الخميس، يونيو 28، 2012

ما يجهله الناس عن إسلام جارودي



لم ينشغل العرب من المفكر الفرنسي الكبير روجيه جارودي‏
- الذي غيبه الموت قبل أسبوعين عن عمر يناهز القرن تقريبا-
 إلا بإسلامه ومعاداته لإسرائيل; وبما يعنيه ذلك من أنهم لم يشغلوا أنفسهم إلا بما يمكن أن يكون موضوعا للاستثمار السياسي والأيديولوجي من الرجل.
وهم وإن ظلوا, بذلك, أوفياء لما درجوا عليه من طريقة في المقاربة لا تعرف إلا الاختزال السياسي والايديولوجي لموضوعها( سواء كان فكرة أو مفكرا).

فإن ذلك قد أعجزهم عن الإمساك بأهم ما يتميز به الرجل( فكرا وسيرة); والذي لم يكن شيئا إلا سعيه الدؤوب للانعتاق من إسار الايديولوجيا بكل ما تحمل من اليقين الجازم والكاذب, في آن معا.

فمنذ اللحظة التي ارتفعت فيها الغشاوة عن عينيه, علي مدي خمسينيات وستينيات القرن المنصرم, حتي انفلت من قفص الماركسية المنغلق الجامد, والرجل يأبي إلا أن يناضل, بلا هوادة, ضد كل الايديولوجيات التي تستعبد الإنسان وتضحي به علي مذابح مطلقاتها الجامدة المتوهمة.
ومن هنا, مثلا, أن الإسلام الذي اعتنقه الرجل, قبل ثلاثة عقود من وفاته, لم يكن من نوع الإسلام المؤدلج الذي تطرحه الفصائل المتأسلمة كأيديولوجيا للحكم السياسي, وذلك بمثل ما كان فضحه للصهيونية وتعريته لها, يرتبط بما تنطوي عليه من تحويل اليهودية( كديانة) إلي أيديولوجيا سياسية; وبما لابد أن يترتب علي ذلك من إدانة وفضح ما يسعي إليه البعض من تحويل الإسلام( أو أي دين آخر) إلي ايديولوجيا يخوض معاركه السياسية تحت رايات قداستها.

فقد عاش الرجل عصرا عاصفا, وحين حط بسفائنه علي مرافئ الإسلام, بعد عقود من التطواف بين أمواج الأفكار والايديولوجيات التي تزاحمت علي سطح عصره, فإنه لم يحط عليها مدفوعا - من جهة - بضروب من اليأس والإحباط التي أورثته إياها أنهار دماء الملايين من بني البشر التي أريقت في حروب الايديولوجيات المتقاتلة, وبرغبته - من جهة أخري - في الإمساك بخشبة للخلاص
(ولو حتي زائفا), بل جاءها مسكونا بوعي صقلته تجربته الغنية في التعاطي المنفتح مع تجارب العصر وأفكاره الكبري.
 ولأن السعي وراء الإنسان- كمشروع يقوم, في جوهره, علي الانفتاح والحرية- كان هو البوصلة الهادية للرجل في كل تطوافه, فإن إسلامه كان لابد أن يتسع لمثل هذا الإنسان; ومن هنا أنه جاء صوفيا وتأويليا لا ضفاف له ولا حدود; وأعني إسلاما يقوم- حسب قوله - علي الانفتاح, وعلي قبول (للآخر) لا يقتصر علي سائر فروع الإيمان الإبراهيمي
(اليهودية والمسيحية) بل يمتد إلي إمكان حوار خصيب مع حكمة آسيا والهند واليابان.
 وهكذا فإنه يتأسي إسلام الشيخ الأكبر( محيي الدين بن عربي) الذي تنسد فيه الهوات بين كافة الأديان والعقائد, وتلتئم فيه الفجوة بين الله والإنسان; وبما يعنيه ذلك من مغايرته الكاملة لإسلام الكتل الصاخبة في العالم العربي الآن.

