الجمعة، سبتمبر 21، 2012

عدم ولاية غير المسلمين‏....‏ هل هي من الدين حقا؟




لو تصور المرء حواراً
 بين من ينسب نفسه إلي المدنية 
وبين خصمه الساعي إلي أسلمة الدولة‏ 
في مصر هذه الأيام
( وليكن حول قاعدة عدم جواز ولاية غير المسلمين),
فإنه سيجد أن من ينسب نفسه إلي المدنية
 لا يعرف ما يرد به علي خصمه
إلا أن جملة دعاواه, ومن بينها دعوي عدم جواز الولاية, لا تتفق مع ما تقوم عليه دولته(المدنية!) من مبدأ عدم التمييز بين البشر علي أساس الدين, أو غيره.

 وعندئذ, فإن الساعي إلي أسلمة الدولة سوف يرد علي خصمه المسكين بأنه ليس مشغولا بتعارض دعاواه مع ما تقول به المدنية, مادامت تأتي متفقة مع ما يقول به الدين.
 وبحسب ذلك, فإن صاحب خطاب الأسلمة لا يكتفي بإحراج خصمه المسكين عبر هذا الوضع للمدنية في تعارض مع الدين, بل عبر ترسيخه لمقولة أن دعوي عدم جواز ولاية غير المسلمين هي مما يقول به الدين.
 ولعله يلزم التنويه, هنا, بأن دعاة الأسلمة يقيمون احتجاجهم علي سائر دعاواهم علي العموم, علي قاعدة أنها من فرائض الدين ولوازمه. فهل هي فعلا هكذا, أم أنها محض قواعد اجتماعية وسياسية راحت تنسب نفسها إلي الدين لتكتسب منه الرسوخ والحصانة وقوة الإلزام؟

وإذا كانت الخطوة الحاسمة في جعل قاعدة ما جزءا من الدين تتمثل في التماس أساس لها من القرآن خاصة, فإنه كان لابد لفعل الالتماس هذا( وهو فعل معرفي بالأساس) أن يكون موضوعا لتحليل يكشف عما فيه من قراءة تعتبر نفسها قرآنا.
ومن هنا ما جري من انشغال المقال السابق بالإلماح إلي الآلية المهيمنة علي قراءة القرآن; علي النحو الذي يؤدي إلي إنتاج دلالة بعينها لخدمة موقف إجتماعي وسياسي معين.
وقد ارتبط هذا الاستهلال بالقصد إلي تحرير القرآن من المسئولية عن قول بعينه في مسألة محددة, لتوضع( هذه المسئولية)
علي كاهل آلية القراءة المهيمنة علي التعامل معه.

 فمنذ اللحظة التي يصبح فيها القرآن موضوعا لفعل القراءة( الإنساني بطبيعته), فإنه ليس لأحد أن يقطع بأن القرآن يقول كذا في مسألة ما, بل يتوجب عليه تقرير أن فعله القرائي يوجه القرآن إلي هذا القول في تلك المسألة.
 وحين يدرك المرء أن القرآن قد أصبح من لحظة تنزيله موضوعا لقراءة, فإنه يلزم تأكيد أن الكثير مما ينسب للقرآن قوله, إنما هو نتاج فعل قراءته بالأحري.
وهنا فإنه إذا كان فعل القراءة هو فعل بشري, بطبيعته
( وبما يعنيه ذلك من أن ما ستجري نسبته إليه سوف يكون بشريا بدوره)
, فإن نسبة القول إلي القرآن( ذي المصدر الإلهي) في المقابل, إنما تقصد إلي جعله قولاً إلهياً,
 وعلي النحو الذي تستحيل معه زحزحة الدلالة المراد تثبيتها به.

