الخميس، مارس 21، 2013

عن الاستبداد والدين




فى كتابه الرائد المبكر عن «طبائع الاستبداد» اختص الكواكبى العلاقة بين الاستبداد والدين بتحليل خَلُصَ فيه إلى تبرئة الإسلام، فى أصوله الأولي، من وصمة الاستبداد التى شاع إلصاقها به فى التقليد الاستشراقي. 
بل إنه سرعان ما انتقل إلى تأكيد أن ما عرفه الإسلام فى تاريخه من الاستبداد إنما هو «مما اقتبسه وأخذه المسلمون عن غيرهم، وليس هو من دينهم». ويحدد الرجل هذا «الغير» - الذين أخذ عنهم المسلمون ما عرفوه من الاستبداد - بأنهم «الأوروبيون فى عصورهم الوسطي»، والذين هم أسلاف صاحب خطاب الاستشراق الذى ينكأ جرح المسلم بخطابه المعادي. ولقد كان ذلك هو نفس ما فعله الأستاذ الإمام محمد عبده، حين راح يرد عن الإسلام تهمة مخاصمة العلم التى ألصقها به هانوتو، ولينتهى بعد ذلك إلى الثأر من هانوتو عبر إلصاق تهمة مخاصمة العلم إلى النصرانية التى ينتمى إليها خصمه الفرنسي. 
والحق أن الأمر عند الرجلين (الكواكبى وعبده) لا يتعدى حدود كونه رغبة وعى جريح فى تضميد جرحه عبر الثأر من المستشرق، ولو من خلال التعريض بأسلافه الأقدمين. فقد بدا للوعى المسلم أنه لا سبيل إلى مجابهة الحاضر الذى يختصه بالتأخر، بينما يخص الأوروبى بالتقدم والازدهار، إلا باستدعاء الماضى الذى كان الازدهار فيه للمسلمين، بينما كان التأخر من نصيب الأوروببين. وضمن هذا الاستدعاء فإنه يجعل حاضره المتأخر هو مجرد صورة من ماضى الأوروبي، بينما يجعل الحاضر الزاهى للأوروبى هو صورة من ماضيه كمسلم. وهو إذ يرد تأخره إلى أوروبا، بينما يرد ازدهار «الأوروبي» إلى الإسلام، فإنه يستريح ويبرأ من جرحه المهين. 
وبهذه التبرئة للإسلام فإن الكواكبى يضع نفسه ضمن أفراد الطابور الطويل من مفكرى لحظته، الذين يأتى على رأسهم الأستاذ الإمام محمد عبده، والذين تبنَّوا - فى مواجهتهم لخطاب الاستشراق المتحدى - خطاباً اعتذارياً ينبنيء على التمييز بين إسلام؟ يبقى بريئاً من أى نقص من جهة، وبين مسلمين يمثلون النقيض المتدهور المنحط لهذا المثال الكامل النقى من جهة أخري. إنها الأطروحة التى تجد تعبيرها الأمثل فيما مضى إليه الأستاذ الإمام - بعد تعرُّفه على أوروبا - من أنه قد وجد فيها إسلاماً من غير مسلمين، وذلك فى مقابل ما تزخر به ديار الإسلام من مسلمين بغير إسلام. وبالطبع فإنها ذات الأطروحة التى تلح على قراءة الأزمة فى ابتعاد الناس عن الإسلام، والتى يركز عليها دعاة هذه الأيام التليفزيونيون خطابهم. 
وبالرغم من هذا الاتفاق بين إصلاحيى القرن التاسع عشر ودعاة هذه الأيام التليفزيونيين، فى قراءة أزمة التأخر العربى بعامل الابتعاد عن الإسلام، فإنه يبقى أن قراءة كلٍ منهما لتلك الظاهرة تختلف عن قراءة الآخر لها على نحو كامل. وللمفارقة فإن القراءة الإصلاحية، القادمة من القرن التاسع عشر، لهذه الظاهرة، كانت أكثر وعياً واستنارة من القراءة الراهنة التى يقدمها دعاة هذه الأيام لها. إذ فيما يلح دعاة هذه الأيام على تفسير ابتعاد الناس عن الإسلام بالميل المتأصل فى نفوسهم إلى الهوي، وعلى النحو الذى يترتب عليه ضرورة زجرهم وقمعهم، فإن «رجل الإصلاح» قد ألح، فى المقابل، على مسئولية الاستبداد الكبرى فى إبعاد الناس عن جوهر الإسلام. ومن هنا فإن رجل الإصلاح لم يكن أكثر فهماً فقط، بل وكان أكثر جرأة وشجاعة من شيوخ هذه الأيام البؤساء، الذين لا يفعل الواحد منهم - للأسف - إلا أن يكون مُعيناً للمستبد فى السيطرة على المحكومين. 
