الخميس، مايو 30، 2013

العنف بين نيات الأفراد ومنطق الخطاب




من الطبيعى أن يكون الصعود الملحوظ لخطاب تديين السياسة، فى مصر وغيرها، قد أعطى دفعة معنوية هائلة لجميع الفيالق المنضوية تحت راياته التى بدأت ترفرف خفَّاقة، وذلك بالرغم من كل ما يقوم بين فصائلها من تباينات تطال التصور ومنهج العمل. 
فقد اندفع الجميع يعملون على تحقيق الغاية القصوى للخطاب
(التى هى تديين السياسة) بطرائق فى الاشتغال تتراوح بين التطرف والاعتدال.
وهنا يلزم التنويه بأنه إذا كان التطرف والاعتدال هما محض طريقتين فى الاشتغال يتسع لهما الخطاب، فإن ذلك يعنى أنهما من قبيل العارض الذى لا يؤثر فى حضور المشتغلين بهما معاً تحت مظلة ذات الخطاب الواحد. وبعبارة أخرى، فإن الفارق بينهما يتعلق بمحض "الإجرائى" السطحى، وليس "بالبنيوى" العميق، أو أنه من قبيل الفارق فى الدرجة، وليس النوع. وتبعاً لذلك، فإنه لن يكون بمقدور أحد التبرؤ من العنف الواقع تحت مظلة هذا الخطاب، باعتبار أنه مجرد ممارسة منحرفة لأفرادٍ غير أسوياء، لأن هذا العنف - فى حقيقته - لا يتعلق، فحسب، بما يقصد إليه الأفراد، بل يرتبط - وهو الأهم - بضرورات منطق الخطاب. ولسوء الحظ، فإن "العنف" - فى كل أشكاله الناعمة والدامية - يكاد أن يكون أحد أهم المآلات التى لابد أن ينتهى إليها الخطاب الرامى إلى تديين السياسة. ويتفرع ذلك عن حقيقة أن التفكير فى السياسة أو ممارستها بالدين، يحيلها إلى جملة "مطلقات" سوف يجد البعض أن لا سبيل لتسكينها فى الواقع - على فرض إمكان ذلك - إلا بالإكراه والقسر. وعلى الدوام، فإنه يبقى أن العبرة هى بالمصائر والمآلات (التى تقتضيها أنظمة الخطابات)، وليست بالمقاصد والنيات (التى تسكن نفوس الأفراد).
فقد يقصد الواحد من دعاة تديين السياسة، واعياً، إلى جعل قوله ساحة لصوت الاعتدال، ولكن منطق الخطاب يأبى إلا أن يجعل صوت "التطرف"، المُراد إسكاته، ينطق فى قوله. ولعل مثالاً لذلك يأتى من تحليل أحد وجوه خطاب الإسلام السياسى المتمحور حول مفهوم "أستاذية العالم". فرغم السعى إلى ربط هذا الوجه للخطاب برموز الاعتدال والمسالمة، فإن ذلك لا يقدر على زحزحة الحضور الراسخ لرمز التشدد والمفاصلة، الذى هو الأستاذ سيد قطب صاحب التنظير الأوفى لخطاب "الأستاذية على العالم"، وإلى الحد الذى تكاد معه أن تكون مركزاً لخطابه كله. وهكذا، فإنه وابتداء من أن المنطق الكامن لأى خطاب قد يجد تعبيره الأجلى والأنقى عند أحد المشتغلين فى حقله، بأكثر مما يجده عند آخر، فإنه يبدو أن الإطار الذى كان قطب يفكر داخله، على مدى الخمسينيات والستينيات، قد أتاح له أن يكون هو صاحب التعبير الأصفى عن هذا الخطاب.