 وهكذا يفعل كل من يقصدون إلي تثبيت موقف ما(اجتماعي أو سياسي خاصة),
حين يجعلون منه موضوعا لقول إلهي أورده القرآن, متجاهلين أن ما يفعلونه هو فعل قراءة, ولو اكتفوا بمجرد الاقتباس من القرآن.
ولأن ثمة من قد يربط فعل القراءة عنده بأعمال التفسير والتأويل فحسب, فإنه يلزم تأكيد أنه يتجاوز مجرد ذلك; وإلي حد أن مجرد استدعاء آية قرآنية للقطع بها في مسألة ما, ومن دون أن يكون هذا الاستدعاء مصحوباً بأي شروح أو تفسيرات, هو فعل قراءة.
وذلك من حيث يعرف من يستدعي آية من القرآن في موقف بعينه, أن هذه الآية, استنادا إلي نوع المعرفة المستقرة بين الجمهور المتلقي, سوف تنتج الدلالة التي يقصد إلي تثبيتها خاصة. إن ذلك يعني أن إنتاج دلالة القول القرآني بمجرده لا تنفصل عن المعرفة السابقة المتداولة بين الجمهور; وهي معرفة إنسانية بطبيعتها, فضلا عن أنها تكون نتاجا لفعل القراءة.
 وهكذا فإن المرء يكون ممارسا للقراءة, حتي وهو لا يفعل إلا أن يستدعي الآية بمجردها من القرآن, مادام ما أنتجته القراءات السابقة سوف يلعب الدور الحاسم في إنتاج دلالتها.
وعلي العموم, فإن القرآن, بمجرد دخوله دائرة الاستخدام الإنساني علي أي نحو من الأنحاء( وأعني كموضوع للتفسير أو الاقتباس), يصبح موضوعا لفعل قراءة; وبما لابد أن يتبع ذلك من أن كل ما ينتج عن هذا الفعل هو من قبيل النتاج البشري.
فهو يدخل, بالقراءة, في بناء تراكيب تنتمي لعالم البشر, ولا يمكن الادعاء, أبدا, بأن هذه التراكيب ذات أصل إلهي.

 ولعل الوعي بالطبيعة البشرية لتلك التراكيب, يظهر في حرص علماء المسلمين علي إنهاء قولهم في مسائل الدين, بتعبير والله أعلم; إقرار منهم بالمسافة الفاصلة بين ما يقدمون من اجتهادات محدودة, وبين علم الله اللامحدود.
 إن ذلك يعني أن أحداً لا يمكنه الإدعاء بأن ما يقوله, يتطابق مع قول الله أو علمه; حتي لو كان لا يفعل إلا أن يردد آيات القرآن; وأعني أن قوله سيبقي مجرد تركيب بشري لا يطابق مراد الله أو علمه أبدا.
ولعل ما يدعم فكرة أن ما يقوله الناس, منسوبا إلي القرآن, هو قول القراءة
(أعني قراءتهم), وليس قول القرآن, هو ما يكاد يبين للجميع من أنه ليس للقرآن قول واحد في المسألة بعينها, بل إن له أقوالا فيها تتنوع, بحسب تنوع السياق الذي يتم طرحها داخله.
 وغني عن البيان أنه حين يحتفظ القرآن, في بنائه, بتلك الأقوال المتنوعة حول تلك المسألة بعينها, فإن رفع دلالة قول منها, وتثبيت التي تخص القول الآخر, لابد أن يكون مردودا إلي فعل القراءة, وليس إلي القرآن.

 وهكذا, مثلا, فإنه حين يشتمل القرآن علي قولين مختلفين عن غير المسلمين
( وأعني النصاري خاصة);
أحدهما يحمل دلالة إيجابية,
 كقوله تعالي:
 ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري...المائدة:82,
 والآخر ينطوي علي دلالة سلبية,
 كقوله تعالي:
 يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصاري أولياء....المائدة:51,

فإن تثبيت دلالة أحد القولين علي أنها موقف القرآن المطلق والنهائي من النصاري, لا يكون قولاً قرآنياً, بل فعلاً قرائياً.
حيث القرآن حامل للدلالتين(الإيجابية والسلبية) معاً, وفعل القراءة هو الذي يتجه إلي تثبيت إحداهما علي حساب الأخري.
وبالطبع, فإن وجهة الفعل القرائي تتحدد بنوع العلاقة التي تربط المسلمين بالنصاري في وقت تحققه;
 وبمعني أنه إذا كانت العلاقة الواقعية بين المسلمين والنصاري هي علاقة عداء وخصام, فإن فعل القراءة سيقصد إلي تثبيت دلالة القول القرآني ذي الطبيعة السلبية, بإعتبار أنها المحددة لموقف القرآن النهائي والمطلق من النصاري.

 وأما إذا كانت العلاقة الواقعية بين المسلمين والنصاري علاقة مودة وسلام, فإن فعل القراءة سيمضي- علي العكس- في اتجاه تثبيت دلالة القول القرآني ذي الطبيعة الإيجابية; بما هي الحامل للموقف المطلق من النصاري.
لكنه يبقي لزوم الوعي بالكيفية التي يجري بها هذا التوجيه للدلالة; وهو ما سيكون موضوعاً لمقال مقبل.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 20 / سبتمبر /2012