قد مضى «رجل الإصلاح» يفضح الطريقة التى يسطو من خلالها المستبد على الدين ويحيله إلى مطية لطغيانه واستبداده، سواء كان ذلك من خلال اتخاذه لنفسه «صفة قدسية يتشارك بها مع الله، أو تعطيه مقاماً ذا علاقة مع الله، أو يتخذ بطانة من أهل الدين المستبدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله». وبالطبع فإن هذا الامتطاء للدين، من جانب المستبد، هو ما يجعل منه مجرد زخارف ورسوم شكلية خارجية، وبحيث يتحول إلى ما يشبه الدواء المهدئ الذى تتعاطاه جماهير يائسة محبطة، لتتعزى به عما تعانيه من الاستبداد والقهر، ويفقد دوره الجوهرى فى تنوير الإنسان وتحريره بالأساس، وبما يعنيه ذلك من تأكيد دور المستبد فى تفريغ الدين من مضمونه وتحويله إلى مجرد شكل فارغ. 
وبالطبع فإن ذلك يرتبط بحقيقة أنه إذا كانت الصورية والشكلانية تعنى أن العلاقة بين الإنسان وغيره، هى علاقة ارتباط خارجى محض، ولا مجال فيها لأى أبعاد باطنية، وبما يعنيه ذلك من أن «خارجية» الروابط هى أساس الشكلانية وأصلها، فإن تلك «الخارجية» - كخصيصة جوهرية للارتباط بين الظواهر والأشياء - إنما تجد ما يؤسسها فى بنية الاستبداد ونظامه. إذ يعنى الاستبداد أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تقوم، فى جوهرها، على خضوع المحكوم وإذعانه لسلطة تفرض نفسها بالقهر والاعتساف، وبما يستتبع ذلك من أنها تقوم على محض الإكراه والقسر الخارجي، وليس الرضا والقبول الباطني. وهكذا فإن ما أهم ما يترتب على الاستبداد أنه ينطوى على ترسيخ نمطٍ من العلاقة يقوم على الإكراه والزجر الخارجي، وليس القبول الرضائى الباطني. وبالطبع فإن هذا الضرب من الارتباط الخارجى يستحيل إلى خصيصة لازمة لكل أشكال العلاقات التى تقوم، بين البشر، فى ظل حكم الاستبداد، سواء علاقتهم مع الله أو بينهم وبين أقرانهم. فالدين يستحيل إلى محض طقس شكلى ينبنى على علاقة خارجية محضة بين العابد والمعبود، وتتحول الأخلاق، بدورها، إلى مجرد إلزامات وقيود خارجية، لا يلبث المرء أن يتهرب من تبعاتها الثقيلة حين تواتيه الفرصة. وتصبح السياسة مجرد وثائق فارغة، وجملة ممارسات إجرائية شكلية تقوم عليها مؤسسات ومجالس صورية، وحتى العلم يتحول إلى محض تقنيات وعمليات سطحية يمارسها البعض على نحو يدنو بها من الممارسة السحرية، وبما يفسر استمرار سيادة عقل التقليد والخرافة. 
وإذ الاستبداد يؤول، هكذا، إلى تبديد المحتوى الروحى والأخلاقى للدين، فإنه لن يكون غريباً أن يجد هذا الاستبداد فى الدين الصورى الشكلى ما يدعمه ويطيل أمد بقائه، وأعنى من حيث يكون مصدر عزاء، لا استنارة، للمحكومين. وبالطبع فإن ذلك يعنى أن التديَّن الشكلى هو قرين الاستبداد فى تفسير التأخر العربي، وبما يؤكد بؤس خطاب دعاة هذه الأيام الذى يرد التأخر إلى ابتعاد الناس عن الدين، وأعنى من حيث لا يجاوز الدين، عندهم، حدود الأشكال والرسوم. 
ويبقى لزوم التأكيد على الأخطر، وهو أن الاستبداد يأبى إلا أن يترك بصمته على البنية الباطنية للدين، وأعنى من حيث يفتح الباب أمام اتجاهات بعينها لاحتلاله من الداخل، وتقديم رؤاها على أنها، وحدها، هى التعبير المطابق له، وبحيث تجعل من الاختلاف معها، اختلافًا مع الدين ذاته، وبما يجعل منه - فى النهاية - واجهة للاستبداد، وغطاء له. ولسوء الحظ، فإن ذلك هو بعض ما يصطخب به المشهد المصرى الراهن. 