 ولسوء الحظ، فإنه يبقى أن ما ينبنى عليه هذا الخطاب لا يسمح له - مهما اختلفت أشكال التعبير عنه - إلا بأن يكون ساحة إقصاء وتنابذ، وليس فضاء حوارٍ وتواصل. ويرتبط ذلك بحقيقة أن مفهوم "أستاذية العالم" يحيل إلى عالمٍ هيراركى تتراتب فيه العلاقات من الأعلى فرضاً على الأدنى، وبما يعنيه ذلك من قيام العلاقات بين الناس فى الواقع على أن هناك طرفاً فى الأعلى هو الأستاذ الذى له أن يفرض هيمنته على الطرف الجاهل فى الأدنى. ولكن ما الذى سيحقق به هذا الأستاذ أستاذيته على العالم؟ يأتى الجواب - عن السؤال - حاسماً من الأستاذ قطب الذى مضى فى كتابه "معالم فى الطريق" إلى تقرير: "إن هذه الأمة لا تملك الآن - وليس مطلوباً منها - أن تقدم للبشرية تقدماً خارقاً فى الإبداع المادي، يحنى لها الرقاب، ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية. فالعبقرية الأوروبية قد سبقتها فى هذا المضمار سبقاً واسعاً.

 وليس من المنتظر - خلال عدة قرون على الأقل - التفوق المادى عليها!. فلابد إذن من مؤهل آخر لقيادة البشرية، غير الإبداع المادي، ولن يكون هذا المؤهل سوى العقيدة والمنهج". وحين يدرك المرء أنه ليس ثمة من مجال للإبداع فيما يخص هذا المؤهل البديل، حيث إنه "لابد فيه - على قول قطب - من التلقى عن الله"، فإن ذلك يعنى أن أستاذية المسلمين للعالم لا ترتبط بشئٍ أنتجوه (من الإبداع المادى أو الروحي)، بقدر ما تتعلق بالسعى لإخضاع العالم (طوعاً أو قسراً) لما يتصورون أنه المنهج الذى تلقُّوه عن الله. وإذن فإنها الأستاذية لا ترتبط بما ينتجه الناس على الأرض، بل بالمعطى لهم من السماء، وبما يعنيه ذلك من أنها ستكون عملاً من أعمال المشيئة العليا التى لا اختيار للناس معها، بل يلزم فرضها عليهم.

 ولعل الدليل على الطابع الإخضاعى لتلك الأستاذية يتآتى من تعيين الأستاذ "قطب" لنقيضها على أنه "الجاهلية"، حيث إنه لا سبيل لمن يتمرغون فى بؤس الجاهلية، إلا الخضوع لسادتهم الأعلين، من الذين يترقون فى معارج الأستاذية. وإذا كانت الجاهلية تتعين، عند قطب، بما هى "إسناد الحاكمية للبشر"، فإن الأستاذية لابد - وبمنطق المخالفة - أن تتعين بما هى "إسناد الحاكمية لله"، وبما يعنيه ذلك من أن "قطب" يعيِّن طرفى الصراع فى "حاكمية الله" فى الأعلى، و"حاكمية البشر" فى الأدنى، وبكيفية لا مجال فيها إلا لإخضاع الأدنى لسيادة وهيمنة الأعلى.وحين يدرك المرء أن خطاب الأستاذية سوف ينتهى به، على هذا النحو، إلى فكرة "الحاكمية الإلهية"، بكل ما تؤدى إليه من ضروب الإقصاء والعنف (اللفظى والمعنوي) سواء بين المسلمين وغيرهم، أو بينهم وبين أنفسهم، فإن له أن يقطع بأن العنف، هنا، ليس محصلة انحراف أفراد، بقدر ما هو من لوازم الخطاب.
وتبعاً لذلك، فإنه ليس لأحدٍ من الخاطبين فى ليل خطاب تديين السياسة - الذى تتعالى راياته فى العالم العربى الآن - أن يعتذر بسلامة النيِّة والمقصد عما تئول إليه ضرورات منطق الخطاب، وذلك ابتداءً من أن مقصد الفرد هو ما يخضع لتوجيه منطق الخطاب، وليس العكس.

