السبت، يوليو 21، 2012

حوار الدكتور علي مبروك مع جريدة البديل ج1





كتب الحوار : مدحت صفوت
الإسلاميون الآن قدم في الماضي والأخرى في الحاضر.. ويتمترسون وراء بعض الشعارات التي تمنعهم من الدخول في أي حوارات
اقتراح "السيادة لله" إعادة لفكر الحاكمية بكل ما ينطوي عليه من مخاطر مُحدقة
المفكر الدكتور علي مبروك، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، له العديد من الكتابات حول التراث، والشبكة المفاهيمية التي تنتظم بناء تراثنا العربي والإسلامي. ويحتل مفهوم "الشريعة" موقعًا مهمًا في قلب هذه الشبكة؛ ومن هنا ما يبدو من إنشغال "مبروك" الواضح به، في كتابيه "ما وراء تأسيس الأصول"، و"لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا".
وخلال الأيام القليلة الماضية انتهت لجنة المقومات الأساسية للمجتمع بالجمعية التأسيسية لوضع الدستور، من وضع المادة الثالثة من الدستور، حول مرجعية الأزهر الشريف لشئون المسلمين. ونصت المادة المستحدثة في مسودة الدستور على أن "الأزهر الشريف هيئة إسلامية مستقلة مقرها مصر ومجالها العالم الإسلامي والعالم كله، تختص بالقيام على كافة شئونها وتكفل الدولة الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضها ويكون رأى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف المرجعية النهائية للدولة في كافة الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية".
كما شهدت الساحة السياسية والثقافية لغطًا حول مفهوم الشريعة ومبادئها وأحكامها، ولمن تكون السيادة: لله؟ أم للشعب؟ وحول الشريعة كمفهوم ومقاصدها وغاياتها، و"عمل اللجنة التأسيسية"- المثير للجدل- كان لنا مع المفكر الإسلامي هذا الحوار..

- المفاهيم بوابة كل علم ومستهل كل تخصص.. كيف تقرأ مفهوم الشريعة الآن؟

للأسف، في مصر، أدت حالة عدم الانضباط المعرفي للمفاهيم إلى إلتباسها وتشوشها‏,‏ على النحو الذي جعل منها موضوعًا للتلاعب‏,‏ وليس الفهم‏.‏ وباتت أدوات يتحارب بها الناس ويتناحرون, بدل أن تكون ساحات يتواصلون عبرها ويتحاورون. ومن بين هذه المفاهيم مفهوم الشريعة, الذي تشهد اللحظة الراهنة استخدامًا متزايدًا له من جانب جماعات الإسلام السياسي التي تستثمره في صعودها المتسارع نحو السلطة في العالم العربي على العموم, وذلك فضلا عن شحذها الجاري له لتحسم به الجدل المرتقب حول الدستور في مصر.
ولسوء الحظ، فإننا لا ندري أية وجهة من وجهات الشريعة، ودلالاتها، يقصد من يستخدم هذا المصطلح؟ فمفهوم الشريعة أحد المفاهيم المحملة بدلالات تاريخية نشأت عن الاشتغال عليه ضمن تحديدات مكانية وزمانية لعبت دورًا في حاسمًا في تركيبه، وهذه الدلالات لا تتطابق تماماً- وعلى نحو آلي- مع دلالة المفهوم بحسب التداول القرآني له. والواقع يثبت أن من يستخدمون مفهوم "الشريعة" هذه الأيام يستدعونه بمحمولاته التاريخية فقط، ويسكتون تمامًا عن الفضاء الرحب للتداول القرآني له.

- ما الفرق بين المفهومين؛ التاريخي والقرآني؟

المفهوم القرآني للشريعة يضعك أمام نوعٍ من التداول بالغ الرحابة والانفتاح، فيما ذهبت الاشتغالات التاريخية على المفهوم إلى التضييق من تلك الرحابة، بعد أن صار المفهوم موضوعًا للانحيازات، ومقتضيات الظروف والأحوال والرؤى، والأوضاع السسيوثقافية، مما جعلنا أمام نوع من الفهم المنغلق الضيق الذي تتحكم فيه تصوراتٍ صنعتها عصور الجمود والركود الطويل التي عاشتها المجتمعات الإسلامية. ولسوء الحظ, فإن الأمر لايقف عند مجرد ركود المفاهيم وجمودها, بل يتجاوز إلى الإنحراف بها عن المجال التداولي لها في القرآن. وبالرغم من ذلك, فإن منتجي هذا الفهم وحراسه لايكفون عن الإدعاء بأن القرآن هو مصدر تلك المفاهيم, لكي يهبوها حصانته وقداسته.

