي مبروك:
 الربيع العربي احتجاج على دولة القوة وسعى لتحقيق دولة العدل


قال د. على مبروك، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، إن الدولة العربية الحديثة كانت دولة قوة وليست دولة عدل، والربيع العربى الحاصل حاليًا هو احتجاج على دولة القوة، وسعى لتجاوزها إلى دولة العدل. 

واعتبر مبروك أن الحوار المصرى الراهن حول الدولة المدنية لم يجاوز بعد منطقة الشعار، وأن كل ما يقال فى سبيل تحقيقه ينصب فى غالبيته على الجانب الإجرائى والسياسى والأيديولوجى، وكأن هذه الإجراءات معزولة عن الشروط الثقافية والعقلية التى تحققها. 

وأكد مبروك ضرورة خلخلة وتفكيك المنظومة الفقهية والعقائدية كأحد الشروط المعرفية والثقافية لبناء مشروع النهضة الجديدة. ورأى فى حواره مع "بوابة الأهرام" أن منظومات الفكر الإسلامى القديمة لم تعد قادرة على الإجابة عن تلك النصوص ما يجعل التحدى الأكبر فى الإجابة على تلك الأسئلة هو الخروج من دائرة التفكير القديمة. 

وانتقد أستاذ الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام بجامعة القاهرة -الذي تنصب اهتماماته الأكاديمية والفكرية بالدرجة الأولى على خلخلة الأصول التى يقوم عليها الفكر الإسلامى ومحاولة تجديده بتفكيك الأسس الكامنة وراء خطابه- الحديث عن الدولة المدنية فى حدودها الإجرائية المتمثلة فى دستور جديد وانتخابات نزيهة، دون النظر فى الأسس الفكرية لتلك الدولة، ودون النظر إلى إمكانية وجود الشروط الفكرية والثقافية التى تمكن تلك الدولة من الوجود أم لا. 

ودلل مبروك صاحب كتب "ما وراء تأسيس الأصول: مساهمة فى نزع أقنعة التقديس" و"لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا" و"النبوة من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ"- على ذلك بالقول إن العرب منخرطين فى تجارب برلمانية ودستورية وأشكال متعددة للدولة الحديثة منذ أمد بعيد، ولكنهم لم يستطيعوا تحقيق حلم الدولة المدنية أو الدولة الحديثة بتعبير آخر لانشغالهم بالجوانب الإجرائية، وقال إن هناك سؤالا كبيرا حول هوية تلك الدولة المدنية أو الحديثة لم يطرح بعد. 

وأضاف أن تشكيل "الدولة" فى مصر منذ بداية القرن التاسع عشر كان تحقيقًا لمنطق القوى التى تفرغه، فالقوة كانت هى الأداة التى تستمد منها الدولة وجودها لا العقل، فالقوة هى التى مثلت التغيير وأدواته، أى أن كيان الدولة بالكامل تم التماسه من فضاءات القوة، فهل التشكيل الجديد الذى نريده هو دولة القوة أم دولة العدل وهذ سؤال كبير؟ 

وأوضح أن الشروط التى يتحدث عنها هنا هى شروط معرفية فى جوهرها وتعنى بالأساس بإخراج الناس من شروط التفكير القديمة وتصور الفرد على أنه إنسان عاقل حر وفاعل ومريد، إضافة إلى العمل على تغيير البنيات الذهنية الحاكمة للإنسان العربى من خلال عمل نقدى نفتح به الباب لظهور هذا الإنسان. 

وأكد صاحب "سؤال الحداثة" على أنه لا يعنى أبدًا التوقف عن العمل على المستوى السياسى والإجرائى، ولكن بالأحرى العمل على مستويين مستوى سياسى ومستوى ثقافى عقلى، بحيث تخضع المنظومات المهيمنة فى المجتمع للوعى النقدى وعلى رأس تلك المنظومات الفقهية والعقائدية منها. 

وأهم شروط تأسيس النهضة الجديدة فى رأى صاحب "ما وراء تأسيس الأصول" تفكيك المنظومات القائمة وعلى رأسها المنظومة الفقهية والعقائدية من خلال دراسة معرفية خاصة تستجلى وتستقصى الأساليب التى تقوم عليها تلك المنظومة، فهو يرى أننا فى حاجة لتجاوز مفهوم الاجتهاد بمعناه التقليدى، لأنه ممارسة خاضعة للقواعد المحددة للمنظومة القديمة، ونحن نحتاج لأن نعمل خارجها الآن ونفتح الباب لبلورة منظومة جديدة وهذا يتطلب تأسيس وعى نقدي. 

