الخميس، أبريل 19، 2012

انتخـــاب رئيــس أم صناعــة قيصــــــر؟



علي الرغم من أن مصر لم تدفن بعد قيصرها السابق
الذي لا يزال يتمدد علي محفته ينتظر موتا يأبي إلا أن يعانده‏,‏ فلا يأتيه ليريحه‏,‏ ويريح غيره‏,‏
 فإن الشرائح الغالبة من نخبتها‏(‏ التي هي‏-‏ ولسوء الحظ‏-‏ أصل نكبتها‏)‏ قد انخرطت في عملية إنتاج قيصرها البديل‏;‏
 وعلي النحو الذي لابد أن يستعيد معه المرء ما قاله الشاعر المصري الكبير
أمل دنقل:
'' لا تحلموا بعالم سعيد, فخلف كل قيصر يموت....قيصر جديد''.
ولأن'' القيصرية'' لم تكن تعني, منذ ابتداء تبلورها مع الرومان, إلا إطلاق السلطة للحاكم, وإلي الحد الذي يدنيه من مقام'' الإله'', فإن الرومان كانوا يضعون في عربة القيصر من يذكره أنه ليس إلها.
 وإذا كان أحد لا يجادل في أن'' مبارك'' قد جعل نفسه- أو جعله غيره - قيصراً يقف خارج حدود السؤال والمحاسبة, وإلي حد إمكان القول بأن الثورة عليه, تنطوي- في حقيقتها- علي السعي إلي إسقاط تلك'' القيصرية'',
 فإن الأمر الغريب حقا هو ما يجري, الآن, من الانخراط الدؤوب في إعادة إنتاجها, وليس تفكيكها.
 ولعل الغرابة تبلغ مداها, حين يدرك المرء أن هؤلاء المنخرطين في السعي الدؤوب لإعادة إنتاج تلك'' القيصرية'' التي تدني الحكام من مقام الرب/ الإله, هم من يقولون عن أنفسهم أنهم أهل التوحيد الخالص لله.

فإن نظرة علي الممارسة الراهنة للقطاع الغالب من الطبقة السياسية المصرية لا تكشف عن غير السعي إلي إعادة إنتاج'' الرئيس/ القيصر''. وتبعا لذلك, فإنه يبدو وكأن الأمر لم يتجاوز حدود الثورة علي'' قيصر'' بعينه( هو مبارك), إلي الثورة علي ثقافة إنتاج القياصرة التي لا يمكن مع تجذرها في الوعي- وحتي اللاوعي- الجمعي(بمضامينه النفسية والمعرفية والاجتماعية),
 إلا أن يظل القياصرة يتناسلون أبدا. وللمفارقة, فإنه إذا كان الارتقاء بمبارك إلي مقام'' القيصر'' قد تحقق بعد سنوات من اعتلائه السلطة, فإن ما يلحظه الكافة من ابتداء جماعات الإسلام السياسي- من الإخوان والسلفيين- مسار السعي إلي السلطة بالتسامي بمن يريدون له وراثة مبارك إلي مقام القيصر, قبل أن يتم تنصيبه رئيساً, إنما يكشف عن سهولة إنتاج'' القيصرية'' عبر التلاعب بالرأسمال الرمزي
(الديني بالأساس) للجمهور.

 ولكن ذلك لا يعني أن'' الدين'' هو الأصل المنتج لتلك'' القيصرية'', بل إنها تجد ما يؤسس لها- بالكلية- في القلب الصلب للثقافة التي تحققت لها السيادة في عالم العرب, والتي راحت تمارس توجيها علي الدين نفسه.
 ليس الدين, إذن, هو ما يؤسس للتعالي بالحكام إلي مقام القياصرة, بل هي الثقافة التي جعلت من مبارك قيصرا, رغم أنه لم يعتمد علي الرأسمال الديني في بناء سلطته كقيصر; بمثل ما إنها هي التي يقف كل من الإخوان والسلفيين تحت مظلتها في بناء السلطة الرمزية لقادتهم, وإن كانوا يتميزون فقط بتحفيز الفاعلية الكامنة لتلك الثقافة عبر استدعاء الرأسمال الديني الطافي علي سطح الوعي الآن.