 وبالطبع فإنه إذا كان التعويل على النيِّة والقصد يتعلق بتحديد المسئولية (فى شقيها الجنائى والسياسي) عن حدثٍ ما، فإن الأمر، فى هذا التحليل، يتعلق بتعيين المسئولية المنطقية والخِطابية عنه، إذا جاز التعبير. ومن هنا أن مسئولية العنف تقع على كاهل الخطاب، وبما يعنيه ذلك من المسئولية التبعية لحامليه بصرف النظر عما تطويه نياتهم ومقاصدهم. 

تم النشر بجريدة الأهرام بتاريخ 30/ مايـــــو/ 2013


الخميس، مايو 16، 2013

عـن الثـــورة والمعــذبـيــن ..،،





تكاد الثورة أن تكون نوعاً من القيامة.
 ولهذا فإنه ليس غريباً أنه لم يبقَ فى ذاكرة السيدة "سوزان أوسينجا" - التى أُتيح لها معاينة جثمان "جيفارا" بعد أن حمله قاتلوه إلى المستشفى الذى كانت تعمل به آنذاك - أن الكثيرين من فقراء الفلاحين والهنود فى بوليفيا (التى أُعدم الرجل فى أحراشها) لا يزالون إلى اليوم يقيمون القداس على روحه، وهم على قناعة من أنه يحقق المعجزات.