وقال مبروك توضيحا أن ما يعنيه هنا أن المفهوم المؤسس للمنظومة الفقهية الحالية هو مفهوم النسخ، وفى الأحكام، وهو مفهوم إشكالى وسبّب إشكاليات كبيرة،
فبسببه يعتقد البعض أن آية "السيف" {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} (البقرة: 91) تنسخ خمسمائة آية عن التسامح مع أصحاب الديانات الأخرى، مؤكدا أن ما يجادل به هنا هو أن مفهوم النسخ نفسه هو مفهوم غير راسخ وعلينا تجاوزه. 

وأوضح مبروك فكرته قائلاً إن مفهوم النسخ يفترض أننا على علم بالترتيب الزمنى والتاريخى الذى نزلت به الآيات والسور، وهو الأمر الذى لا يمكن أن يدعيه أحد، مشيرا فى هذا الصدد إلى محاولة المستشرق الألمانى "ثيودور نولديكا" استجلاء ترتيب نزول الآيات، لأننا لا نعرف سوى ترتيب المصحف الحالى وهو غير مرتب زمنيًا، إذن إذا كان النسخ يعتمد على معرفتنا بالسابق واللاحق من الآيات وهو الأمر غير المعروف لدينا، فهو يقوم على أساس غير راسخ ما يهز ثقتنا بالمفهوم، ومن ثم يجب البحث عن أطر جديدة للتفكير تخرج من عجز الأطر القديمة التى لم تعد تقدم إجابات على أسئلتنا الكبرى. 

ويعطى مبروك مثالاً على ذلك بمحاولة د. محمود طه بالسودان الذى انتقل من مفهوم النسخ إلى مفهوم "المنسأ"، فهو يقرأ كلمة "نُنسها" فى الآية الكريمة {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} (البقرة: 106) على أنها ننسئها بمعنى نرجئها، فهو يجادل بأنه لا يمكن الزعم بأن هناك رفعا للأحكام الفقهية، ولكن هناك إرجاء لتفعيل تلك الأحكام، لأن العصر حين نزولها لم يكن يقبل باشتغال تلك الأحكام فأرجئ العمل بها إلى أن يأتى زمانها. 

ويؤكد مبروك أنه لا يريد أن يأخذ بأفكار محمود طه، فهى أيضاً تنطوى على مشكلات ولكن الفكرة أن تلك المحاولة فتحت الباب أمام إمكانيات أخرى للتفكير بعلاقات جديدة مع النصوص والأصول المقدسة تبتعد عن العلاقة القديمة التى أسسها معاوية وعمر بن العاص والتى تستخدم القرآن كسلطة وتستثمره سياسياً. 

ويقول مبروك إن مشكلتنا هى أننا أخذنا من تلك العلاقة مع القرآن نموذجاً، فأفقرت القرآن وأفقرتنا، بدلاً من أن نتعامل مع القرآن كساحة للفهم والتفاعل بين الإنسان والله وهى العلاقة التى عبر عنها الإمام على (رضى الله عنه)، والسؤال المطروح الآن أى علاقة نريد تأسيسها مع النصوص علاقة السلطة أم علاقة التفاعل والحوار. 

ومن جهة أخرى شدد مبروك على أهمية استقلالية المثقف الذى قال إنه تقع عليه مهمة كبيرة الآن لبناء العقل النقدى، ولكنه أوضح أن الاستقلالية لا تعنى أنه غير منخرط فى العملية السياسية، ولكن تعنى أن خطابه يستمد قوته من داخله ومن تماسكه وقوة حجته. 

وعن المهمة الثقيلة التى على تقع على المثقف الآن قال مبروك إن المهمة ليست السجال والتناطح بين المثقفين، ولكن مناقشة الخطابات بشكل معرفى كما حاول أن يفعل فى مقاله الأخير بـصحيفة "الأهرام" حين ناقش فكر الإخوان، وحاول الكشف عما يقف وراءه من حجج، مؤكدا أنه بهذه الطريقة نستطيع أن نزود الناس ومن قبلهم المثقفين بالحجج القوية التى يستعملونها فى الرد على الخطابات التى تواجههم بأفكار قد لا يقبلونها، ولكنهم لا يملكون الحجة المضادة لها. 