فقد اعتمد الإخوان المسلمون والسلفيون في بناء السلطة القيصرية, لمن تقدموا بهم لوراثة مبارك, علي التعالي بهم إلي مقامات مخصوصة يجاوزون فيها حدود البشر العاديين.
 فحين لا يجد المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين ما يزكي به مرشح جماعته, إلا أنه رجل خصه الله بمكرمة قبول الدعاء التي لا يخص بها إلا المصطفين من عباده, فإنه كان يخايل بأن الرجل هو أحد أصفياء الله; وبما يعنيه ذلك من امتياز بمقام مخصوص لا يدانيه فيه غيره.
 وغني عن البيان أن هذا المقام المخصوص هو ما سوف يجعل من الميسور علي أنصار الرجل مماثلته مع أحد'' رجال الله'' الذين يتمتعون بثقل هائل في الرأسمال الديني للجمهور; وأعني به النبي الكريم'' يوسف'' الذي قيل أن مرشح الجماعة نسخته العصرية.

ورغم أن أنصار المرشح السلفي لم يكونوا أقل من الإخوان في التعويل علي الرأسمال الديني في بناء السلطة القيصرية لمرشحهم, فإنهم حين أصروا علي اعتبار الرجل بمثابة'' الأب'', كانوا يمتدون بما يؤسس لسلطة قياصرة العرب إلي عالم الثقافة الأقدم; وأعني بها ثقافة'' الأبوية''.
ولعل ما راح يهتف به هؤلاء الأنصار من مفردات'' البيعة'' و'' الدم'' و'' التعبئة والحشد'' ليعد بعضاً مما يحتشد به قاموس تلك الثقافة الراسخة العتيقة... واتساقاً مع تقاليد دعاة السلفية في التعالي بنماذجهم إلي مقامات مخصوصة يكتسبون فيها سمات فوق البشرية, فإنهم قد ارتفعوا بمرشحهم لوراثة مبارك إلي مقام يدينه من الله نفسه.

ولعل ذلك ما يمكن فهمه مما ذهب إليه أحد أنصار الرجل الذي كان كل مايدهشه أن يستنتج البعض من الأخبار التي تواترت عن حمل السيدة والدة مرشحه الرئاسي للجنسية الأمريكية, أن يكون الرجل قد مارس الكذب حين تقدم للترشح للمنصب الرفيع, وبما يعنيه ذلك من وجوب توقيعه علي أوراق تفيد بعدم حمل أي من والديه لجنسية أخري غير المصرية. وهكذا فإن المشكلة بالنسبة للرجل لم تكن في أن نموذجه الأعلي قد مارس الكذب, بل هي- بالأحري- في مجرد تفكير البعض في إمكانية أن يقع الكذب منه أصلا.
فالكذب, وغيره من الدنايا, هو مما يستحيل أن يقع, أبدا, من نموذجه الأعلي الذي هو ليس كغيره من البشر الذين يكذبون. ولسوء الحظ, فإن وضع الرجل لنموذجه الأعلي, هكذا, تحت فئة من المستحيل أن يقع منه شيئ من الدنايا التي تقع من سائر الخلق, إنما يدنيه من الله الذي يبقي هو الموجود الحق الذي يقف بتفرد ذاته تحت فئة من يستحيل أن يقع منه ما يقع من الخلق.

وهكذا يتجاوز دعاة السلفية وصل مرشحهم, ونموذجهم الأعلي, بمجرد واحد من رجال الله وأصفيائه الذين يسكنون الذاكرة الدينية للجمهور, إلي وصله بالله نفسه; وأعني من حيث يجعلونه شريكا له في القيام تحت فئة من يستحيل أن يضاف إليهما ما يقع من سائر المخلوقين. وإذ يفعل دعاة السلفية ذلك, فإنهم- وللمفارقة- يجعلون من نموذجهم الأعلي نسخة من إمام الشيعة المعصوم, الذين لا يكف دعاة السلفية عن تأكيد خروجهم عن الإسلام. ولعل ذلك يؤكد أن التعالي بالحكام إلي مقامات مخصوصة فوق بشرية لا يختلف الفرقاء في الإسلام بخصوصها; وبما يعنيه ذلك من التأكيد علي حضورها المتجذر في الثقافة.

