الخميس، يونيو 27، 2013

عن الاستبداد والتنطع





لعله يلزم التنويه بأنه إذا كانت العلاقة بين الدينى والسياسى فى الإسلام تحتاج إلى استقصاءٍ أعمق يتجاوز حدود هذا الحيز، فإنه يمكن القول - على العموم - بانه إذا كان الدين قد ظل يقدم للسياسة لغتها وقاموس مفرداتها، فإن كل موجهاتها ومحدداتها الرئيسية قد ظلت تنتمى إلى مجال آخر غير الدين. 

وبعبارة أخري، فإنه إذا كان الدين قد منح السياسة لغتها وشكل ممارستها، فإن مضمون تلك الممارسة ومحتواها قد ظل شيئاً يقع خارج حدوده فى الأغلب. ولعل استقراء للمصنفات التاريخية الكبرى يئول إلى أن صراعات القوة قد كانت هى المحدد الرئيسى لممارسة السياسة فى الإسلام. فلا يكاد ابن خلدون - الذى يستمد قيمته الكبرى من كونه صاحب خطاب عن التاريخ، وليس من كونه مجرد مؤرخ، أو ناقلٍ للأخبار مثل غيره - يرى فى تاريخ المسلمين، إلى عصره، إلا نوعاً من الفاعلية شبه المطلقة لقانون العصبية القبلية التى كانت - ولعلها تبقى للآن - الشكل السائد لاشتغال القوة. والغريب أن المحاولات لا تتوقف لإخفاء هذا التاريخ الطويل الذى كتبته القوة لكى يتوارى من الذاكرة بالكلية، لحساب تاريخ مثالى ومُتخيل يستخدمه دعاة الإسلام السياسى فى الترويج لأجنداتهم السياسية النازعة للهيمنة.
 ورغم هذا السعى الدائب إلى طمس هذا التاريخ الرذيل الذى يجرح الوعى ويشقيه، فإن ما يشهده العالم العربي، فى اللحظة الراهنة، من انفجار المكبوت القَبَلى والعشائرى والطائفى والمذهبى الذى لطالما جرى كبته وراء أقنعة الدين - ثم الحداثة بعد ذلك - لما يؤكد على أنه من قبيل التاريخ الذى يأبى الغياب والسكوت.

إن ذلك يعنى أن الدين كان - ولا يزال - جزءا من لعبة القوة ومن أدوات اجتيازها والإمساك بمفاتيحها. وضمن هذا السياق، فإن ثمة علاقة طردية بين تصورٍ بعينه للدين وبين حجم القوة التى يوفرها للقائمين على توظيفه سياسياً، وأعنى أنه كلما كان الدين حرفياً وقطعياً يكون مقدار القوة التى يقدمها لهؤلاء الساعين إلى التخفى وراءه أكبر - بما لا يُقاس - من تلك التى يوفرها لهم حين يكون موضوعاً لتفكير مفتوح. ويرتبط ذلك بحقيقة أن "قطعية الدين وحرفيته" تكون هى الأكثر مثالية فى إخضاع الجمهور وقهره، وأعنى من حيث لا يكون متاحاً له، فى إطارها، إلا محض التسليم والامتثال من دون جدلٍ أو سؤال. وإذ يقوم دعاة الإسلام السياسى بتثبيت هذا التصور القطعى للدين على أحد المفاهيم الشائعة المستقرة فى وعى الجمهور، وهو مفهوم "القطعى الثبوت والدلالة"، فإنه يلزم التنويه بما يقوم عليه هذا المفهوم من مراوغة تسوية "قطعية الثبوت" مع "قطعية الدلالة"، وذلك فيما ينتمى "الثبوت" إلى مجال التاريخ الذى يغاير بالكلية مجال المعنى الذى تنتمى إليه "الدلالة". وبالطبع فإنه لا يمكن التسوية أبدا بين ما ينتمى إلى مجال "الثبوت التاريخي"، وبين ما ينتمى إلى مجال "المعنى الدلالي"، وبمعنى أنه فى حين أن أحدا لا يجادل فى يقينية "ثبوت" القرآن، وبما يعنيه ذلك من إمكان - بل وجوب - التأكيد على "قطعية" ثبوته، فإنه لا يمكن القول بقطعية دلالته ومعناه، لأن ذلك يعنى وجوب القول بأحادية الدلالة والمعني، وهو ما لا يمكن لمسلم أن يقبله بخصوص القرآن. 