وبالطبع فإنه ليس لذلك من دلالة إلا أن يكون "معذبو الأرض" فى جبال ووديان أمريكا اللاتينية قد راحوا، فى تلك اللحظة المشحونة بالألم والمعاناة، يتبيَّنون فى وجوه ثوارهم ملامح الأنبياء والقديسين، ويقرأون فى تضحيات وعذابات هؤلاء الثوار الأسطوريين - الذين جادوا بأرواحهم من أجل تخليصهم من البؤس والشقاء - معانى الفداء والخلاص والقيامة وغيرها من مفردات اللاهوت الكنسى التى طالما سمعوا بها فى دروس قدَّاس الأحد، ولكن من دون أن يعاينوها فى قلب تجربة متجددة حيَّة، يستشعرونها ويحسون بها متَّقدة ونابضة. ولعله يمكن القول بأنهم قد استعادوا - مع هؤلاء الثوار - تجربة مسيح الناصرة المصلوب على الجبل، وكذا تجربة ذلك الطابور الطويل من الشهداء الذين عاشوا "الدين" كتجربة ومعاينة، وليس كمجرد معتقدٍ بارد يحفظونه ولا يملون من ترديده من دون إحساس أو معاناة. وإذن فإنه قد جرى استقبال "الثورة"، من جانب هؤلاء المعذَّبين، على أرض "اللاهوت" وبدعمٍ مباشرٍ منه، وليس فى قطيعة معه، وذلك على عكس ما جرى فى تجربة أوروبا التى تكاد عبارة أحد كبار صُنّاع الثورة فى فرنسا "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس" أن تشير إلى أن العلاقة التى عرفتها بين اللاهوت والثورة، تختلف كلياً عن تلك التى سوف تعرفها أمريكا اللاتينية - بعد ما يدنو من القرنين - بينهما. حيث الثورة فى أوروبا هى ثورة على اللاهوت وضده، فيما هى فى أمريكا اللاتينية ثورة فى اللاهوت وبفضله. ومن هنا أن اللاهوت - وحتى الدين - لم يكن ليتحول فى أحراش أمريكا المُثقلة بالفقر والظلم إلى زأفيونٍ للشعوب، بقدر ما راح يستحيل إلى "صرخة" للمضطهدين الذين راحوا يطالبون، من خلاله، بخلاصهم على الأرض أولاً، وقبل خلاصهم السماوى البعيد. ولعله يمكن القول ترتيباً على ذلك بأن تلك التجربة الفريدة لأمريكا اللاتينية كانت هى التى أعادت الاعتبار لعبارة "ماركس" الشهيرة عن الدين، والتى طالما تعرضت للابتسار والتشويه المتعمد من كهَّان مؤسسات إنتاج التسلط والقمع.
إن ذلك يعنى أن فيالق "المُستعبدين والمعذبين" الذين أبصروا فى وجوه ثوارهم المغدورين ملامح الأنبياء والقديسين (الذين طالما أجهش هؤلاء المعذَّبون كثيراً بالبكاء لما يُروى، فى عظات ودروس الآحاد، عن موتهم الحزين) كانوا هم أصحاب البشارة بظهور لاهوت التحرير والثورة. ومن هنا أن هذا النوع من اللاهوت النضالى لم يكن أبداً من إلهام "المُنظِّرين والأكاديميين" بقدر ما انبثق من آلام "الأشقياء والمضطهدين". إذ الحق أن ثمة "حالة ثورية" أنضجتها ظروف البؤس والشقاء فى تلك القارة التى كان عليها أن تعيش فى ظلمة الاستعباد المزدوج لسيدين، السيد الكاوبوى فى الشمال، ثم وكلاؤه من الطغاة المحليين الذين تزدحم بهم قصور الحكم، التى ترفرف عليها رايات الاستقلال الزائف. وقد حدث أن تجاوبت تلك الحالة مع أشواق "المعذبين" إلى عالم أكثر عدالة وإنسانية، فاستقبلوها بما يليق من مفردات مخزون قدسى كامن، يرتفعون بأبطاله إلى مقام القديسين. ولعلهم كانوا فى تلك اللحظة التى لا مثيل لامتيازها وتفرُّدها يتنزَّلون بالقدسانى (المفارق) إلى رحاب التاريخانى (المحايث) الذى كان قد تعالى عليه على مدى القرون، ليصبح أقنوماً خالياً من أى إحساس وجودى نابض. فالمسيح المفارق والمتعالى (من "إنسان مُعذَّب" إلى "إله سلطة") كان يُستعاد من السماء التى رُفِعَ إليها ليقوم حياً فى تضحيات هؤلاء الثوار التاريخيين. 