حين يدرك المرء أن هذا التعالي بالحكام إلي مقامات مخصوصة يتفردون فيها, ويتميزون عن غيرهم, وأن ما يترتب علي ذلك من وصلهم بالله باعتبارهم من رجاله المصطفين, هو جزء من تقاليد'' الآداب السلطانية'' التي تسربت إلي الإسلام من المواريث العتيقة للشرق القديم; فإن له أن يتساءل عما إذا كان الفاعلون الذين تحققت لهم الغلبة السياسية يدركون حقا معني ما شهدته مصر من ثورة تبغي الدخول بها إلي عصر الحداثة السياسية أم أن الأمر لا يتجاوز معهم مجرد السعي إلي إثارة الرأسمال الديني لتحصين تراث'' الآداب السلطانية'' المنسرب من عالم الشرق القديم بتقاليده الراسخة في الاستعباد والطغيان؟ وبالطبع فإن ذلك يحيل إلي وجوب تفكيك ذلك الموروث المنتج للقيصرية, وعدم الاكتفاء بمجرد التخلص من قيصر بعينه.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 19 /أبريل/ 2012


الاثنين، أبريل 09، 2012

النخبة المصرية ليست على مستوى ثورة يناير



يدافع أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة:
 د . علي مبروك،
 في كتاباته عن الإسلام الحضاري والدور التنويري للإسلام،
 وقد اتجه للبحث في التراث العربي الإسلامي الفلسفي والكلامي للتحرر من سطوة الخطابات القديمة وامتداداتها الحديثة،
 لبناء دولة الحق التي ترنو إليها الشعوب في الوطن العربي .
من مؤلفاته: “النبوة من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ”،
 “عن الإمامة والسياسة”،
 “الخطاب التاريخي في علم العقائد”،
 “لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا”،
“الخطاب السياسي الأشعري”، “نحو رؤية مغايرة”،
 “ما وراء تأسيس الأصول”،
 “مساهمة في نزع أقنعة التقديس” . 

هنا حوار معه:

أصدرت مؤخراً كتاب “ثورات العرب . . خطاب التأسيس” ما أبرز ملامح هذا الخطاب؟
 قبل الحديث عن ملامح الخطاب التأسيسي لثورات الربيع العربي
 لابد أن نفهم أولاً لماذا قامت هذه الثورات!!
 الثورات المشتعلة في العالم العربي في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين،
 في تصوري موجهة ضد الدولة العربية القائمة “الحديثة”،
ولابد أن نفهم من أين جاءت هذه الدولة؟
هذه الدولة ابنة خطاب النهضة العربية، ورفض هذه الدولة هو رفض في جانب منه لخطاب النهضة والتحديث الذي استمر على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين، ويبدو أن هذا الخطاب بلغ نهايته التعيسة،
 لأن وعود التقدم لم تنجز شيئاً في ظل غياب الديمقراطية وسيطرة الاستبداد،
وتعاني معظم البلدان العربية من أزمات اقتصادية حادة،
 كما أنها تعاني أزمات تفكير .
إذن هذه الثورات ليست ضد أنظمة سياسية، ولكنها قامت من أجل شيء أعمق وأكبر، فهي ثورات ضد خطاب تجسده هذه الدولة،
 والسمة البنيوية لهذه الدولة أنها دولة قمع، والقمع فيها بنيوي
وليس مجرد ممارسة سياسية فقط، وهي أكبر من السياسة،
لأن هذه الدولة كانت لديها قناعة منذ البداية بأنه لا سبيل لإجراء التحديث وإنتاجه في العالم العربي إلا من خلال فرضه بالقوة على المجتمع، لأن هذه الدولة على رأسها “جنرال أو باشا” .
ولم يكن التحديث عند الرواد الأوائل مشروطاً بالعقل،
لأن الشروط العقلية وِأهمها:
إنتاج العقل الذي هو أساس البنية الحضارية المتكاملة لم تكن متوافرة،
 حيث تأكد هؤلاء الرواد الأوائل أن شرط العقل للتحديث ليس متوافراً في العالم العربي، وجرى اعتماد القوة باعتبارها السبيل الوحيد لبناء التحديث .
 والقوة هنا هي قوة الدولة “دولة القمع البنيوي”،
 لأن القمع سمة بنيوية تأصلت في هذه الدولة .
 نحن نرنو إلى دولة الحق، وهذه الثورات العربية المندلعة في العديد من أقطار العالم العربي تطمح إلى بناء دولة الحق .
وأهم شرط فيها:
 أنه لابد أن يتحول المجتمع بأفراده من مجرد أدوات يستخدمها الحداثيون لفترة طويلة إلى ذوات تتسم بسمتين:
الوعي والإرادة،
 والأمر لا يتعلق بمجرد “وثائق دستورية وقانونية”،
 رغم أهميتها لكن إلى جانب ذلك لابد من تكريس مفهوم الفرد الواعي الحر،
مثلاً ثورة يناير أقصت الجمهور من الفعل وهمشته ونسبت الفضل إلى مواقع التواصل الاجتماعي “الفيس بوك”،
وهذا يمثل ممارسة إقصائية للجمهور باعتباره فاعلاً حقيقياً،
 كما تم الترويج قديماً إلى أن محمد علي هو مؤسس مصر الحديثة،
وتناسينا دور المجتمع المصري في هذا التحديث،
إذن لابد من صياغة خطاب تأسيسي يتحول معه المجتمع من فاعل مجازي إلى فاعل حقيقي أصيل .