ومن هنا يضع مبروك النقطة الأساسية التى ألح عليها كثيرًا فى الحوار وهى ضرورة الوصول إلى النخبة المثقفة قبل الوصول إلى الجمهور، فتغيير وعى النخبة هو الأهم بالنسبة له فى تلك المرحلة من خلال تزويد النخبة بالزاد المعرفى الذى يمكنهم من الوقوف أمام التحديات الكبرى التى يحملها خطاب كل منهم فى مواجهة أسئلة كبيرة. 

وقال مبروك إن مشكلة المؤسسات الثقافية الرسمية أنها كانت تعتمد طوال الوقت على الشللية التى هى استعادة لمنطق القبلية الذى يعيش به العرب طول الوقت، مضيفا أنه من المستحيل أن تكون تلك الشهور القليلة قد غيرت من منطق تفكير المثقفين والمؤسسات، ولكن على تلك المؤسسات أن تتغير وتتجاوز منطق الشللية الذى ظل سائداً طوال المرحلة السابقة، وضرورة انفتاح تلك المؤسسات على حوار حقيقى مفتوح تمثل فيه تلك المؤسسات ساحات تلاق للمثقفين بما يتيح إنتاج شروط نهضة جديدة تعيشها مصر بالفعل الآن.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 20 يونيـــــو 2011
بقلم / محمد سعد


الخميس، يونيو 09، 2011

عن مراوغة الإخوان ومطابقة الفقه مع الدين والقرآن





إحتلت جماعة الإخوان المسلمين موقعا في صدارة المشهد المصري الراهن‏,‏ علي النحو الذي جعل الأفكار التي تروج لها الجماعة‏-‏ أيا كانت درجة تلفيقيتها وهشاشتها‏-‏ تحظي بإهتمام واسع في الإعلاميات المقروءة والمرئية‏.‏

وهنا يلزم التنويه بما يتبدي من حرص تلك الإعلاميات علي أن يكون الإخوان ومحاوروهم

( ممن يختلفون مع رؤي الجماعة في الأغلب) من الذين أتاح لهم حدث الثورة أن يكونوا نجوما زاهرة في سماء مصر والقاهرة.

وهكذا يحتشد كل ليلة كوكبة من رجال أعمال وأدباء, ومهندسين وأطباء, وأساتذة جامعات وخبراء, لتتلألأ بهم شاشات الفضائيات, حيث ينخرطون في طقوس الرطانة بشعارات لا يقدر بريقها علي أن يغطي خواءها. وبالمثل, فإن نجومية هؤلاء لا تغطي- لسوء الحظ- علي عجزهم جميعا عن التصدي للمسائل الكبري من جهة, وعلي بؤس ما يقدمون من الحجاج, والحجاج المضاد من جهة أخري.

إذ رغم ما يبدو من هشاشة الإطروحة التي يروج لها دعاة الإخوان عن دولة أو حزب يجدان مرجعيتهما في الديني/الفقهي; والتي يؤسسونها علي ضروب من التلفيقات الهشة غير المنضبطة, والتي لا تصمد أمام التحليل المعرفي الدقيق, فإن محاوريهم, علي الضفة الأخري, لايقومون بالخطوة اللازمة المتمثلة في تفكيك تلك التلفيقات; والوعي النقدي بحدود المفاهيم التي تقوم عليها, بقدر ما ينخرطون في تكرار وترديد الحجج البليدة عن مفارقة الأطروحة الإخوانية لروح ومعايير الدولة المدنية; وهو ما ينتهي- وللمفارقة- إلي إضعاف أطروحة الدولة المدنية التي يدافعون عنها, بدلا من إضعاف الإطروحة الإخوانية.

يتجادل الطرفان حول الولاية العامة أو رئاسة الدولة التي يتمسك داعية الإخوان بعدم جوازها للنساء وغير المسلمين. وإذ يعترض عليه محاوره المدني بأن ذلك من قبيل التمييز الذي يتعارض مع روح الدولة المدنية; فإن الداعية الإخواني يرد مطمئنا إلي يقينه الجازم بأن هذا الإقصاء للنساء وغير المسلمين عن الولاية, هو ما انتهي إليه الإجماع الفقهي. وعند هذه النقطة, فإن المحاور المدني ينقطع غارقا في الصمت, أو يظل- في أحسن الأحوال- يغمغم بكلامه المكرور.