عمليًا كيف تم ذلك؟

الشريعة في القرآن، ومن خلال البحث عن الجذر اللغوي شرع ومشتقاته نجد أنه قد ورد أربع مرات; كان في ثلاث منها منسوبًا إلى الله وحده, وفي المرة الوحيدة التي نسب فيها القرآن الفعل شرعوا إلى البشر, فإن ذلك كان على سبيل الاستنكار والتعريض؛ وبما يعنيه ذلك من إصرار القرآن على نسبة "الشريعة" إلى الله وحده. وهنا يلزم السؤال (أولاً) عن مجال تلك "الشريعة" التي ينسبها القرآن إلى الله وحده، ثم السؤال "ثانياً" عن مدى جواز استخدام لفظ "الشريعة" للإشارة إلى البناءات التي تدخل الفاعلية الإنسانية في إنجازها "كالفقه مثلاً". وبخصوص السؤال الأول، فإن كل موسوعات التفسير الكبرى "للطبري والرازي والقرطبي وابن كثير وغيرهم" تتفق في تفسيرها لآية "شرع لكم من الدين" على أن المقصود من الآية أنه يُقال: شرع لكم دينًا تطابقت الأنبياء على صحته، وأن المراد من هذا الدين شيئًا مغايرًا للتكاليف والأحكام، وذلك لأنها مختلفة متفاوتة. وبحسب تلك القراءة، التي يتفق عليها مفسرو أهل السنة الكبار، فإن مجال "الشريعة" التي ينسبها القرآن إلى الله هو ما تطابقت عليه الأنبياء من الكليات والمقاصد التي يتوافق عليها الجميع من بني البشر. وأما ما دونها مما يختلفون فيه بحسب الأحوال المتفاوتة للبشر، من الأحكام والتكاليف، فإن القرآن قد جعله موضوعًا "للفقه" الذي لابد من ملاحظة إلحاح القرآن على نسبته إلى الإنسان في المقابل.
فقد ورد الجذر "فقه" بمشتقاته، عشرين مرة في القرآن، كان فيها جميعًا في صيغة الفعل المنسوب إلى البشر فقط. وإذ الفقه، هكذا، هو تركيبٌ تدخل في بنائه الفاعلية الإنسانية، فإن ذلك يعني عدم جواز استخدام لفظ "الشريعة"- المخصوص بالله وحده بحسب القرآن- في الإشارة إليه، وذلك على العكس تمامًا مما يفعل دعاة الإسلام السياسي الآن؛ الذين يؤسسون إستراتيجيتهم على مراوغة إخفاء "الفقه" بما هو تركيبٌ إنساني وراء "الشريعة" بما هي مشروعٌ إلهي.

طرح الإسلاميين للشريعة إلى أي المفهومين أقرب، القرآني أم التاريخي؟

في جميع الاستخدامات الراهنة للمفهوم يبدو أن استدعاء المفهوم بحمولته التاريخية، وليس القرآنية، هو المهيمن بقوة. وابتداءًا من أن الحمولة التاريخية تمثل تضييقًا للمفهوم، في مقابل الرحابة التي تؤكدها حمولته القرآنية (وهو التقابل الذي ينتج عن التباين بين القرآن كفضاء "للكلي"، وبين التاريخ كساحة "للجزئي")، فإن الانحياز للمفهوم بحمولته التاريخية، على حساب حمولته القرآنية، يمثل تدنيًا بالمفهوم بلغ أخيرًا إلى حد اختزاله في مجرد "الحدود"، أو منظومة العقاب التي يدرك دارسو الفقه الإسلامي الحذر البالغ الذي أظهره الفقهاء بخصوص تطبيقها؛ ومن هنا ما أحاطوها به من الشروط التي تجعل تطبيقها صعباً، إن لم يكن مستحيلاً.