 لكن الجمهور العربي ليس كتلة واحدة صماء متحدة الرأي، بدليل حالة الارتباك الممزوج بالفوضى في مصر بعد الثورة؟
 سؤالك يفترض أن الجمهور متشرذم ومنقسم على ذاته،
 وأنا أختلف معك تماماً،
لأن الفوضى والارتباك الذي تشهده مصر الآن تجسيد لأزمة النخبة وانقسامها وتشرذمها في مصر،
 على العكس ربما الجمهور نواة صلبة هي العاصم من انجرار البلاد نحو الفوضى، فوضوية المشهد المصري الراهن نتاج انقسام النخبة المصرية وتشرذمها،
فالنخبة المصرية ليست على مستوى الحدث .
ومانشهده من فوضى هو مسؤولية النخبة وليس الجمهور،
 ولابد من إخراج هذا الجمهور من الوضع التقليدي الذي تتعامل معه النخبة كأداة، الجمهور الذي استمرأ هذا التعامل من جانب النخبة في حاجة إلى أن نبذل جهداً معرفياً لزيادة الوعي لديه،
بحيث ينتقل بمقتضاه من نظرته إلى نفسه على أنه مجرد أداة إلى أن يكون ذاتاً حقيقية تمتلك القدرة على أن تقرر لنفسها وتختار لنفسها .

 كيف تعول على جمهور تبلغ نسبة الأمية فيه 40 في المئة؟
 أنا لا أعول على هذا الجمهور في وضعه الراهن،
 ولكن بعد نقله من حالته التي يرثى لها إلى حالة أخرى يكون فيها مسلحاً بالوعي، ومالكاً لقراره وعلينا ممارسة نقدية للثقافة السائدة من قبل النظام التعليمي
“على أهميته”،
لأن هذا الجمهور هو نتاج هذه الثقافة،
ونحن في حاجة إلى عمل ثقافي على هذا الجمهور، لتحويله من التقليدية التي تجعله صيداً سهلاً للنخبة لتجعله موضوع استمرار للتهييج والإثارة،
 فهو متلق طوال الوقت ولا يشارك في اتخاذ القرار،
 ولابد من إخراج هذا الجمهور من ثقافته التقليدية إلى باحة ثقافة عقلانية نقدية في مجتمعاتنا .

 ثورات الربيع العربي رفعت شعارات: “الحرية، العدالة، الكرامة” لكن الواقع يرفضها لماذا؟
 لأن الشعار لا يكفي مجرد النطق به وحسب،
 أي شعار لكي يتحول إلى حقيقة لابد من توافر ظروف موضوعية تتيح تحول الشعار إلى حقيقة ممكنة،
 النظام السابق كرس مفهوم الفرد كأداة، كيف يتحول هذا الفرد إلى فرد حر،
منبع الأزمة أننا نطلب مطالب في إطار شروط،
 هذه الشروط ليست خصبة بما يكفي لتحويل مطالبنا إلى وقائع على الأرض .

كثير من المصريين يتصورون أن ثورة 25 يناير ثورة ليبرالية،
لكنها في ظني ثورة تفتح الباب أمام توافر الشروط المهيأة لثورة ليبرالية،
 وهي في حاجة إلى شرطين مهمين:
الأول / شرط اقتصادي
 والثاني/ شرط ثقافي،
 فهناك ما يقرب من 40 في المئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر،
وهناك 35 في المئة من الجمهور أميون، فلا تحدثني عن ليبرالية،
 لأن النظام السابق جرف البلاد بحيث لا نستطيع تصنيف العهد البائد بأنه خطوة سابقة على الليبرالية .