ولعل الدلالة القصوى لتلك الرجعة (التى تبدو بمثابة قيامة جديدة للمسيح) تكمن فيما تحيل إليه من أن تحرير البشر من البؤس والشقاء هو بمثابة استعادة للمسيح من براثن الموت الذى حكم به عليه دعاة اللاهوت البارد، والذى هو - وبامتياز - لاهوت قمع وتسلط. وهكذا فإنه يمكن القول بأنه لم يكن البشر فقط هم الذين يتحررون، بل كان اللاهوت نفسه يتحرر من قبضة التفسيرات الجامدة والإيمان البارد البليد (الذى يتهكم عليه الأب "أوسكار روميرو" - أحد الأساقفة السلفادورين - بأنه يكتفى بحضور قدَّاس الآحاد، ويرضى بالظلم طوال الأسبوع)، وذلك لكى يستعيد اتصاله بالينابيع الحية لتجربة المعاناة المسيحية الأولى. فلقد بدا لهؤلاء اللاهوتيين المناضلين "أن الإدراك الحقيقى ليسوع كإنسان تاريخى متواجد فى المكان والزمان هو الذى يقودنا - على ما يقول ألويزيوس بييريس أحد أقطاب لاهوت التحرير، إلى البحث عن معنى العبادة الحقيقية. وهذا الإدراك هو الذى يقدمه لنا لاهوت التحرير، إذ يركز على المسيح الذى صار واحداً منا، مسيحٌ واقعى قلبه يدمي، مسيح جائع وعطشان وعارٍ ومريض ولا مأوى له وسجين بسلاسل القوانين الاجتماعية الجائرة. مسيح لا يجد مكاناً يولد فيه، ولا يجد مكاناً يُدفن فيه. مسيح يشكل خطراً على هيرودس فتعقبه ليقتله، مسيح مُفتَرَى عليه أمام المحكمة. مسيح مُعذَّب من قبل الشرطة. مسيح وقع ضحية التعصب والنفاق السياسى للكهنة". 
والحق أن هذه الاستعادة للمسيح كإنسان مُعذَّب لتشير إلى لاهوت يبنى نفسه خارج فضاء الإشكالية الكبرى التى حددت بناء اللاهوت المسيحى على مدى تاريخه الطويل، وتحكمت فيما جرى من انشقاق الكنائس والطوائف، وأعنى بها الإشكالية المتصلة بطبيعة السيد المسيح. وإذ يشير ذلك إلى أن لاهوت التحرير يستعيد مسيحاً آخر غير ذلك "المسيح" الذى تتعبده المؤسسة وكهنتها المفوَّهين البلغاء، فإن ذلك يعنى أن الأمر يتجاوز إلى "تحرير" المسيح نفسه من قبضة الذين لا يتوقفون عن صلبه، والذين - وللمفارقة - يفعلون ذلك على خلفية الثرثرة بتعاليمه ووصاياه (ولابد هنا من تذكُّر ما كتبه "ديستوفسكى" عن المفتش العام، الذى عاقب المسيح بالصلب من جديد حين راح هذا المسيح يفضح - مع ظهوره الرمزى المُتخيَّل فى أسبانيا على عهد ديوان التفتيش والمحارق - انحراف الكنيسة عن كل ما جاء يُبشِّر به من سلام ومحبة. وإذ يشير المجاز العبقرى لديستوفسكى إلى ما يمكن اعتباره مسيحية مغتربة عن نفسها فى أسبانيا المثقلة بعذابات المحكومين بالإحراق والموت بتهم الهرطقة والتجديف (وإلى حد إهدارها دم المسيح نفسه)، فإن هذه المسيحية سوف تتحرر من هذا الاغتراب، وتعود إلى ذاتها كدعوة للخلاص، على يد لاهوتيى التحرير فيما كان - وللمفارقة - جزءاً من ممالكها البعيدة عبر الأطلنطي). 
وإذن فقد بدا أن تحرير "الإنسانى" هو فى جوهره بمثابة تحرير "للسماوي"، وبما يترتب على ذلك من أن زوعياً ممسوكاً فى قبضة الوهم والخرافة هو قرين زوحيٍ تتحكم ممالك الاستبداد وطواغيت الأرض، فى آليات إنتاجه للمعنى والدلالة، وهو ما يلزمنا الوعى به (مسلمين ومسيحيين). 