إذ ما الذي يعنيه سكوت المحاور المدني وصمته, أمام ما يستند إليه الداعية الإخواني من الإجماع الفقهي؟
إنه يعني أن نجوميته لم تعصمه من أن يكون كأحد أفراد القطاع الأوسع من الجمهور المتلقي للخطاب, الذي يفهم القول الفقهي علي أنه القول الديني/القرآني ... فمن المعلوم للجميع أن الجمهور الواسع سوف يستقبل الاحتجاج بالفقه علي أنه احتجاج بالدين أو القرآن; وبحيث يصبح ما يقوله داعية الإخوان من عدم جواز الولاية العامة للنساء وغير المسلمين, لا قولا فقهيا, بل قولا دينيا/قرآنيا. وإذن فإن داعية الإخوان لا يفعل شيئا; بقدر ما يعتمد فقط علي الراسخ في وعي الجمهور من المطابقة بين القول الفقهي, والقول الديني/القرآني. إن هذه المطابقة هي التي ستجعل الجمهور ينتهي إلي أن الإعتراض بالدولة المدنية علي الإجماع الفقهي( الديني/القرآني), إنما يعني أنها دولة معادية للدين; وبما يترتب علي ذلك من أن داعية المدنية قد وضع, بذلك, دولته في مواجهة ريح عاصفة لا تقدر عليها.

لايكون ترسيخ الدعوي المدنية, إذن, بمجرد ترديد مقولاتها والثرثرة بمفردات قاموسها, لعل حفظها واستظهارها يؤدي إلي الإمساك بمدلولها وامتلاكه, بل يكون بتفكيك ما يحول دون إنتاجها في وعي الجمهور المطلوب منه الانحياز لها. وإذا كان قد بدا جليا أن ما يقوم في وعي الجمهور من مطابقة الفقهي مع الديني, هو ما يؤسس لما يتهدد روح المدنية من التمييز( ضد النساء وغير المسلمين), فإن الأمر يستلزم تفكيكا للمنظومة الفقهية, لا يقف- فحسب- عند مجرد استجلاء نوع العلاقة بين الفقهي وبين الديني أو حتي القرآني( وهل هي علاقة مطابقة أم أنها- ولو في بعض الأحيان علي الأقل- علاقة تباعد ومفارقة)؟, بل ويتجاوز إلي إستقصاء ما تنبني عليه تلك المنظومة من الأسس والأصول المضمرة.

يبدو, إذن, أنه لا سبيل إلي بناء الفكرة المدنية إلا عبر التعاطي مع المنظومة الفقهية, وأن ذلك لا يكون بمجرد السكوت والرفض, بل من خلال الوعي النقدي والفهم; وذلك علي النحو الذي يسمح بزحزحة ما تؤول تلك المنظومة إلي تثبيته في الوعي العام, من قطعيات يتم استثمارها في تحقيق مكاسب سياسية ضيقة. وهنا يلزم التنويه فيما لا يعني التعاطي مع المنظومة الفقهية بالسكوت والرفض, إلا أن يقف المرء خارجها تاركا لها المزيد من الرسوخ والتمدد, فإن التعاطي معها بالفهم والنقد يتيحان للمرء أن يتموضع داخلها مستوعبا, لا لمجرد ما تنطق به وتعلنه, بل- والأهم- لما تخفيه وتسكت عنه وتضمره, وتكتسب منه سطوتها الكاملة. ولعل أهم ما يجري السكوت عنه, ويتم السماح له بالرسوخ في الوعي الجمعي, يتمثل في ما جرت الإشارة إليه, سلفا, من مطابقة الفقهي مع الديني/القرآني; وهي المطابقة التي تصبح المواجهة معها أكثر فاعلية وجدوي إذا ما جري استدعاء ما يخلخلها من المصادر التراثية المعتبرة, التي يتعامل معها الجميع بالإحترام والتجلة. ومن حسن الحظ أن تفسير إبن كثير- الذي يحظي بالقبول والتعظيم بين المسلمين كافة- ينطوي علي ما يمكن أن يؤسس, تراثيا, لتلك الخلخلة.