 أين الليبرالية التي تتحدث عنها والإسلاميون فازوا بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية ومجلس الشورى الأخيرة؟
 سؤالك يؤكد ما أقوله،
 وهو أن شروط الثورة الليبرالية ليست موجودة،
 ولكن الباب قد انفتح لبلورة ما أقوله،
فأداء الحكومة المقبلة سوف يحاول أن يثبت كفاءته في إدارة الملف الاقتصادي، وسيحاول محاصرة الشروط التي أدت إلى الانقسام السياسي،
 وسوف يتم فتح الباب لمشاركة سياسية أوسع .

 هل تتوقع أن يصحح التيار الإسلامي أخطاء الدولة الحديثة القمعية؟
 من الممكن بشرط أن ينقلب خطابه رأساً على عقب،
 ولابد من إعادة النظر في خطابهم بشكل جذري،
 وهناك اتفاق بين رواد النهضة على أن تفوق الغرب يعود أساساً إلى نظامه السياسي الضامن في رأيهم للحرية والمقيد للسلطة بالقانون،
وأن تأخر الشرق بما فيه البلاد الإسلامية يعود أيضاً إلى طبيعة نظامه السياسي القائم على الاستبداد أن هذا الموقف يصدق على الفكر الإسلامي العربي والإسلامي عموماً، سواء ذلك الذي قام بإسم السلفية أو ذاك الذي أراد أن يكون ليبرالياً،
ولابد من إقامة تنظيمات سياسية تقوم على دعامتي العدل والحرية،
 لكن للأسف هناك بعض الإسلاميين ممن يستدعون الإسلام كمنظومة جاهزة، وفرضها على الواقع الراهن
وفي هذه الحالة ستتم إعادة إنتاج النظام السابق في مصر من جديد،
 نحن في حاجة إلى إسلام مفتوح بلا ضفاف،
 يتجاوب مع الواقع بحيث يكون له دور في تشكيل خطاب مفتوح يتفاعل مع الواقع .

 برأيك ما هو السبيل إلى اقتلاع جذور الاستبداد الكامنة في الوعي العربي؟
 لابد من إعادة بناء العقل على النحو الذي يؤول في النهاية إلى اقتلاع الجذر الأعمق للاستبداد الكامن في تجاويف العقل الغائرة العميقة،
 وهذا يعني أن تحرير العقل هو التوطئة الجوهرية اللازمة لتحرير الواقع،
فالواقع ليس مجرد الممارسة التي تطفو على السطح بقدر ما هو أيضاً،
 ما يكمن تحتها من نظام المعني،
 الذي هو نظام العقل في الآن نفسه،
 وبما يعنيه ذلك من أن الهوية هي جوهر العلاقة بين العقل والواقع،
 ومن دون هذا التحرير للعقل سيظل الاستبداد يعيد إنتاج نفسه في الواقع .

 كيف ترى ثنائية الحداثة والتراث في هذا السياق؟
 لابد من تأسيس العلاقة بين التراث والحداثة على نحو من الاتساق والتوافق
وليس التضاد والتنافر،
 وإذا كان انبثاق الحداثة يرتبط بما يؤسسها وينتجها “التراث” بأكثر من ارتباطه بــــ”الحداثي” الذي ينتج عنها،
 رغم أن هذا الأخير لابد أن يؤثر في مسار تطورها،
 فإن هذا يعني أن أي سعي إلى إنتاج حداثة حقة لابد أن يربط نفسه بالانخراط في عملية إنتاج التراث الذي يؤسسها،
 وإذن فالأمر يتجاوز ما يمكن استنساخه،
لأنه يتعلق بالروحي الذي لا يمكن نقله،
 وبما يعنيه ذلك من ضرورة السعي إلى امتلاكه على نحو حقيقي،
 وذلك عبر إنتاجه في السياق الخاص بالثقافة العربية الإسلامية،
الآن عملية الإنتاج تلك إنما تتحقق ضمن شروط تخص هذه الثقافة الأخيرة،
 فإن الروحي “التراثي” الذي ينشأ في هذه العملية لا يمكن إلا أن يكون خاصاً بتلك الثقافة .