تم النشر بجريدة الأهرام بتاريخ 21 / مــــارس / 2013

الخميس، مارس 07، 2013

الخطر على الديمقراطية




لعل أخطر ما يجابه أى تجربة فى التحول الديمقراطى هو التعامل مع الأفكار - بصرف النظر عن نوعها ومصدرها - كمطلق ينبغى تكراره، وأعنى من حيث ما تنطوى عليه الإطلاقية، عموماً، من الإهدار الكامل للفكرة الإنسانية.
وإذا كانت الفكرة الدينية هى الأكثر إغراء بالتعامل معها كمطلق، فإن تحليلاً لظاهرة الدين والوحى، على العموم، ينتهى إلى وجوب الوعى بدخول العنصر البشرى، على نحو حاسم، فى التركيب المنطقى واللغوى والتاريخى لتلك الظاهرة؛ وعلى النحو الذى يستحيل معه استيعابها خارج تحديدات الشرط الإنسانى أبداً. فإذ يبدو لزوم أن يكون الشرط الإنسانى هو الأساس المنطقى للانتقال من لحظة إلى أخرى فى تركيب ظاهرة الوحى (حتى لا يُصار إلى رد هذا الانتقال إلى تغيرات تطرأ على الذات الإلهية كمصدرٍ للوحى)، فإن تنزيل الوحى داخل لغة ما (واللغة ليست محض وسيط اتصال محايد، بل نظام تفكير كامن خلف الألفاظ والعلاقات التى تقوم بينها)، إنما ينطوى على تحددِّ الوحى بهذا النظام الكامن. ومن جهة أخرى، فإن كون الوحى يكون حواراً مع واقع المُخاطبين به، إنما يكشف عن تحددِّه بما يمثل تاريخهم الحى. وبالطبع فإن ذلك يعنى أن الوحى لا يفرض نفسه كبنية مغلقة ومطلقة تعلو على البشر (تفكيراً وتاريخاً)، بل كتركيب يقوم على الحوار المفتوح مع تاريخهم ونظام تفكيرهم. وهكذا، فإن الوحى الذى يتخفى الكثيرون وراءه من أجل تثبيت رؤاهم الخاصة كمطلقات لا تقبل التجاوز، يبين - هو نفسه - عن روحٍ تخاصم «الأطلقة» وتأباها. وللمفارقة، فإن ذلك يعنى - بوضوحٍ وصراحة - أن الوحى ليس هو الأصل المنتج للأطلقة (كآلية تفكير تسود فضاء التفكير العربى من دون تمييزٍ بين تراثى وحداثي)، بقدر ما هو أحد أكبر ضحاياها.
لابد، إذن، من التمييز بين «المطلق الإلهى» الذى إنفتح بوحيه على البشر (تفكيراً وتاريخاً)، وبين «الأطلقة» كآلية يسعى بها البعض إلى وضع ما يدخل البشر فى تركيبه، خارج مجال التفكير والتاريخ. وللغرابة، فإن ذلك ما أدركه الجيل الأول من مُتلقى الوحى المحمدى (الصحابة)، الذين تكشف تجربتهم عن روحٍ تخاصم «الأطلقة»، وعن إدراكٍ للوحى كساحة للحوار المفتوح الذى لا يتقيَّد إلا بدواعى المصلحة، كما تبدَّت لهم حينها. وهكذا فإنهم لم يضعوا الوحى كأصل أوليٍّ مطلق، لا مجال إلا لإكراه الواقع على النزول تحت تحديداته والانصياع لتعليماته، بل تحاوروا معه بما كشف عن وعيهم بوجوب إنصات الوحى ذاته لصوت الواقع.
يقول إمام أهل السنة الكبير أبوالمعالى الجوينى: «إن سُبِرَ (أى جرى فحص) أحوال الصحابة رضى الله عنهم، وهم القدوة والأسوة فى النظر، لم يُرَ لواحدٍ منهم فى مجالس الاستشوار (أى المشاورة) تمهيد أصل أو استثارة معني، ثم بناء الواقعة عليه (كما فعل اللاحقون عليهم)، ولكنهم يخوضون فى وجوه الرأى من غير التفاتٍ إلى الأصول كانت أو لم تكن. فإن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما كانوا يجرون على مراسم الجدليين فى تعيين أصلٍ والاعتناء بالاستنباط منه، إنما كانوا يرسلون الأحكام، ويعلقونها فى مجالس الاستشوار (المشاورة) بالمصالح الكلية». ينكشف هذا النص النادر والثمين عن طريقة منفتحة فى مقاربة الوحى تقوم على «الخوض فى وجوه الرأي، وإرسال الأحكام وتعليقها على المصالح الكلية، من دون تمهيد أصلٍ يُبنى عليه كنموذجٍ مطلق»، وذلك فى مقابل ما مارسته الأجيال اللاحقة على هذا الجيل