فالحق أن أي دارس للفقه يعرف, تماما, أن حركة الواقع الاجتماعي/السياسي, قد آدت إلي تعطيل, وحتي إسقاط أحكام فقهية ثابتة بالقرآن نفسه; وذلك بحسب ما أحدثه عمر بن الخطاب من التعطيل المؤقت لحد السرقة في عام الرمادة, ثم ما أجراه لاحقا من إسقاط نهائي للحكم المتعلق بسهم المؤلفة قلوبهم بعد أن تغير الوضع السياسي للمسلمين, ثم حدث أخيرا أن إرتفعت نهائيا كل أحكام الرقيق بعد أن أسقط التطور الإنساني كل منظومة الرق وإذا كان الواقع الإجتماعي/السياسي قد لعب, هكذا, دورا في تحديد ما قد تعطل أو سقط من أحكام الفقه, فإنه لا سبيل إلا إلي إعتبار الدور ذاته في تحديد وتوجيه الكثير من الأحكام القائمة التي تشتمل عليها المنظومة الفقهية; والتي يسعي البعض- الآن- إلي تفعيلها. وبالطبع فإن ذلك يؤشر علي كون الحكم الفقهي ليس تنزيلا منغلقا جامدا علي واقع هلامي سيال يتحدد بالحكم من جانب واحد, بقدر ما هو تنزيل منفتح ومرن علي واقع يمتلك نظامه الإجتماعي/السياسي الذي يمارس نوعا من التوجيه والتحديد لذلك الحكم. وهكذا تكون المنظومة الفقهية هي نتاج العلاقة بين التنزيل والواقع; وذلك علي النحو الذي يتسع فيه الواقع للتنزيل, في الوقت نفسه الذي تتحدد فيه عملية إمتثال وفهم هذا التنزيل بما يسود الواقع من أنظمة( اجتماعية وسياسية ومعرفية وغيرها). وإذن فالعلاقة بين التنزيل والواقع لا تمضي أبدا في اتجاه واحد, بقدر ما تمضي في الاتجاهين من الواحد إلي الآخر.

والحق أن دور الواقع الاجتماعي/السياسي في بناء وتحديد الحكم الفقهي, يبلغ أحيانا حد وضع ذلك الحكم الفقهي في مواجهة صريحة مع ما لا يمكن الشك في أنه من قبيل المبدأ القرآني غير القابل للإنكار. ولعل مثالا علي تلك المواجهة الصريحة بين الفقهي والقرآني يتجلي فيما لاحظه إبن كثير عند تفسيره لقوله تعالي:
 يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي, وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا, إن أكرمكم عند الله أتقاكم, إن الله عليم خبير
(الحجرات:31)
, من أن مبدأ التسوية في الإنسانية الذي تحمله الآية, يتعارض مع مبدأ التراتبية الاجتماعية الذي يقوم عليه ما يشترطه الفقه من الكفاءة في النكاح. يقول إبن كثير: ولهذا قال تعالي بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضا, منبها علي تساويهم في البشرية وقد استدل بهذه الآية الكريمة وهذه الأحاديث الشريفة التي أوردها إبن كثير, من ذهب من العلماء إلي أن الكفاءة في النكاح لا تشترط, ولا يشترط سوي الدين لقوله تعالي إن أكرمكم عند الله أتقاكم, وذهب الآخرون ( من العلماء الذين يشترطون الكفاءة في النكاح) إلي أدلة أخري مذكورة في كتب الفقه.              
                                                 
      وهكذا فقد قرأ البعض في الآية تنبيها علي مبدأ تساوي الناس في الإنسانية, وراحوا يعارضون بين هذا المبدأ القرآني, وبين الاشتراط الفقهي لقاعدة الكفاءة في النكاح الذي يعني تراتب وتفاضل الناس في مواقعهم الاجتماعية بحسب انسابهم وأحسابهم; وعلي النحو الذي يبدو فيه أن الفقهي- بما يقرره من التفاوت- يعارض القرآني- بما يقرره من التساوي- أوفي. ولعل المرء لا يجد تفسيرا لما يبدو من تباعد الفقهي عن القرآني إلا إن الأعراف والتقاليد التي تحكم بناء مجتمع عريق في تراتبيته, وبما يتجلي في الفخر بالأنساب والأصول, قد لعبت دورا لا سبيل إلي إنكاره في بناء وتوجيه المدونة الفقهية; وهو ما يحيل إلي أن سعيا إلي تنظيم الواقع الاجتماعي/السياسي الراهن من خلال تلك القواعد الفقهية, لا يعني إلا السعي إلي إخضاعه لأعراف وتقاليد مجتمعية عتيقة, وليس أبدا للدين كما يدعي البعض .

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 9/ يونيو /2011