تم النشر في موقع الخليج بتاريخ 9 إبريـــــل 2012



الخميس، أبريل 05، 2012

عن الشريعة وما هو قطعي الدلالة‏..‏ قراءة في مراوغة مفهوم‏!‏



لا يشتغل المفهوم‏(‏ أي مفهوم‏)‏ منفردا‏,‏
 بل يشتبك مع غيره‏ من مفاهيم أخري‏,‏
 تتضافر معه في انتاج ـ وتثبيت ـ الدلالة التي يريدها لها مستخدموه‏.‏
وإذا كان قد بدا أن دلالة مفهوم الشريعة في الاستخدام الجاري له ـ في الوقت الحاضر ـ يرتبط بتاريخ طويل من الفهم المنغلق الضيق, بقدر ما يفارق رحابة وانفتاح التداول القرآني له, فإن ثمة مفاهيم تتضافر معا في انتاج تلك الدلالة المتزمتة لهذا المفهوم. 

فإن روح القطع والجزم وتعطيل التفكير التي تفيض بها مفاهيم مثل:
النص القطعي الثبوت والدلالة و لا اجتهاد مع نص هي الروح التي يتغذي عليها البناء المنغلق الضيق الذي استقر لمفهوم الشريعة.
وغني عن البيان أن سعيا الي استعادة ما أراده القرآن للمفهوم من رحابة وانفتاح, لن يكون ممكنا إلا عبر الحوار مع تلك المفاهيم الداعمة التي تآدت الي تثبيت المفهوم الضيق للشريعة( كمحض أحكام وحدود), وهي المفاهيم التي ترسخت كمصادرات تتعدي منطق التفكير والمناقشة.
 ولعل القيمة القصوي للحوار مع تلك المفاهيم يتأتي من أنها تمثل الأسس التي يعتمد عليها الساعون إلي احتلال المجال العام في مصر( من مؤدلجي الاسلام) في التأثير علي وعي الجمهور, بعد أن أفلحوا في التلاعب بعواطفه.

ومن حسن الحظ أن تحليلاً لتلك المفاهيم يكاد يكشف عن أنها لا تقدم معرفة حقة, بقدر ماتعمل كأقنعة تتخفي وراءها رؤي وتصورات يراد تحصينها خلف القداسة المفترضة لما يخايل به السطح الظاهر لتلك المفاهيم غير المنضبطة.
 وإذن فإنها من قبيل المفاهيم التي تكون مرادة, لا لما تجليه وتكشف عنه, بل لما تخفيه وتغطي عليه.
ولكي تكون مثل تلك المفاهيم قادرة علي أداء وظيفتها في التمويه والإخفاء, فإنه يغلب عليها بساطة الصياغة اللغوية علي نحو يسهل معه ترديدها, بما يؤول الي ترسيخها وتثبيتها.
 وهكذا فإن البساطة اللغوية لمفهوم قطعي الثبوت قطعي الدلالة لا تعكس الإحكام والدقة, بقدر ماتعكس مراوغة تيسير الترديد الذي يقصد الي تثبيت حكم المقدم( قطعي الثبوت) للتالي( قطعي الدلالة) علي رغم انتماء الواحد منهما الي مجال مغاير لذلك الذي ينتمي إليه الآخر.
 إذ فيما ينتمي الثبوت الي مجال التاريخ الذي يقبل كل ما يحدث فيه أن يكون موضوعا للقطع والتثبت, فإن الدلالة تنتمي الي مجال المعني الذي لا يقبل ـ بطبيعته ـ أن يكون موضوعا للقطع والتثبيت أبدا.

وهكذا فإن ماينسحب علي الثبوت لا يمكن أن ينسحب,آليا, علي الدلالة بحسب ما يقصد إليه المفهوم, وما يعنيه ذلك مباشرة من أن الثبوت القطعي لأصول الاسلام        (قرآنا وسنة) لا يعني أبدا إمكان القول بقطعية الدلالة التي يربطها البعض بهما.

وإذا كان ثمة من يسعي الي تثبيت القطعية فيما يخص دلالة القرآن, عبر القول بأن عدم القول بقطعية دلالته لا يعني ما هو أكثر من القول بظنية تلك الدلالة, و أن وصف دلالة الآيات بالظنية يوجب ـ علي قول أحدهم ـ كون القرآن حجة ظنية ومعجزة غير قطعية, مع أن الاعجاز يقوم علي القطع واليقين, فإنه يلزم كشف ما ينطوي عليه هذا القول من مراوغة التسوية بين القطعي وبين اليقيني, في حين أن القطعي إنما يرادف, في الحقيقة, المنغلق والجامد,
 وذلك فضلا عن التسوية ـ من جهة أخري ـ بين عدم القطع وبين الظن( بما هو نقيض الحق), في حين أن المعني غير القطعي لا يعني أكثر من المعني المنفتح المتحرك. 