وعلى العكس من هذا التصور القطعى للدين، فإن تصوره موضوعاً لتفكير مفتوح إنما تجعل منه إحدى الساحات التى تنفتح أمام الفرد لتأكيد قدرته على التفكير الفاعل المستقل. وبحسب ذلك، فإنه فيما يتيح التصور القطعى للدين للسلطة أن تهيمن على المجال العام، وتتحكم فيه بالكليّة، فإن الأثر الذى يؤدى إليه التصور المفتوح للدين - فى المقابل - لا يقف عند حد حرمانها من هذا الامتياز فحسب، بل ويئول إلى جعلها موضوعاً للتحكّم والضبط من جانب الأفراد. ولعله يلزم الوعي، فى هذا السياق، بجدلية العلاقة بين تصور الدين "حرفيا وقطعيا" من جهة، وبين الطبيعة الاستبدادية التسلطية للسلطة من جهة أخري، وبمعنى أن العلاقة بينهما لا تمضى فى اتجاهٍ واحد، بل إن الواحد منهما يحدد الآخر، ويتحدد به فى الآن نفسه. 

وإذ يعنى ذلك أن "قطعية الدين وحرفيته" إنما تؤسس للاستبداد، بذات القدر الذى يؤسس به - هو أيضاً - لها، فإن ذلك ما انشغل به، وأفاض فى بيانه، رجل الإصلاح وداعيته الكبير عبدالرحمن الكواكبي. فقد مضى الرجل يفضح الطريقة التى يسطو من خلالها المستبد على الدين ويحيله إلى مطية لطغيانه واستبداده، سواء كان ذلك من خلال اتخاذه لنفسه "صفة قدسية يتشارك بها مع الله، أو تعطيه مقاما ذا علاقة مع الله، أو يتخذ بطانة من أهل الدين المستبدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله". وبالطبع فإن هذا الامتطاء للدين، من جانب المستبد، هو ما كان لابد أن يجعل منه مجرد زخارف ورسوم شكلية خارجية، وبحيث يتحول إلى ما يشبه الدواء المهدئ الذى تتعاطاه جماهير يائسة محبطة، لتتعزى به عما تعانيه من الاستبداد والقهر، ويفقد دوره الجوهرى فى تنوير الإنسان وتحريره بالأساس، وبما يعنيه ذلك من التأكيد على دور المستبد فى تفريغ الدين من مضمونه وتحويله إلى مجرد شكل فارغ. 

ولقد كان الكواكبى هو من كشف، ببراعة، عن الكيفية التى ينتج بها الاستبداد "التنطع" فى الدين الذى هو علامة خوائه وصوريته. فقد مضى إلى إن "المستبدين قد سطوا على الدين واتخذوه وسيلة لتفريق الكلمة وتقسيم الأمة شيعاً، وجعلوه آلة لأهوائهم، فضيعوه وضيعوا أهله بالتفريع والتوسيع والتشديد والتشويش وإدخال ما ليس منه فيه كما فعل أصحاب الأديان السائرة، حتى جعلوه دينا لا يقوى أحد ممن يتوهم أن كل ما دونه هو منه على القيام بواجباته وآدابه ومزايداته التى صارت تشتبه مراتبها على العام والخاص. وبذلك انفتح باب التلّوم على النفس واعتقاد التقصير المطلق، وأن لا نجاة ولا مخرج، ولا إمكان لمحاسبة النفس. وهذه الحال تصغر النفس وتخفت الصوت وتمنع الجسارة على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر المنوط بها قيام الدين وقيام النظام والعدل. وهذا الإهمال للمراقبة والسيطرة والمؤاخذة والسؤال أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود. 


تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 27 / يونيـــــــــــو / 2013


الخميس، يونيو 13، 2013

مصلحة الإنسان وصلاح الحكم





يتميز القرآن - ككل النصوص الكبرى التى لا تكف عن الإشعاع والوميض على مرِّ الأزمان - بكونه ساحة التقاء بين "التاريخى" بتحديداته الجزئية، وبين "المُتجاوز" بشموله وكليته. 
وإذا جاز القول بأن التأسيسى فى القرآن يتمثَّل فى هذا "المتجاوز" الذى يحيل إلى عالم القيم والمعانى الإنسانية الكبري، فإن الإجرائى فيه يكون هو جملة التحديدات الجزئية التى تتحقق هذه القيم والمعاني، من خلالها، فى لحظة بعينها.
 ولابد أن يكون مفهوماً أن الأمر، فيما يختص بالعلاقة بين التأسيسى (الكلي) والإجرائى (الجزئي) لا يتعلق بثنائية جامدة، يقف كل طرف منها بمعزلٍ عن الآخر، بقدر ما يتعلق بحقيقة واحدة يكون "التأسيسي" هو جوهرها الذى يدخل "الإجرائي" فى تركيبها، ولكن من دون أن يكون قادراً على استنفادها. فإن هذا "التأسيسي" المتجاوز يكون - وعلى نحوٍ ما - أشبه بالحقيقة العلمية التى هي، بدورها، تركيبٌ يتنامي، فى التاريخ، عبر تصحيحه المستمر لنفسه، ولكن من دون أن يكون هذا التاريخ قادراً على استنفادها بالمثل، وإلا فإن ذلك يؤشر على ما لا يمكن تصوره، بالعقل، من "نهاية العلم".
وفقط فإن الفارق بينهما يتأتى من أنه فيما تكتمل الحقيقة العلمية فى "الوعي"، وليس فى "الوجود"، لأنها تكون - طوال الوقت وبصرف النظر عن الوعى بها - قائمة فى الوجود وضابطه لظواهره على نحو فعلى، فإن التأسيسى المتجاوز فى القرآن (والمجال الإنسانى على العموم)، يكتمل فى (الوجود)، وليس فى (الوعي)، لأن هناك من القرائن ما يقطع بأن هذا التأسيسى المتجاوز (قيمةً ومعني)، قد كان - ومنذ أقدم العصور - حاضراً فى (الوعي)، ولو بوصفه مثلاً أعلى يرنو إليه البشر، ولكن تحققه لم يكتمل فى (الوجود) فى أى لحظة من التاريخ. إنه - هكذا - أقرب إلى القيمة أو المعنى الكلى الذى يمتص كل تحققاته الجزئية داخله، ومن دون أن تكون تلك التحققات قادرة على اقتناصه واستيعابه فى واحدة منها، وإلا فإنها ستكون "نهاية القيمة أو المعني".
 وإذن فإنه التباين بين "انفتاح" القيمة أو المعني، وبين "محدودية" شكل تحققها. وبالرغم من هذه "المحدودية" لأشكال تحقق القيمة أو المعني، فإنه يمكن القول إن كل واحدٍ منها يمثل، فى تحقيقه لهذه القيمة أو المعني، درجة أعلى من تلك التى يكون سابقه عليها. ويعنى ذلك، وعلى نحو مباشر، إمكان القول بأن "مصلحة الإنسان وصلاحه" هى أحد مبادئ القرآن التأسيسية، وأما المضمون الذى يتحقق من خلاله هذا المبدأ فى لحظة بعينها، فإنه يكون هو الحد "الإجرائي" المحقق لها فى تلك اللحظة. 
وبالطبع فإنه إذا كان الوحى هو بمثابة إحضار للقيمة، المعني، المصلحة، كمبادئ تأسيسيةٍ كبري، إلى واقع مجتمعات بشرية، لم تكن لتقدر على بلوغها بجهدها الخاص، فإنه كان لابد أن يجرى تنزيل هذه المبادئ التأسيسية فى واقع حياتها، ضمن شروط اللحظة التى تعيش فيها، وإلا فإن تنزيلها خارج تلك الشروط كان يمكن أن يترتب عليه رفض فعل الوحى بالكلية. ومن هنا ما يمكن القول إنها مراوحة الوحى وحركيته بين "المبدأ التأسيسى المتجاوز" من جهة، وبين "التحديد الإجرائى المتعيّن" الذى يتحقق، هذا المبدأ، من خلاله فى واقع بشرٍ بعينهم، وفى إطار لحظة بعينها، من جهة أخري. فإنه ليس خطابا بهذا المبدأ فى "المطلق"، بقدر ما هو خطابٌ به فى الواقع "المتعيِّن"، أى إلى بشر محددين، وفى لحظة تاريخيةٍ بعينها. وبالطبع فإنه يبقي - ضمن هذه المراوحة - أن "الحد الإجرائي" - الذى يتحقق من خلاله "المبدأ التأسيسي"، إنما يكون "موضوعا" من أجل تحقيق القيمة المرتبطة بهذا المبدأ، فى تلك اللحظة بعينها، وليس على نحو نهائى مطلق. وإذ يعنى ذلك أنه يتحقق فى ارتباطٍ حاسم مع "التاريخ"، فإن صرامة هذا الارتباط تبلغ حد أنه قد يتحوَّل فى لحظة مغايرة، لتلك التى تبلور فيها، إلى عائقٍ يحول دون تحقيق "المبدأ التأسيسى المتجاوز" الذى يقف وراءه.