- في رأيكَ، لماذا يستخدم الإسلاميون مفهوم الشريعة ولا يستخدمون المفهوم الصحيح؟

أعتقد أن في الأمر مراوغة، فهم يدركون أن لفظة "الفقه" تخلو من هالة القداسة التي تحيط بلفظة "الشريعة". وغنيٌ عن البيان أن سعيهم إلى إخفاء الفقه (غير المقدس) وراء الشريعة (المُحاطة بالقداسة) يستهدف إضفاء القداسة على رؤاهم الخاصة (التي هي نتاج اجتهادات وميول وانحيازات هي إنسانية بطبيعتها). وإذن فإن السعي إلى إضفاء القداسة على ما هو إنساني، وغير مقدسٍ بطبيعته، هو القصد من وراء إستراتيجية إخفاء "الفقه" وراء "الشريعة".

- هذا التحويل يتم طوال التاريخ الإسلامي..

من جانبي أختلف معك، فالإمام مالك مثلاً، كان معاصرًا للخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، الذي كان واقعًا تحت تأثير ابن المقفع، (نستيطع أن نقول إن ابن المقفع هو المُنظر الإيديولوجي للمنصور). وقد أشار ابن المقفع على الخليفة بضرورة التوحيد القانوني للدولة؛ أي العمل بقانون واحد تخضع له كافة أمصارها، لتكتمل وحدتها السياسية. وطرح عليه فكرة تعميم كتاب "الموطأ" لمالك على كل الأمصار ليفصل قضاتها في المسائل المعروضة عليهم بما ورد فيه. بيد أن مالك قد أبى، بالرغم مما أغروه به من أن كتابه سيكون، على هذا النحو، هو الحجة مع القرآن. وقد إحتج مالك لرفضه بأن "فقهه" نابعٌ من ظروف أهل المدينة وأعرافهم المحلية، وأنه لذلك قد يشق على أهل العراق أو الشام وغيرها. إن ذلك يعكس وعيًا عبقريًا بدخول الإنسان (وعيًا وواقعاً) في بناء وتركيب الفقه؛ وبما يعنيه ذلك من أن الرجل ينزع عن اجتهاده أي قداسة. ولعله يلزم الوعي هنا بأن السياسة كانت هي التي تسعى لفرض القداسة على الفقه لتسوس الناس وتخضعهم به، وذلك فيما كان الفقيه نفسه يرفض هذا التقديس.

تـــــــــــابعونا في الجزء الثاني من الحوار >>

حــوار الدكتور علي مبروك مع جريـدة البـديـل ج2




الدكتور نصر حامد، والتي مرت ذكرى رحيله منذ أيام، اختزل مقاصد الشريعة الخمسة عند الشاطبي إلى ثلاث "العقلانية- الحرية- الاختيار"، بيد أن الدكتور محمد عمارة، عضو اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور، انتقد اخراج الدين من المقاصد.. فما هي رؤيتك؟

أدرك الراحل الكبير نصر أبو زيد القصورَ البيِّن في نظرية المقاصد التي بلغت غاية تبلورها مع فقيه الأندلس أبو إسحق الشاطبي، الذي بدا أنه قد استنبط ما اعتبره مقاصد الشريعة من الجزء الأكثر ضيقًا ومحدودية فيها؛ وهو الحدود. فطالما أن هناك حدًا (عقابيًا كالقطع والرجم) لفعلٍ ما، فإن الشاطبي قد اعتبر أن الحفاظ على ما يمثل هذا الفعل انتهاكًا له يُعتبر مقصدًا للشريعة. فإذا كان هناك حدٌ لشرب الخمر بما يؤدي إليه من فقدان العقل مثلاً، فإن حفظ العقل يُعتَبر مقصداً؛ وهكذا الأمر في بقية الحدود كالرجم (والمقصد حفظ العِرضْ)، والقصاص (والمقصد حفظ النفس)، والقطع في السرقة (والمقصد حفظ المال)، وأخيرًا القتل في حال الردة (والمقصد حفظ الدين). ولكن- وكما تعلم- فإن حد الردة هو حدٌ خلافي، وفيه أراء متعددة ومتباينة بين الفقهاء.

-  للشيخ عبد المتعال الصعيدي رؤية تقدمية وقراءة عصرية لما ورد بخصوص هذا الحد..