وهكذا فإن الأمر يتعلق بالدفاع عن الدلالة المفتوحة في مقابل الدلالة المغلقة, وليس أبدا بتكريس الدلالة الظنية في مقابل الدلالة اليقينية. وليس من شك في أن إعجاز القرآن يكون أكثر رسوخا في حال الدلالة المفتوحة منه في حال الدلالة المغلقة الجامدة, وأعني من حيث لا ينكشف إعجازه إلا مع انفتاح دلالته وإتساعها, وليس العكس.

وإذا كانت سهولة ترديد مفهوم قطعي الثبوت قطعي الدلالة قد أتاحت له تداولا واسعا نسبيا بين الجمهور, فإن الغريب حقا أن هذا القطعي الدلالة هو ـ بحسب تعريف الأصوليين له ـ مما يعز حصوله في القرآن.
 فإذا كان القطعي الدلالة هو ما دل علي معني متعين فهمه منه, ولا يحتمل تأويلا, ولا مجال لفهم معني غيره منه, أو أنه علي قول آخر ماينتقل بإفادة المعني علي قطع مع انحسام جهات التأويل والاحتمال فإن ذلك مما يندر وجوده في القرآن, وإلي حد أن السيوطي لم يجد إلا مثالا واحدا له, في قوله تعالي:
فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم, تلك عشرة كاملة,
وبما يعنيه ذلك من أنه لم يجد في القرآن ماينطبق عليه معني القطع إلا في شطر آية هو عبارة عن مسألة حسابية.
 وأما إذا جري تعريف القطعي الدلالة بأنه كل نص دل علي فرض في الإرث مقدر أو حد في العقوبة مقرر أو نصاب محدد, فإن ثمة من فروض الإرث المقدرة تصريحا في القرآن, ماكان موضوعا لاختلاف الصحابة أنفسهم, وبما يعنيه ذلك من إستحالة أن تكون محلا لدلالة قاطعة.

وكمثال فإنه يمكن الإشارة الي ماأورده ابن العربي ـ في كتابه أحكام القرآن بخصوص قوله تعالي:
 فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك.
 فعلي رغم أنه فرض في الإرث مقدر ـ وبما يعنيه ذلك من وجود أن يكون من قبيل القطعي الدلالة بحسب التعريف الآنف, فإن ابن العربي قد اعتبره معضلة عظيمة, فإنه تعالي لو قال:
(فإن كن إثنتين فما فوقهما فلهن ثلثا ماترك), لانقطع النزاع.
 فلما جاء القول هكذا مشكلا وبين( القرآن) حكم( البنت) الواحدة بالنصف, وحكم مازاد علي الاثنتين بالثلثين, وسكت عن حكم البنتين أشكل الحال, بما يعنيه ذلك من أنه من قبيل المشكل الذي يستحيل معه الجزم والقطع.
 وحين يضاف الي ذلك الاختلاف الحاصل في نفس الآية بخصوص قوله تعالي:
 فإن لم يكن له ولد وورثة أبواه فلأمه الثلث,
والذي لم يكن قاطعا رغم أنه فرض مقدر, حيث أورد القرطبي أن( ابن عباس) قال في إمرأة تركت زوجها وأبويها:
للزوج النصف, وللأم ثلث جميع المال, وللأب مابقي,
 وذلك في حين أورد عن( زيد بن ثابت) قوله:
 للزوج النصف, وللأم ثلث مابقي( وليس ثلث جميع المال).
 والمهم أنه حين سأل ابن عباس زيدا:
 أتجد ماتقوله في كتاب الله, أم تقوله برأي ؟
فإن مارد به زيد من أنه يقوله برأيه, لا يعني إلا دلالة القول ليست قطعية أبداً, علي رغم أنه فرض مقدر.

والحق أنه, وعلي فرض بيان القول ووضوحه, فإنه لا يجوز القول بقطعية الدلالة مطلقا, فإنه لو صح ذلك لما كان لعمر بن الخطاب أن يوقف دفع سهم المؤلفة قلوبهم مع بيان القرآن له صراحة, وهو ما يعني أن أمر الدلالة لا يتوقف فقط علي بيان المقال, بل وكذا علي سياق الحال.
 فهل يستوعب مؤدلجو لاسلام سياق الحال ؟

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 5 / ابريل /2012