تم النشر بجريدة الأهرام بتاريخ 16 / مــــايو /2013


الخميس، مايو 02، 2013

عن السلف والشيعة.. تناقضٌ أم تنافس؟




لا يكاد العرب وربما المسلمون يتوقفون، على مدى القرون، عن اختراع حوامل يعلقون عليها انقسام عالمهم وتشظيه، وبما يعنيه ذلك من أن الأصل في العالم هو الانقسام والتباعد. 

وهذا النوع من الانقسام هو أحد نتاجات رؤية للعالم استقرت وغلبت داخل التراث الإسلامي، وذلك مع ملاحظة أن تلك الرؤية للعالم تعد من رواسب ومخلفات عالم القبيلة الذي جاء الإسلام، في سعيه إلى بناء عالم جديد، لكي ينفيه ويرفعه، لكنه استمر حياً وفاعلا في وعي العربي حتى الآن، على الرغم من غياب القاعدة المادية الحاملة له في الواقع. إن ذلك يعنى أن "القبلية" تستمر فاعلة في الوعي الراهن، ولو كرؤية محفزة للانقسام والتفكك، وذلك على الرغم من غياب الحامل الواقعي لتلك الرؤية (الذي هو القبيلة).
ولقد بدا أن أحد أكثر هذه الحوامل التي لا يكف هذا الانقسام عن تعليق نفسه عليها رسوخاً وحضوراً، هو ذلك الانقسام بين السنَّة والشيعة الذي لا يوجد ما هو أكثر فاعليةً منه في التجربة التاريخية للمسلمين، على العموم. فمنذ اللحظة التي انفجر فيها هذا الانقسام، مع تصاعد الأحداث التي انتهت بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فإنه لم يتوارى عن المشهد أبداً، وظل يُعاد إنتاجه تحت رايات دولٍ وأقوام تتبدل مواقعها على ساحتي التاريخ والجغرافيا، ولكن من غير تبديلٍ في عناصر المشهد ذاته. إذ هو مشهد الدم يتحرك من زمن المَقاتل الأولى في صفين وكربلاء إلى المَقاتل الجارية الآن بين ذات الطوائف المتنازعة، في نفس الساحات، وتحت نفس الرايات تقريباً. وكذا فإنه يبدو وكأن الإمبراطوريات التي تقاتلت قديماً تحت رايات عباسية وفاطمية، ثم رايات عثمانية وصفوية، إنما تنبعث الآن لكي تستأنف ما كان من صراعاتها القديمة.
وضمن سياق هذا الترجيع، فإن الورثة لا يستدعون الأحداث بمجردها، بل يستدعون معها كل الأبطال والرموز الذين كانوا هناك في الزمن الأول. وهكذا فقد حضر الرموز جميعاً من الصحابة وآل البيت وأمهات المؤمنين، وحضر معهم وربما قبلهم الفرقاء الذين تحزبوا لهم، وعلى النحو الذي بدا معه أن أربعة عشر قرناً من الزمان لم تكن إلا محض زمان ميت ظل الحدث طافياً فوق سطحه الراكد، حياً وطازجاً من دون أن يضعف أو يبهت. بل وحضرت اللغة بنفس ألفاظها وقاموس مفرداتها من قبيل "المبتدعة والرافضة وأهل الأهواء" وغيرها. وإذن فإنها الذاكرة التي لا تذبل أو تموت وهى تقهر التاريخ، وتُلقي به في غيابة جُب الماضي، ولا تسمح له إلا بأن يكون تاريخ تكرار واستعادة، وليس تاريخ إبداع وولادة. وبالطبع فإنه لن يكون غريباً، ضمن هذا الترجيع، أن يُطلق العرب على حربهم الأخيرة في الخليج، نفس تسمية "الفتنة الكبرى" التي سبق أن أطلقوها على ما جرى في حرب "صفين" القديمة.
ولسوء الحظ فإنها لا تكون الاستعادة - أبداً - لما جرى في صورته الأصلية، بل في صورته المتخيلة المصنوعة التي لا تكاد تنطق إلا بعكس ما قد جرى فعلاً. وهكذا فإن الانقسام بين السنّة والشيعة لا يُستعاد بوصفه انقساماً بين فرقاء اصطرعوا على السلطة واقتتلوا حولها، ثم راحوا يرتفعون بأصول اختلافهم من الأرض إلى السماء، حيث أخفوا الأصل السياسي الذي يتنازعون حوله وراء قناع ديني سميك. وقد كان الواحد من هؤلاء الفرقاء يسعى، من وراء هذا التعالي إلى