الخميس، سبتمبر 06، 2012

عدم ولاية غير المسلمين‏..‏ القرآن والقراءة




تتجلي الآلية الأصرح‏,‏
 التي يشتغل بها خطاب تديين السياسة‏-‏ الذي يتعالي مده في عالم ما بعد الثورات العربية‏-‏ فيما يقوم به المشتغلون‏,‏ في حقل هذا الخطاب‏,‏ من استدعاء ما ينسبونه إلي الدين من القواعد والمحددات‏,‏
 لتقييد مجال الممارسة السياسية بها‏.‏

ورغم ما يبدو من الفاعلية شبه المطلقة لهذه القواعد والمحددات بسبب رسوخها في المخزون الحي الغائر في الذاكرة الجمعية للجمهور الذي يتعامل معها- تبعا لذلك - بما هي من المسلمات غير القابلة للسؤال, فإنه يلزم التنويه بما يعرفه المشتغلون في مجال الدرس الإسلامي
(علي النحو الاستقصائي العلمي, وليس الإنشائي الوعظي),
 من أن الكثير من هذه القواعد المنسوبة إلي الدين
(وخصوصا في مجالي الممارسة السياسية والاجتماعية بالذات),
هي محض تحديدات فرضتها مقتضيات الضبط السياسي والإجتماعي, ثم راح يجري إخفاءؤها وراء قداسة الدين لإكسابها الديمومة والرسوخ.
ولعل ذلك يستلزم طريقة في التعامل مع مثل هذه القواعد, علي النحو الذي يفتح الباب أمام تحرير مجال الممارسة من سطوتها; وهو الأمر الذي لن يكون ممكناً إلا عبر تحرير الدين, نفسه, من قبضتها أولاً;
 وأعني من حيث يجري توظيفه كقناع لإضفاء القداسة علي ما ليس منه في الحقيقة.
ولعله ليس من سبيل إلي ذلك كله إلا عبر السعي إلي نزع القشور والرقائق الدينية التي تحيط بالنواة الصلبة للقاعدة موضوع التحليل, علي نحو تنكشف معه طبيعتها المتخفية, مع ما يصاحب ذلك من بيان المراوغات التي أمكن عبرها مراكمة تلك الرقائق الدينية التي استحالت إلي أقعنة كثيفة تتواري خلفها الطبيعة السياسية أو الاجتماعية للقاعدة.
 ولأن نقطة البدء في مسار مراكمة تلك الرقائق الدينية حول القواعد ذات الطبيعة السياسية والاجتماعية, تتبدي في سعي المشتغل تحت مظلة هذا الخطاب إلي التأسيس النصي لتلك القواعد من القرآن, فإنه يلزم التنويه بأن هذا الفعل التأسيسي ينطوي علي ضروب من التوجيه( عبر الانطاق والإسكات للقرآن)
علي النحو الذي ينتهي إلي تثبيت القاعدة المرادة بوصفها ديناً يكون مطلوباً من الناس أن يتعبدوا به الله.

ولعل ذلك ما يؤكده الاشتغال علي القاعدة المستقرة الخاصة بعدم جواز ولاية غير المسلمين التي يكشف التحليل عن مراوغات توجيه القرآن باتجاه تثبيتها, كقاعدة تعمل علي نحو مطلق; وبصرف النظر عن تحديدات السياق وشروطه.
وهكذا فإنه, وعلي الرغم من أن الإنسانية قد انتقلت من سياق كان فيه الدين هو الأصل المحدد لهوية الفرد والجماعة( وبما يترتب علي هذا التحديد من إخلاء المركز لصاحب الدين/السيد, وإقصاء أتباع الديانات الأخري إلي الهامش), إلي سياق التحديد السياسي لتلك الهوية( بما يفرضه هذا التحديد من الحقوق والواجبات المتساوية), فإن فاعلية تلك القاعدة تظل مستعصية علي التحدي للآن; وإلي حد ما جري من التلويح المباشر بها, من جانب القوي السياسية السلفية, في مواجهة ما تردد من الاتجاه إلي تعيين نائب قبطي لرئيس الجمهورية.


ولسوء الحظ, فإن هذا التشغيل للقاعدة علي نحو مطلق,
 وبصرف النظر عن شروط السياق وتحديداته, لم يتحقق إلا عبر ضروب من ضغوط الإكراه والإسكات التي مورست علي القرآن بنعومة, ولكن بلا هوادة.
 وعلي الرغم من أن هذه الضغوط ذات أصل سياسي واجتماعي بالأساس,
 فإنها قد راحت تحقق نفسها في شكل مبادئ وقواعد للفهم والترجيح التي قيل باستحالة أي مقاربة للقرآن إلا من خلالها, وفقط. فإن الاجتماعي والسياسي يسعي, علي الدوام, إلي إخفاء تحيزاته الذاتية الغليظة وراء رهافة المعرفي وما تبدو أنها موضوعيته.
 وهكذا فإنه إذا كان القصد هو تثبيت واقع سياسي واجتماعي بعينه, فإن هذا القصد لا يحقق نفسه مباشرة, بل إنه يتخفي وراء مقاربة معرفية للقرآن تقوم علي إهدار السياق بما هو السبيل الوحيد لإطلاق الدلالة وتثبيتها علي نحو نهائي. وضمن هذه المقاربة المعرفية, فإن هذا الإهدار للسياق سوف يؤسس نفسه علي قواعد ومفاهيم من قبيل الناسخ والمنسوخ والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, وغيرها. 