هذا صحيح، ويعني أن إخراج حفظ الدين من مقاصد الشريعة يكون أمرًا جائزًا، بحسب طريقة تأسيس المقاصد على الحدودالتي تبناها الشاطبي. إذ يلزم أن يكون الحدُ الذي يتأسس عليه المقصد غير قابلٍ للخلاف، وذلك ما لا يتوفر في حد الردة؛ الذي يستند إلى خبر آحاد، فضلًا عما يبدو من تعارضه مع مبدأ "عدم الإكراه" ذي الطابع الكلي في القرآن. والحق أن جعل المقاصد هي معكوس الحدود قد أحال دون إدراك قيمًا أكثر كلية يفيض بها القرآن كالعدل والمساواة والإخاء والرحمة وغيرها.

-  كذلك أغفل قيمة الاستخلاف واعمار الأرض..

نعم، وهو أحد أكبر المقاصد القرآنية وأكثرها شمولًا وكلية، كما يلزم الإشارة هنا إلى المقصد التحرري الذي ينشعل به القرآن، والدين على العموم؛ وإلى الحد الذي يمكن معه القول أن "التحرر الإنساني" هو أحد المقاصد الكبرى للدين والشريعة. ومن هنا جوهرية ما طرحه "نصر أبوزيد" من وجوب إعادة التفكير في المقاصد؛ وبما يفتح الباب أمام إضافة مقاصد أخرى تحظى بتوافق أهل الأديان كافة، بل يتوافق عليها البشر على العموم، بحسب ما انتهت بهم إليها تجربتهم.

- قد يفهم البعض أنكَ ضد الدين وحمايته..

إذا كان يمكن الحديث عن نوعين من حفظ الدين وحراسته؛ يتحقق أحدهما عبر القسر والإكراه الخارجي، وثانيهما هو الحفظ عبر الاقتناع الداخلي الحر، فإن النوع الأول منهما هو الأقل شأنًا من غير شك. بل أتصور أن الحفظ عبر الإكراه والقسر يمثل تهديدًا لوجود الدين، وليس حفظًا له؛ وأعني من حيث يصبح وجود هذا الدين قائمًا على محض النفاق الذي حمل عليه القرآن بقوة لما يمثله من خطر داهم على الدين. وفي المقابل، فإن الحفظ الحقيقي للدين هو ما يكون عبر فعل الاختيار والإقتناع الحر؛ الأمر الذي يترتب عليه أن فعل الاختيار (الذي هو- بحسب الأصوليين- فعلٌ تأسيسي في الإسلام، لأن "إيمان المقلد أو من لا يختار لا يجوز") لا ينقطع بدخول المرء الإسلام، بل يظل قائمًا يجدد به المرء إيمانه. ولعل انشغال الإسلاميين بالخارجي والحرفي من الدين على العموم، هو ما يفسر انحيازهم للحفظ الخارجي للدين.

- في كتابك "ما وراء تأسيس الأصول" انتقدت الشافعي، كذلك الدكتور نصر حامد وجه انتقادًا إلى نفس الفقيه، وقد أصابكما جراء ذلك الكثير. لماذا الشافعي؟ ولماذا يتحسس السلفيون "مسدساتهم" إذا ما جرى انتقاد الشافعي تحديدًا؟

الشافعي أحدث تحولًا خطيرًا في مسار التفكير الفقهي في الإسلام، وذلك بحسب ما تكشف عنه قراءة تجربة التفكير في الفقه قبل الشافعي؛ والتي كانت تجربة تتميز بالثراء والخصوبة والانفتاح على الإنسان (وعيًا وواقعًا وتاريخاً)، سواء كنا نقصد فقه المدارس أو فقه الصحابة أو التابعين، وأنا هنا معنيّ بمنهجية الفقهاء ورؤيتهم، وغير معني بأحكامهم ومذاهبهم. هذه التجربة كانت تضع التاريخ، والعقل، والأعراف والتقاليد، والرأي موضع الاعتبار. ثم جاء الشافعي ومارس ضروبًا من التضييق على هذا الانفتاح. ولعل ضِيق السلفيين بنقد الشافعي يأتى من هذا التضييق الذي مارسه من جهة، وربما أيضًا من احتفائهم بابن حنبل الذي يعتبر الشافعي أستاذَا له.
ولعل تعالي الشافعي بالسنة إلى مرتبة الوحي، كالقرآن، يندرج في إطار هذا التضييق؛ حيث لم تعد السنة عنوانًا على تجربة يمكن الاسترشاد بها، بل نصًا واجب الإتباع؛ وهو ما يتوافق مع بنية المزاج السلفي الذي تعد آلية تحويل "التاريخ" إلى "نص" أحد آليات اشتغاله الأثيرة. وضمن هذا الإطار نفسه يندرج تصوره للإجماع على أنه من قبيل السنة غير المحكيِّة؛ وبما يعنيه ذلك من الإلحاح على تحويل التاريخ إلى "نصٍ" أيضاً.