ومن هنا ما توافق عليه أهل التفسير والأصول من النسخ فى القرآن، الذى لا يعنى شيئاً إلا أن حضور وصلاح الحكم (وهو الحد الإجرائى المحقق للمبدأ التأسيسى أو القصد) يكون مرتبطاً بوقتٍ بعينه. فإن رفع الحكم، ليحل محله غيره (وهو معنى النسخ)، لا يعنى إلا أنه قد استحال إلى عائق يحول دون تحقيق المبدأ أو القصد الذى يقوم خلفه، ولذا وجب رفعه لأنه لم يعد صالحا فى لحظة مغايرة لتلك التى تنزَّل فيها. وحين يلاحظ المرء قصر المدة الزمنية التى كان يتحقق ضمنها.

ولقد كان ربط صلاح الحكم بالوقت هو أداة الفخر الرازى فى الفرار من مأزق نسبة النقص إلى الله، فإنه "إن قيل: لو كان (الحكم) الثانى (الناسخ)، أصلح من الأول (المنسوخ)، لكان الأول ناقص الصلاح، فكيف أمر الله به؟ قلنا: الأول أصلح من الثانى بالنسبة للوقت الأول، والثانى بالعكس". إن الصلاح هنا هو المبدأ التأسيسي، وأما الحكم الذى يتحقق من خلاله هذا الصلاح، فهو الحد الإجرائي، وبحسب تقرير الرازى فإن الحكم، أو الحد الإجرائى المحقق للصلاح، قد يتحول فى غير وقته إلى عائقٍ يُمتنع معه تحقيق الصلاح، فيلزم رفعه بالنسخ.
 الغريب، هنا، أن تجربة الجيل الأول من المسلمين تشير إلى حقيقة أنهم - ورغم انقطاع الوحي - قد رفعوا من الأحكام، ما أدركوا فيه حائلاً يمنع تحقيق الصلاح، وكان ذلك استناداً إلى وعيهم العميق بالمنطق الذى يحكم علاقة كلٍ من الوحى والعقل والواقع. ولعله يلزم الإشارة، هنا، إلى ما جرى بخصوص الأحكام المتعلقة بسهم المؤلفة قلوبهم، وتوزيع الغنائم على الجند الفاتحين، والحد المفروض على شارب الخمر وغيرها مما أدرك فيه الصحابة أن صلاحه مرتبطٌ بوقت تنزيله، وأن شروط صلاحه قد ارتفعت، ولم تعد قائمة.

فهل يقدر حمقى هذا الزمان الحكمة من وراء ذلك فيميزون بين التأسيسى والإجرائى فى القرآن؟. 

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 13 / يونيــــو / 2013