الأول من مُتلقى الوحى (وممن يُقال أنهم السلف بالذات)، من «تمهيد الأصول، وعدم الالتفات إلى الرأي». وضمن سياق هذا التمهيد للأصول فإنهم قد مارسوا ضروباً من «الأطلقة»، ليس للوحى فحسب، بل وحتى لتجربة الصحابة المنفتحة ذاتها، والتى استحالت- تبعاً لذلك- من تجربة لها تاريخ إلى أصل مطلق يقف خارج أى تاريخ. ولقد تحققت هذه الإحالة لتلك التجربة من «تاريخ» إلى «أصل مطلق» عبر عزلها عن السياق الذى تبلورت داخله؛ وبما آل إلى تبديد روحها بالكلية، حيث استحالت إلى محض ركامٍ من الشواهد والأصول النصية المبعثرة، والتى كان لابد أن تفقد مع هذا التجريد والتبعثُّر مغزاها ودلالتها الأعمق. وإذ تتحول التجربة إلى «أصل» فإنها تثقل على كل التاريخ اللاحق، وذلك من حيث تغدو موضوعاً للامتثال والتكرار، بدل أن تكون ساحة للتمثُّل والحوار. وإذن، فإن «الأطلقة» - وليس سواها - هى ما يحيل تجارب البشر من «تاريخ حي» إلى «نصٍ أو أصلٍ جامد» يقف خارجه؛ على النحو الذى يكون معه أشبه بالشاهد المصمت المُعلق على قبر صاحبه، والذى لا يعرف الخَلَف اللاحق إلا التعبُّد فى ظلاله. وتلك هى جوهر الممارسة السلفية؛ على أن يكون معلوماً أن هذه الممارسة لا تقف عند حدود من يُقال أنهم سلفيو هذا الزمان، بل تتجاوزهم إلى من يُقال أنهم حداثيوه أيضاً. و سواء مورست هذه «الأطلقة»، تحت يافطة الدين أو العلمانية، فإنها تمثل خطراً داهماً على الدولة.
ولقد كانت السياسة هى أحد مجالات التحوُّل بتجربة الصحابة من «تاريخٍ» إلى «نصٍ» أو أصلٍ يقف خارجه. فإذ لم يتوافَّر للجيل الأول من المسلمين، ما يمكن أن يكون «نصاً» أو أصلاً يفكرون به فى السياسة؛ نتيجة لعدم توافر عرب ما قبل الإسلام على تراثٍ مؤثر فى ممارسة السياسة والتفكير فيها من جهة، وبسبب سكوت الوحى عن تعيين طرائق محددة لممارستها والتفكير فيها، من جهة أخري، فإنه لم يكن أمام هذا الجيل إلا أن تكون له «تجربته» الخاصة فى السياسة. ولقد كانت «تجربة» تتسم بالانفتاح والحرية، من حيث تعليق الأحكام على المصالح، واعتبار شروط ومحددات الواقع، وعدم التقيُّد بأصلٍ أو نصٍ يحكمون به الواقعات والنوازل السياسية. ومن هنا، مثلاً، أن هذه التجربة لم تعرف وصفاً منضبطاً منذ البدء للقائم بأمر السلطة (فهو «الخليفة» أو «أمير المؤمنين»)، كما لم تعرف طريقة واحدة فى تعيين هذا القائم بالسلطة (حيث اختلفت طريقة تعيين الخلفاء من الأول إلى الرابع)، كما لم تعرف ضوابط محددة لممارسة السلطة وحدود العلاقة بين الحاكم والمحكوم (وبما ترتب على ذلك من المشكلات التى انفجرت فى وجه الخليفتين الثالث والرابع، وأودت بهما إلى مصائرهما الدامية). ولكن الغريب حقاً، أن هذه التجربة الحية المتوترة سوف تتحول - مع الاشتغال عليها بمنطق الأطلقة؛ وذلك عبر تفتيتها إلى مفردات مبعثرة ومعزولة عن السياقات الحاكمة لها - إلى نموذجٍ جرى التعالى به إلى مقام «الأصل» المطلق الذى يلزم إعادته وتكراره. وغنيٌّ عن البيان أن ذلك قد آل إلى إفقار التجربة، بعد أن أفقدها عناصر الانفتاح والحيوية، وأحالها إلى محض شاهدٍ مُصمت يُراد من كل واقعٍ لاحق أن يكون مجرد ظلٍ له.
ولسوء الحظ، فإن محض نظرة عابرة على ما تطرحه فيالق الإسلام السياسى التى تتصدر المشهد فى عالم ما بعد الثورات العربية، إنما تكشف عن الهيمنة الكاسحة لهذه «الأطلقة» على قراءتها للإسلام (نصاً وتاريخاً)، وهو ما يمثل الخطر المحدق على ممكنات الديمقراطية. 

تم النشر بجريدة الأهرام بتاريخ 7 / مــــــارس / 2013