-   بمعنى أنها نصوص افتراضية...

سمها ما شئت، فالشافعي لا يتصور أن يفكر أحد في الفقه بعيدًا عن النص، حتى الإجماع الذي قد يتبادر للذهن أنه إجماع الناس على ما يرون فيه الصلاح، هو عنده إجماعٌ على نصٍ للنبي، لكنه غير مرفوعٍ إليه بالرواية. وفي الجملة فإن الشافعي لا يرى إمكانية للتفكير في الفقه إلا من باب "الخبر" أو النص. ولسوء الحظ، فإنه كان يرسخ بذلك لما سيكون آلية تفكيرٍ مهيمنة في الثقافة العربية حتى اليوم؛ وأعني بها آلية التفكير بأصلٍ أو نموذجٍ جاهز والتي تكاد تكون مسؤولة عن مأزق غياب الإبداعية العربية.

يذكرني حديثك عن دور الواقع، بمقولة الدكتور حسن حنفي "لا تنطق السماء إلا بعد حادثة في الأرض"...

الإنسان (وعيًا وواقعاً) هو جزء أصيل في تركيب الوحي الإلهي ذاته، وعلينا أن نتأمل في دعاوى الإسلاميين التي تفيض بالنفي الحاسم لأي دورٍ للواقع أو الإنسان أو التاريخ في عملية المعرفة بالوحي وفهمه. إن ذلك يكشف عن مفارقة إعتبار الله للإنسان وإدخاله له في تركيب وحيه، وذلك في مقابل إهمال الإسلاميين له، وإخراجه من عملية المعرفة بالوحي حين لا يتصورونه إلا تنزيلًا متعاليًا لابد من فرضه على الناس، ولا يتسع لهم (وعيًا وتاريخًا وواقعاً).
*********************************************************
-  في ضوء متابعتك، ما تقييمك لأداء اللجنة التأسيسة لكتابة الدستور بخاصة في مسائل حريات العقيدة والاعتقاد؟

ما رَشَحَ عن اللجنة التأسيسية شيء مقلق، ابتداءً من مرجعية الأزهر في المادة الثانية؛ حيث كنا نفاخر ونتباهى بخلو الإسلام من الكهنوت، إلا أن الإسلاميين في القرن الحادي والعشرين قرروا أن يجعلوا من الأزهر مؤسسة كهنوت. وما يقلق أيضًا، اقتراح أعضاء حزب النور بسيادة الله، بدلًا من الشعب، مستعيدين بذلك فكر الحاكمية بكل ما ينطوي عليه من مخاطر مُحدقة. ولعل مما يقلق، أيضاً، ما يبدو من عدم السماحة تجاه ممارسات جماعات لها معتقداتها الخاصة، مع أنه لا ضير في أن تمارس أي جماعة بحسب ما تعتقد طالما أن ذلك لا يمثل تهديدًا لقواعد النظام العام في المجتمع.

-  ما  الأكثر الأشياء التي تقلقك تحديدًا؟

أكثر ما يُقلق هو الروح التي تتخفى وراء تلك الممارسات والأفكار؛ وأعني روح التضييق والاستبعاد التي تحضر بقوة، وتطرد روح الاستيعاب والتمثُّل التي ينبغي أن يتحلى بها واضعو الدساتير.

- في ضوء الاستيعاب والاستبعاد، كيف تقرأ رفض السلفيين لوجود نائب قبطي؟

الجماعات الإسلامية عمومًا، تجرنا إلى لحظة تاريخية يتحدد الفرد فيها بهويته الدينية، وليس على كونه مواطنًا، في حين أن الفضاء الذي نعيش فيه يرفض ذلك. وهم يقولون "ولاية غير المسلم على المسلم لا تجوز"، والحقيقة أن مبدأ الولاية ذاته مبدأ رعوي، ومتعلق بالمجتمعات الأبوية، والتي جاء الإسلام ليهدم نظامها ويقوضه. ففي القرآن نجد نبذًا وتفكيكًا للثقافة الأبوية بإعتبارها مصدر التكلس والثبات، ونقض الأبوية مقصد كليّ للإسلام. وبدلًا من أن يَهزم الإسلامُ الأبويةَ، كانت هي التي هزمته، لسوء الحظ. وبدلًا من أن يخلخلها، كانت هي التي تخللت السياق الغالب في الإسلام.