 فإن هذه الكتل المسيسة لا تعرف إلا محض إسلام حرفي شكلاني يتكشف, لا عن روح الانفتاح والاستيعاب, بل عن ضروب من الفهم المنغلق الجامد, ويرفض قبول المختلف, ويمارس الاستبعاد والإقصاء لمن يخالفونه الرؤية, حتي ولو كانوا يشاركونه الانتماء إلي نفس الدين.
وإذن فإنه لابد من التمييز بين إسلام( استيعابي) يتسع لكل ما يجعل الإنسان محوره من الأفكار والعقائد, وبين إسلام( استبعادي) لا مكان فيه إلا لمطلقات جامدة لا مجال في حضرتها لأي اختلاف أو مغايرة.
 ولعله يمكن القول إن الحديث عن إسلام جارودي, مع إسقاط هذا التمييز, إنما يقصد, لا المعرفة الحقة بالرجل وإسلامه, بقدر ما يقصد إنتاج خطاب دعائي يدعم الرؤي السياسية والايديولوجية لتيار يلح علي أن يتماهي مع الإسلام نافيا لغيره; وهو ما يتعارض بالكلية مع حقيقة أن الرجل قد نذر الجزء الأكبر من حياته الطويلة لفضح وتعرية هذه الرؤي والايديولوجيات المستبدة الغاشمة.

ولو أن المؤدلجين العرب يستوعبون حقيقة أن المنطق الذي تقوم عليه الايديولوجيات يكون واحدا, حتي وهي تتعارض وتتصادم, لكانوا قد أدركوا أن إدانة الرجل للصهيونية هي, في الآن نفسه, إدانة لنوع الإسلام, أو بالأحري الإسلاموية التي يرفعون لواءها. ويرتبط ذلك بحقيقة وحدة الأساس النظري الذي تقوم عليه كل من الصهيونية والإسلاموية رغم عدائهما الدامي; وبمعني أنه إذا كانت الصهيونية هي نتاج تحويل اليهودية( كديانة) إلي ايديولوجيا سياسية, فإن تحويل الإسلام إلي ايديولوجيا سياسية قد أنتج ما باتت الأدبيات تشير إليه علي أنه الإسلاموية
(التي قال عنها جارودي إنها داء الإسلام).
 ولكن الايديولوجيا, وبكل ما يسكنها من الميول والتحيزات المضمرة, تأبي إلا أن تجعل الرجل الناقد للتركيبين الايديولوجيين البائسين معا, داعيا لأحدهما, ومعاديا للآخر.
يلزم التأكيد, إذن, أن الرجل لم يكتشف الإسلام بما هو هذا التركيب الإيديولوجي
(المدعو بالإسلاموية), بل اكتشفه كتركيب حضاري بالمعني الأشمل. فالرجل لم يقصد أبدا الفرار من ايديولوجيا بعينها ليضع نفسه في قبضة إيديولوجيا أخري, بل كان يبغي الاستعاضة- كما قال في كتابه حوار الحضارات- عن هيمنة الغرب الثقافية المفروضة خلال أربعة قرون من الاستعمار بتجربة سيمفونية هي تجربة الثقافة العالمية الشاملة; والتي بدا له أن الإسلام يصلح مركزا لها, وبما يعنيه ذلك من أن الرجل يدرك في الإسلام ما لا يقدر القطاع الأغلب من المسلمين علي إدراكه.

فقد بدا لجارودي أن الغرب هو تكوين حضاري ينبني على علاقة ما للإنسان بالطبيعة وبالمجتمع وبالله; وهي علاقة تقوم, في جوهرها, على الهيمنة والإخضاع, وعلي النحو الذي تمخضت معه عن ظواهر تاريخية وايديولوجية استعبادية كالاستعمار والرأسمالية.

 ولعله بدا لجارودي أن سعيا إلي التحرر من تلك الظواهر الاستعبادية, لن يكون ممكنا من داخل التركيب الحضاري الغربي الذي أنتجها. ومن هنا تخليه عن الاعتقاد في أن مستقبل الخلاص الإنساني مرهون بانتصار الماركسية الإنسانية التي راح يفكر فيها بعد مراجعته القاسية للنسخة الليننية الستالينية المشوهة منها, وألح, في المقابل, علي أن التفكير في مستقبل حقيقي للإنسانية يقتضي العثور مجددا علي جميع أبعاد الإنسان التي نمت في الحضارات, وفي الثقافات اللاغربية; والإسلام في القلب منها.
وهكذا فإن الرجل يفكر في الإسلام بما هو قطب الرحي في سيرورة خلاص الإنسانية, وليس بما هو ايديولوجيا لا تكتفي بإهدار الإنسان, بل تؤول- وللمفارقة- إلي إفقار ذات الإسلام.


تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 29/ يونيو/2012



الجمعة، يونيو 15، 2012

عن اسلام الفيلسوف الفرنسي " روجيه جارودي "

"مبروك": إسلام "جارودى" أدان التأسلم السياسى



قال الدكتور على مبروك..
 أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة،
 إن الفيلسوف الفرنسى "روجيه جارودى" حينما أعلن إسلامه،
 تعامل البعض مع هذه القضية وكأنه مسلم أصولى،
 فى حين أن حقيقة إسلامه تدين "التأسلم السياسى"،
 موضحًا أن إسلام "جارودى" لم يكن مختلفًا عما اتسمت به ماركسيته التى تميزت دائمًا بالبحث عن الإنسان،
 وهو ما يساعدنا فى تلخيص شخصية هذا المفكر الكبير فى كلمة واحدة وهى أنه "فيسلوف الإنسان".

وأوضح "مبروك" فى تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"
أن مسيرة "جارودى" (ولد فى 17 يوليو 1913 م فى مرسيليا - 13 يونيو 2012) تعكس إلى أى مدى كان هذا الرجل مفكرًا كبيرًا،
 شهدت حياته تحولات غنية لرجل
 بدأ حياته بانضمامه إلى صفوف الحزب الشيوعى الفرنسى،
 واقترب من المتصوفين الإسلاميين فى أواخرها ..
وكان لابن عربى تأثير كبير عليه،
 وهو ما كان يفهم فى إطار ماركسيته التى تميزت بإنسانيته على العكس الشائع والمعروف عن الماركسيين،
 ويعبر كتابه "واقعية بلا ضفاف" عن شخصيته المتسعة جدًا
 والتى تجد بداخلها الكثير.
 ويوضح "مبروك" أن جرأة "جارودى" فى أن يمس أحد التابوهات المحرمة فى الغرب،
 والتى تتمثل فى علاقة الأوروبى واليهودى،
كانت سببًا فى فتح هذا الباب للكثير من المفكرين الأجانب فى أن يتجرأوا ويهتموا بالقضية اليهودية والفلسطينية لتكون محط سؤال لا ينبغى عدم الاقتراب منه،

فشجع العديد من المؤرخين اليهود ليسألوا عن حقيقة "اليهود المختلقة".


تم النشر في جريدة اليوم السابع بتاريخ 15 يونيـــــو 2012
كتب / بلال رمضــــــــان


الخميس، يونيو 14، 2012

في أخطاء النخبة وخطاياها‏!‏




عملاً بمنطق إبراء الذمة‏,‏ فإن شرائح النخبة المتغلبة في مصر
 لا تكف عن إعلان براءتها من أي مسئولية عن الارتباك والتردي الحاصل في قلب المشهد الراهن, وذلك لتلقي بالتبعة كاملة علي كاهل غيرها, ومن دون أن تعترف بنصيب لها( ولو محدود) في هذا التأزم.

والحق أن تفكيراً ينطلق من الوعي بأن دور النخبة, علي العموم,إنما يتجاوز مجرد الانشغال( الآني) بالجوانب الإجرائية من الممارسة السياسية إلي التركيز علي القيم التي تؤسس( في الآجل) لممارسة ديمقراطية تتميز بالثبات والرسوخ, ليكشف عن أن مقدار مسئولية هذه الشرائح النخبوية المتغلبة( بقوة الحناجر وأناقة اللباس)عن التأزم الراهن, إنما يتجاوز كل ما يمكن نسبته إلي الأطراف الأخري من الفاعلين علي الساحة, كالمجلس العسكري مثلا.

 لا يعني ذلك, بالطبع, أنه ليس لغير النخبة أي نصيب من المسئولية عن الارتباك الحاصل, بقدر ما يعني وجوب أن تقر بدورها الحاسم في البلوغ بالأزمة إلي ما وصلت إليه, مما ينذر بأوخم العواقب علي مسار التحول الديمقراطي في مصر; وأعني من حيث إن هذا الإقرار يمكن أن يكون مقدمة لتحول في رؤاها وسلوكها علي النحو الذي قد يسمح بإعادة ترتيب المشهد في اتجاه أكثر رشدا وإيجابية.
وهنا يلزم التنويه بأنه إذا كان حجم المسئولية( عن مسألة ما) يتحدد بفداحة ما يترتب علي التفريط فيها من أخطار, فإن ما يترتب من الأخطار علي إهمال تأسيس الفضاء الذهني والنفسي والسلوكي لممارسة ديمقراطية راسخة
(والذي هو عمل النخبة الرئيس),
 إنما يتجاوز بكثير كل ما يمكن أن يترتب علي فساد الإدارة الإجرائية للمجلس العسكري للتره من خلع مبارك للآن.