السماء، إلى تحصين مواقفه وتثبيت اختياراته أو انحيازاته، عبر ما يخلعه عليها هذا التعالي من سمات الديني "المقدس" وينأى بها عن الارتباط بالسياسي "المدنس". والمهم أن ما كان مجرد انحيازات تحتاج إلى التعرية والفضح يتحول، عبر هذا التعالي، إلى "معتقدات" يتقاتل الناس ويموتون تحت راياتها المقدسة. لا تُستعاد تلك الجذور الدفينة للخلاف أبداً، بل إنه يُستعاد بما هو خلاف يقوم أصله ومنتهاه في السماء، وأعني فيما هو ديني محض، حيث يجرى التغييب الكامل لكل ما هو سياسي وواقعي.
ولأن السماء هي فضاء المطلقات، فإن ما يرتفع إليها لابد أن يصبح مطلقاً لا محالة. وهكذا فإن الخلاف بين السنّة والشيعة سوف يصبح، عبر الارتفاع به من الأرض إلى السماء، من قبيل "المطلق" الذي لا سبيل إلى حله أو رفعه. إذ الخلاف حين يصبح مطلقاً، يكون حقلاً لمجرد التصادم، وليس التصالح. وللغرابة، فإنه لم يكن الشيعة وحدهم هم الذين يرتفعون باختياراتهم السياسية إلى السماء، بل كان أهل السنة يمارسون على هذا النحو أيضاً. ولا يتعلق الأمر فقط بما قام به عثمان بن عفان حين تعالى بسلطته إلى السماء مُعتبراً أنها "قميصٌ ألبسه الله له"، بل وحتى بما صار إليه ابن تيمية، وهو أحد أكبر خصوم الشيعة من السلف. فإنه إذا كان الشيعة يؤسسون دعواهم على أحقية الإمام "علي" بالإمامة على ما يقولون أنه النص (الجلي أو الخفي) على إمامته من جهة، وعلى ما تواتر عن فضله من جهة أخرى، فإن ابن تيمية لا يفعل إلا أن يحشد ما لا حصر له من النصوص الدالة على تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان على "عليّ" من جهة، بل ويمضى إلى تفصيل النصوص الدالة على إمامة أبي بكر من جهة أخرى. فقد مضى في "منهاج السنة النبوية" إلى إن "كثيراً من أهل السنة يقولون: إن خلافته (يعني أبا بكر) ثبتت بالنص، وهم يستندون في ذلك إلى أحاديث معروفة صحيحة. ولا ريب أن قول هؤلاء أوجه من قول من يقول: إن خلافة علي أو العباس ثبتت بالنص، فإن هؤلاء (الشيعة) ليس معهم إلا الكذب والبهتان، الذي يعلم بطلانه بالضرورة كل من كان عارفاً بأحوال الإسلام"، وبما يعنيه ذلك من أن ابن تيمية (السلفي) لا يفعل إلا ما يفعله الشيعة من الارتفاع بأصل السلطة إلى السماء أيضاً. وفقط فإنه يجعل ذلك لأبي بكر، في مقابل ما يفعله الشيعة من جعلها كذلك للإمام "علي"، وبما يعنيه ذلك أن الخلاف بين السلف والشيعة، ليس خلاف "تناقض"، بل خلاف "تنافس".
وبالطبع فإن ذلك يحيل إلى أن السبيل إلى رفع الخلاف السنى الشيعي وتسويته، يكون في النزول به من السماء إلى الأرض. لابد إذن - وفى كلمة واحدة - من الرجوع بما أصبح من قبيل "المعتقدات" الإيمانية إلى كونه مجرد تعبير عن مواقف و"تحيزات" سياسية. ولسوء الحظ فإن الكثير مما يتعامل معه المسلمون كمعتقدات إيمانية هو، فى جوهره، محض غطاء لمواقف وتحيزات سياسية. 
وضمن سياق التنزُّل بهذا الخلاف إلى أصله في الأرض، فإن المرء سوف يكتشف أن الجذر الواقعي لهذا الخلاف بين السنّة والشيعة لم يكن مجرد خلافات السياسة وحدها، بل كان أيضاً تصارعات القبيلة، أو حتى تناقضات العشائر داخل القبيلة الواحدة. ولعل ذلك ما يقطع به كتاب المقريزي "في النزاع والتخاصم بين بني هاشم وبني أمية"، الذي يرى للصراع، الذي خرجت من أحشائه فتنة السنّة والشيعة، أصولاً تسبق ظهور الإسلام ذاته.

تم النشر بجريدة الأهرام بتاريخ 2 / مايـــــو / 2013