- هنا، أتذكر مقولتك: القبليّة ستعيش حتى في دولة الحداثة..

هي الآن حية، وتعيش، ولها نمط ثقافي، قائم على الترديد والتكرار، ومنظومة اجتماعية قائمة على التعصب والفخر، ومنظومة سياسية قائمة على البطريركية أو سلطة "الأب"، ومنظومة اقتصادية قائمة على النشاط الريعي الخراجي. وإذن فإنها- وبكل تجلياتها- البنية الغالبة على المجتمع.

-  بخصوص تجليات الأبوية على الخطاب السياسي، نلاحظ استخدام الرئيس مرسي استعارتي "أهلي وعشيرتي"..

"يضحك"، لدي مقال أرجأت نشره حول هذين المفهومين، وهما يحيلان إلى بقايا عالم عشائريات ما قبل الحديثة. بالطبع يجب أن نحمد للرجل رغبته في التقرُّب من الناس، بعد فترة بدا فيها أن السلطة قد تعالت عن الناس وانفصلت عنهم. لكن المشكلة ليست في حسن النية، وإنما في الأنساق الفكرية والتحيزات الكامنة وراء الكلمات والمقولات، والتي هي دائمًا مشحونةٌ بدلالاتٍ كثيفة يستحيل عزلها عنها.

- إلى أي مدى تتحكم هذ التحيزات في الإسلاميين؟

يخايلنا الإسلاميون الآن بأنهم يضعون قدمًا في العالم القديم، والأخرى في العالم الحديث، وأنهم يسعون إلى جر العالم القديم نحو الحديث. ولكن المتحقق يكشف عن أن العكس هو الحاصل.

-  نصر حامد وفرج وفودة وعلي مبروك، آمنوا بالحوار العقلاني المتكافئ حلاً.. إلا أنهم تعرضوا لأشكال مختلفة من الاضطهاد. لماذا يرد الإسلاميون على الكلمة بالرصاص؟

الإسلاميون يتمترسون وراء بعض الشعارات التي تمنعهم من الدخول في أي حوارات، لأن الشعارات تكون موضوعًا للترديد والتكرار، وليس المناقشة والحوار، وذلك فضلًا عن امتلاكهم لصورة مثالية "يوتوبية" عن الماضي يقيمون عليها كامل بنائهم الإيديولوجي، ولا يريدون لها أن تكون موضوعًا لاختلاف الرؤى والمنظورات، لكي لا يتحطم هذا البناء. ويُضاف إلى ذلك أنهم يضعون المختلفين معهم في خانة الأعداء المتآمرين الراغبين في هدم الإسلام؛ وبما يعنيه ذلك من استئثارهم- حسب هذا التصنيف- بدور حُماة الإسلام. وهكذا يحيلون الأمر إلى مواجهة بين أعداء الإسلام وحُماته؛ وهي مواجهة لا مدخل فيها للحوار، بل للاحتراب والقتال.
تم النشر في جريدة البديل بتاريخ 21 يوليو 2012

الخميس، يوليو 12، 2012

نصـر أبوزيـد وسـؤال القـــرآن


سوف يكتشف الكافة‏,‏ ولو بعد مرور بعض الوقت‏,‏ أن قدرة الإسلام علي التفاعل المنتج والخلاق مع العصر‏,‏ وعلي النحو الذي يتحول معه من عنوان علي أزمة يعاني المسلمون وغيرهم من تداعياتها السلبية‏,‏
 إلي مشروع خلاص للبشر علي العموم.
 إنما يرتبط بالقدرة علي إثارة سؤال القرآن وإعادة التفكير فيه علي نحو يتسم بالجرأة والمسئولية.