 ففضلا عن أن فساد الإدارة الإجرائية يعد, هو نفسه, فرعا لأصل هو تشرذم النخبة وهشاشة وعيها, فإنه فيما يؤول فساد هذا الإجراء إلي التعويق الجزئي لمسار التحول الديمقراطي, فإن إهمال تأسيس الفضاء الذهني والنفسي والسلوكي المؤسس للديمقراطية سوف يؤدي إلي تعويق هذا المسار كليا.
 ولسوء الحظ, فإن هذا الإهمال للتأسيسي هو ما يغلب علي ممارسة النخبة التي لاتزال تتعامل مع الجمهور كآداة لحسم الصراع بين شرائحها المتناحرة, وذلك عبر الاكتفاء بتهييجه وحشده, ومن دون أن تنشغل بالإعداد الذهني والنفسي والسلوكي لهذا الجمهور علي النحو الذي يسمح بترسيخ الأسس لممارسة ديمقراطية حقة.وهكذا فإن الجمهور لم يزل حاضرا في وعي النخبة كمحض أدوات تتلاعب بها عبر منطق التهييج والإثارة, ولم يسمح له بالارتقاء- عبر تنوير وعيه- إلي مقام الذوات التي لابد من احترام اختياراتها.
 ولسوء الحظ, فإنه إذا كان يمكن التمييز في تركيب هذه النخبة بين أجنحة تتبرقع بالقداسة, وأخري تتلون بالحداثة, فإنه ليس من فارق بينهما أبدا, بخصوص هذا الموقف من الجمهور.

إنهم, مثلا, يدعون هذا الجمهور لممارسة حقه في الانتخاب, وما أن تأتي النتائج بما لا يريد البعض ويشتهي, فإنه يصرخ رافضاومنددا. بل إن ثمة من مضي إلي استباق النتائج, معلنا رفضه للعملية الانتخابية برمتها إذا جاءت نتائجها بمن لا يريد,
 وداعياً جمهوره 
(الذي يتعامل معه بمنطق التابع مفتول العضلات, وليس الشريك العارف لفضيلة التفكير

إلي الاستعداد للاحتشاد في الشوارع والميادين إلي حين إلغاء النتائج التي لا يتقبلها سيادته.ولسوء الحظ فإن هؤلاء, وعلي طريقة نخبتهم, كانوا يؤثرون( العاجل)المتمثل في الحصول علي بعض الكسب الذي لا يدوم, علي   (الآجل)الذي يتمثل في تربية الجمهور علي ضرورة احترام الإرادة التي يعبر عنها مبدأ الانتخاب.


 وحتي على فرض أنهم يرون هذه الإرادة غير حرة, بل وليدة إكراه من نوع ما, فإن عليهم أن يناضلوا من أجل تحريرها, لا أن يعترضوا عليها, لأن ذلك وحده هو مايسمح بالتأسيس لممارسة ديمقراطية حقة. حيث الشعوب التي لا تملك تقاليد ديمقراطية راسخة تكون في حاجة إلي ضروب من التربية التي تتعلم فيها من نخبها كيف تمارس ديمقراطياً.

 وبالطبع فإنها, وككل تربية, مما لا يمكن أن تكتفي فيها النخبة بالثرثرة بحلو الكلام, بل إن عليها أن تضرب فيها المثل لشعوبها بالسلوك والأفعال.

وضمن هذا السياق, فإنه يلزم القول إن الاعتراض علي أحكام القضاء لا يمكن أن يكون مما يضرب به المثل لشعب يراد تربيته ديمقراطياً.

لكن النخبة السعيدة لا تكف عن اقتراف الخطايا, وبدلا من أن تدرك أن منظومة ديمقراطية راسخة إنما تحتاج إلي تربية الجمهور علي احترام القضاء وعدم الاعتراض علي أحكامه من غير الطريق الذي رسمه القانون, وعلي ترسيخ مبدأ استقلاله, والدفاع عن هذا الاستقلال ضد كل ما يتهدده, فإنها لا تتورع, حين يتراءي لها أن في الاعتراض علي هذه الأحكام ما يمكن استثماره سياسيا, عن تهييج الجمهور وتعبئته وحشده, ودعوته إلي محاصرة المحاكم والهتاف ضد القضاة, والمناداة بإلغاء الأحكام وإبطالها.