وبالرغم من عدم إمكان المجادلة في أن هذه القواعد والمفاهيم,
المشار إليها وغيرها,
إنما ترتبط بالأفق العقلي والمعرفي والسياسي والاجتماعي الذي تبلور فيه وعي مبدعيها, فإنها قد استحالت إلي ما يشبه الأقانيم المقدسة التي يستحيل إلا التسليم بها, وممارسة الفهم من خلالها وحدها,
وعدم التعرض لها بالمساءلة والمحاورة.

 ولعله يلزم التنويه, هنا, بأنها قد اكتسبت هذا الوضع الذي تعالي بها إلي خارج حدود المساءلة, في عصور الجمود والعجز عن الإبداع; حيث تكشف القرون الأولي من تاريخ الإسلام عن نوع من الحوار المنفتح- الذي تحفظه بطون دواوين التفسير- مع تلك القواعد والمفاهيم.
ولعله يلزم التأكيد, هنا, علي أن هذا التوجيه للقرآن إلي إنتاج دلالة آحادية مطلقة- عبر وساطة تلك القواعد والمفاهيم التي أحالتها عصور الجمود المتأخرة إلي أقانيم مقدسة- إنما يرتبط بتصوره كسلطة يراد توظيفها من أجل تسييد وتثبيت موقف سياسي واجتماعي بعينه.
 فإنه إذا كان الإطلاق والأحادية يشكلان جوهر السلطة في الإسلام, منذ وقت مبكر نسبياً; وذلك من حيث ما تكشف عنه كتب الفقه السياسي من إنبناء صورة السلطان بالتمثيل علي صورة الله



(حيث الحضرة الإلهية لاتفهم-علي قول الغزالي-إلا بالتمثيل علي الحضرة السلطانية)
, فإن ذات الإطلاق والأحادية كانا لابد أن يحددا عالم الدلالة في القرآن. ويرتبط ذلك بأن حراسة سلطة ذات طابع أحادي وإطلاقي (في المجالين الاجتماعي والسياسي), سوف تكون أمرا ميسورا إذا ما تم تقييد الدلالة في القرآن لتصبح مطلقة وأحادية, بدورها.
إذ يهدد عالم الدلالات المفتوحة المتنوعة أحادية السلطة وإطلاقيتها, بما يحيل إليه من إمكانات تعدد الأفهام وتباين الرؤي.

 وعلي النقيض من ذلك, فإن التعامل مع القرآن باعتباره فضاء مفتوحا لفيوض من الدلالات المتنوعة( أو حتي المتباينة), إنما يرتبط بتصوره كساحة رحيبة يتواصل فوقها البشر في سعيهم إلي بناء عالم يتسع لهم جميعا, من دون إزاحة أو إقصاء بسبب الاختلاف في الدين أو اللغة أو العرق.
 وإذن فإنه الصراع, في الجوهر, بين القرآن كقناع لسلطة( أحادية ومطلقة) تسحق الناس جميعا( مسلمين وغير مسلمين), وبينه كساحة يؤكدون عليها التنوع الذي أراده الله لهم.

ولسوء الحظ, فإن كل هذه الإكراهات, السابق بيانها, قد اشتغلت جميعا,
 وعلي نحو مثالي وصريح, في سياق توجيه القرآن إلي النطق بقاعدة عدم جواز الولاية السياسية لغير المسلمين.
 وأعني من حيث إنه إذا كانت السلطة تحضر, في إطار هذه القاعدة, أحادية ومطلقة, فإن الدلالة تحضر علي هذا النحو أيضا; وبما يفرضه هذا الحضور (الأحادي والإطلاقي لها) من القواعد والمفاهيم التي تتضافر في تثبيتها. وهنا يشار, بالذات, إلي قاعدتي النسخ والإجماع, اللتين لعبتا الدور الأبرز في ضروب الإكراه التي مورست علي القرآن;
وكل ذلك مما يحتاج إلي بيان, سوف يكون موضوعا لمقال قادم.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 6 / سبتمبر /2012