ولقد كان ذلك تحديدا هو ما انشغل به الراحل الكبير نصر حامد أبوزيد الذي أدار الشطر الأعظم من حياته
(التي أنهاها موته الإسيان قبل عامين بالضبط من الآن) حول هذا السؤال المركزي والتأسيسي.
ورغم ما جره هذا الانشغال علي الرجل من مطاعن في دينه وعقيدته
(وبما ترتب علي ذلك من التشويش علي جدية ورصانة إنجازه, و حال دون التفاعل النقدي المثمر معه),
 فإن للمرء أن يقطع بأن وقتا طويلا لن يمر قبل أن يكتشف الفاعلون في مجال الدرس الإسلامي القيمة الكبري لهذا الإنجاز الرصين, ويدركوا ضرورة إعادة اكتشافه, والبناء فوقه.



فقد أدرك الرجل أن القرآن قد حوصر بشبكة من المفاهيم والتصورات التي وجهت عمليات فهمه وقولبتها, ووضعت لها حدودا وآفاقا لا تخرج عنها, واكتسبت علي مدي القرون- ورغم مصدرها البشري- قداسة توازي تلك التي للقرآن ذي المصدر الإلهي.

 ولسوء الحظ, فإن هذا الحصار قد أضر بالقرآن وبالمسلمين في آن معا.
 فقد أعجز القرآن عن أن يكون مصدرا للإلهام في عالم متغير, وأجبر المسلمين, إبتداء من اضطرارهم للانحباس ضمن تحديدات هذه المفاهيم الراسخة, علي التعيش عالة علي غيرهم من صناع العصر والفاعلين فيه.
ومن هنا ما بدا من ضرورة الإنعتاق من أسر تلك التحديدات, واستعادة القرآن الحي السابق عليها; والذي كان- وللمفارقة - قرآن النبي وصحابته الأكرمين.
 وبالطبع فإنه يبقي وجوب الانتباه إلي ما يؤشر عليه هذا المسعي الانعتاقي من التمييز بين القرآن الذي صار موضوعا لتقليد جامد تقوم عليه مؤسسة حارسة ترعاه وتحفظه, وبين القرآن المنفتح الحي السابق علي رسوخ هذا التقليد; والذي تزخر المصادر القديمة بما يرسم صورة متكاملة له مما يتواتر منسوبا إلي النبي الكريم والجيل الأول من الذين تلقوا وحيه الخاتم.

وهنا يلزم التأكيد علي أن الأمر لايتعلق بأي تحول في طبيعة القرآن ذاته, بقدر ما يتعلق بتحول في نوع العلاقة معه; وأعني من علاقة مع القرآن كان فيها ساحة يتواصل فوقها الناس بما تسمح به مقتضيات الواقع والأفهام, إلي علاقة بات يجري معها فرضه كسلطة إخضاع بالأساس.
 وللغرابة, فإن هذا التحول قد كان من الإنجازات الكبري لبني أمية بالذات. فرغم الوعي, من جهة,بضرورة وجدوي ما قام به الخليفة الثالث عثمان بن عفان من تقنين المصحف, فإنه يبقي لزوم الإشارة إلي ما صاحب هذا العمل مما يقال أنه الإنتقال من القرآن الناطق إلي القرآن الصامت; وبما ينطوي عليه هذا الإنتقال من إهدار ثرائه وحيويته. ومن جهة أخري, فإن ما قام به الأمويون, إبان صراعهم السياسي مع الإمام علي بن أبي طالب, من رفع المصاحف علي أسنه الرماح والسيوف كان الواقعة الكاشفة عن إرادتهم في تثبيت القرآن كسلطة حارسة لسلطانهم, وذلك بعد أن تبدي لهم جليا أن فاعليته في إنقاذ هذا السلطان تفوق فاعلية السيف بكثير.