 وحين يدرك المرء استحالة إبطال الأحكام علي النحو الذي يريده الجمهور الهائج   (وهو ما تعرفه النخبة طبعا), فإنه لا يكون من قصد لذلك كله إلا التأثير علي ما يتوقع صدوره من أحكام قد لا ترضي عنها بعض الأطراف.

وهنا أيضا, فإنها تظل علي وفائها لطريقتها في إيثار( العاجل) علي( الآجل); وهي الطريقة التي تمثل ـ وليس أي شئ آخر, تهديدا جديا لمسار التحول الديمقراطي في مصر.

وضمن سياق الأخطاء, أو حتي الخطايا, يأتي تجاهل النخبة أو جهلها بحقيقة أن الشعوب تحتاج في مراحل التحول الديمقراطي إلي وجوب إشاعة ممارسة سياسية توافقية, لا تنافسية; ليس فقط لما قد يؤدي إليه التنافس, مع غياب تقاليد ديمقراطية راسخة, إلي مفاقمة مخاطر الانقسام والتشظي, بل من أجل ما يؤدي إليه التوافق من تربية الجمهور علي فضائل عدم السماح لفصيل سياسي بالانفراد بالمجال السياسي وحده, وقبول الآخر وعدم إقصائه, والعمل بمنطق الشراكة معه; وهي الفضائل التي يؤول عدم توافرها إلي جعل الحديث عن الديمقراطية من قبيل اللغو الفارغ. 

والمؤسف, أن رفض النخبة للممارسة التوافقية يكشف عن هشاشة في الوعي نادرة النظير. فلقد راحت تحتج بأن تلك الممارسة هي مما لا تعرفه الدول الراسخة في الديمقراطية, فبدا وكأنها تقيس حال المولود الناشئ علي حال البالغ الراشد; وبما يعنيه ذلك من استمرارها في إنتاج ضروب من التفكير البائس الذي يحمل وصمتي الشكلانية واللاتاريخية, بكل ما ينطويان عليه من إهمال السياقات وتجاهل الشروط والظروف.
 وهكذا فإن التنافس الذي انحازت إليه لم يكن من النوع الذي يخاطب العقل علي النحو الذي يرتقي بوعي الجمهور, بل كان من النوع الذي يخاطب الغرائز الأولية والتحيزات الدينية علي النحو الذي فاقم الأزمة.

ولأن فكرة التوافق تقصد إلي التوزيع المحسوب للسلطة علي نحو يحول دون تركيزها في يد فصيل بعينه( وهو التركيز النافي للديمقراطية), فإن رفضها قد تؤدي بمصر إلي ما يكاد أن يكون إعادة إنتاج لنظام استبداد مبارك. وللمفارقة فإن إعادة إنتاج هذا النظام لا ترتبط بفوز المرشح الذي عمل مع مبارك كآخر رئيس لوزرائه, بقدر ما ترتبط أكثر بفوز مرشح الجماعة التي يقال بمعارضتها لمبارك.
 يفسر ذلك أن ما ثار عليه المصريون لم يكن مبارك الشخص, بقدر ما كانت ثورتهم علي طريقة في الحكم تنبني علي الهيمنة الكاملة لجماعات المصالح المتحلقة حول أسرة مبارك علي كامل المجال السياسي, ومن دون السماح لأي فصائل مناوئة بالحضور علي الساحة إلا بقدر ما يسمح به هذا الحضور للنظام من الترويج لخرافة ديمقراطيته وانفتاحه.

ولعل ذلك هو ما سيؤول إليه فوز مرشح جماعة الإخوان المسلمين التي يمكن القول إن الكارهين لها(ولمصر أيضاً) هم الذين سينتخبون مرشحها, وأما محبو الجماعة (ومصر), فإنهم سينتخبون المرشح المنافس; وأعني من حيث سيحول ذلك دون تركيز السلطة في يد الجماعة (وبما يعنيه هذا التركيز من توافر الشروط الموضوعية المنتجة للاستبداد علي نحو آلي, وبصرف النظر عن النوايا الحسنة والوعود الطيبة),
 وذلك فضلا عما سيؤدي إليه من توزيع السلطة بين مختلف القوي بما يفتح الباب للإنتقال السلس بمصر نحو الديمقراطية.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 14 / يونيو/2012