 وغني عن البيان أن هذا التمييز بين قرآن النبي الحي وبين القرآن المنحبس وراء التقييدات التي تفرضها السلطة, إنما يعكس ما يكاد يكون تقابلا يعرفه دارسو الأديان علي العموم بين دين التقليد الذي تحرسه مؤسسات السلطة لتسوس به الناس, وبين الدين الحي الذي يقصد إلي إذكاء الوعي وتحرير الإرادة.
 وإذ تحرس المؤسسة دين التقليد, لأنه يكون حارساً لها بدوره, فإن سعياً إلي تحرير الدين من سطوة التقليد, واستعادته في انفتاحه وحيويته الأولي, سوف يعري تلك المؤسسة مما تستر به عورتها.
 ومن هنا أن انتقام المؤسسة من هؤلاء الساعين إلي استعادة الدين الحي يكون قاسيا حقا, لأن ذلك يكون بمثابة تعرية لها من غطائها الإيديولوجي. وللغرابة فإن الجمهور الذي يكون القصد إلي تحريره من القبضة المهيمنة للمؤسسة هو ما يقف وراء السعي إلي استعادة الدين في حيويته وإنفتاحه, يكون هو الآداة التي تنتقم بها المؤسسة من هؤلاء الساعين إلي تعريتها; وذلك بمثل ما جري لأبي زيد الذي لم يستهدف إلا إستعادة قرآن النبي المنفتح الحي, فجعلت منه مؤسسة التقليد منكرا للوحي, وأطلقت الجمهور ضده.

وإذ يكشف ما سبق عن أن ما جري لأبي زيد هو من فعل سلطة تسعي إلي حفظ وجودها, وإطاله أمد بقائها, فإنه يلزم فضح ما يقف وراء هذا المسعي الأناني من تثبيت القرآن المنحبس وراء القواعد, أو بالأحري التقييدات, التي ترسخت عبر القرون, ولو كان ذلك علي حساب قرآن النبي المنفتح الحي. وهنا يلزم التنويه بأن أحدا لو توفر علي جمع الروايات الكثيرة المتواترة عن النبي وصحبه الكرام, بخصوص القرآن( تنزيلا وتدوينا ولغة وتداولاً وجمعاً وتأليفاً ), لأمكنه رسم صورة له تغاير- أو حتي تناقض- الصورة التي استقرت له عبر القرون اللاحقة بفعل السلطة, والتي يكاد يغيب منها الإنسان علي نحو كامل.
وعلي العكس تماما من تلك الصورة السلطوية, فإن السمة الرئيسة للقرآن, بحسب المتواتر عن النبي وصحبه, هي في انفتاحه علي الإنسان, واتساعه له علي نحو يثير الاندهاش; وإلي الحد الذي يكاد معه الإنسان يكون هو مركز دائرته وقطب رحاه.

والحق أن أبا زيد لم يفعل شيئاً إلا السعي إلي استعادة هذا القرآن المنفتح الحي
(والذي هو- وللمفارقة - قرآن النبي), وأمسك في سنواته الأخيرة بالمفهوم الذي يقدر به, أكثر من غيره, علي تحقيق مسعاه;
 وأعني به مفهوم الخطاب.
 وإذ يؤشر ذلك علي تحوله عن المفهوم المركزي الذي تمحورت حوله مقارباته الأولي للقرآن; وأعني به مفهوم النص بعد أن تبدي له عجز المفهوم وقصوره عن الإحاطة بعالم القرآن المنفتح الحي, فإن ذلك يكشف عن روح منفتحة تخاصم التحجر والانكفاء, وعن عقل لم يكف عن التساؤل, وهو ما تبدو مصر ف مسيس الاحتياج إليه الآن.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 12/ يوليو/2012


الجمعة، يوليو 06، 2012

في الذكرى الثانية لرحيل المفكر تصر حامد أبو زيد


مبروك: 

لو كان أبو زيد حياً لقدم المزيد من العلم فى مجال القرآن


قال المفكر الدكتور على مبروك..
 فى الذكرى الثانية لرحيل المفكر الكبير نصر حامد أبو زيد،
 أنه لو كان حينا بيننا الآن لقدم المزيد من علمه فى مجال سؤال القرآن،
 مؤكدا أن انحياز أبو زيد للإسلام كان أكبر ممن أدعوا عليه الكفر،
 قائلاً:
 أنا أشهد أنه كان مسلماً لحد التصوف.

وأضاف "مبروك" فى تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع":
 أن هذه اللحظة التى نتذكر فيها نصر أبو زيد كنا نتمنى أن تكون مصر فى حال أفضل،
 مؤكدا أن هذا الحال يجعلنا أكثر تمسكا بالدفاع عن الحرية،
لأنها مازالت مهددة، مشيرا إلى أن صعود الإسلاميين الآن يضعهم أمام تحديات كبيرة عليهم أن يثبتوا حسن نواياهم كما يصرحون.

تم النشر في جريدة اليوم السابع بتاريخ 6 يوليــــــــــو 2012
كتبت / سارة عبد المحســن