الخميس، سبتمبر 05، 2013

تدويـر الإخوان وإعادة إنتاجهم




رغم كل ما يجرى فى مصر من الحرائق والدماء، فإنه لا يزال هناك فريقٌ من المشتغلين بالشأن العام، ممن يلحون - ومن دون كلل - على إعادة إدماج الإخوان فى المشهد المصرى الراهن.
المُلاحظ أن الطرائق التى يجرى بها تمرير الإلحاح على هذا الإدماج تتباين بحسب اختلاف الانتماءات الإيديولوجية التى يمكن تمييزها داخل هذا الفريق، بين من يجرى تقديمهم كإسلاميين تائبين عن انتمائهم السابق لجماعة الإخوان أو غيرها من جماعات الإسلام السياسي، وبين قطاعٍ من الليبراليين الذين تبدو ليبرالية بعضهم مصبوغةً باللون الأحمر الكاشف عن انتماءٍ يساريٍ سابق.
 وعلى العموم فإن الإسلاميين التائبين يقيمون استراتيجيتهم على التمييز فى تاريخ الجماعة بين لحظتين، أولاهما هى لحظة التأسيس مع الأب الأول حسن البنا، التى يجرى النظر إليها - فى تاريخ الجماعة - كلحظة فردوسية لابد من السعى إلى استعادتها، وبين ما جاء لاحقاً عليها من لحظة العنف والدم، التى ابتدأت فى التبلور مع سيد قطب، والتى يلزم نبذها وإعلان البراءة منها. وبالطبع فإن الفرضية التى تقف وراء هذه الاستراتيجية إنما تتمثل فى أن تسريب الادعاء بأن العلاقة بين اللحظتين ليست علاقة تطور لم يفعل فيها قطب إلا أن وصل بأطروحة البنا إلى نهاياتها القصوى، بقدر ما هى علاقة انقطاعٍ وانفصالٍ كاملٍ بينهما. 

ولسوء الحظ، فإن هذه الفرضية لا تصمد أمام التحليل المتعمق، وذلك من حيث أن الثوابت التى اشتغل بها خطاب العنف عند قطب تكاد أن تكون حاضرةً - وعلى نحو كامل - عند الأستاذ البنا. ويرتبط ذلك بانه إذا كانت جرثومة العنف تقوم، وبالأساس، فى توظيف مفردات الدين ومطلقاته فى السعى إلى احتلال المجال العام، توطئة للهيمنةِ عليه واقصاء كل المغايرين عبر ضروبٍ متباينة من العنف (الذى يبدأ ناعماً وينتهى دامياً)، فإن حسن البنا قد كان هو من أدخل هذه الجرثومة إلى الممارسة السياسية المصرية.
وضمن هذا السياق فإنه لابد أن يبدأ العنف ضد الآخرين عندما تحتكر جماعة لنفسها صفة "المسلمين"، وبما لابد أن ينشأ عن ذلك من خلق الإيهام لدى الجمهور بأن الأخرين، من خصوم الجماعة، يقفون خارج أسوار جماعة المسلمين التى تقتصر على الإخوان.



ولعل ذلك يجد ما يدعمه فى فهم حقيقة ما قيل من أن الانقلاب نحو العنف قد حصل فى فكر سيد قطب بسبب ما عاناه فى سجون عبدالناصر. فالحقائق تقطع بأن الثوابت الراسخة لخطاب العنف عند سيد قطب قد تبلورت، ليس فقط قبل أن يكون ضيفاً على سجون عبدالناصر، بل وحتى قبل وقوع ثورة يوليو نفسها. بل إنه يبدو أن قطب قد أصبح ضيفاً على السجون الناصرية بسبب هذه الأفكار العنيفة، وليس الأمر كما يحلو للبعض تصويره من أن هذه السجون كانت هى السبب فى تبلور هذه الأفكار. وللغرابة، فإنه يجرى تجاهل حقيقة أن ملامح توجه قطب نحو التشدد قد بدأت فى الظهور بوضوح عند أواخر الأربعينيات، وبالتواكب مع رحلته العلمية فى الولايات المتحدة، وبما يعنيه ذلك من أن بذور العنف قد بدأت فى التبرعم فى البيئة الأمريكية المنفتحة، ولا يمكن إلصاقها بالبيئة الناصرية المغلقة.

بل إن البعض يرتد بتوجه قطب نحو العنف إلى طبيعة ومزاج رومانسى يغلب على شخصيته، وهو المزاج الذى تجاوب معه واقع مأزوم كانت تشهده مصر على مختلف الأصعدة آنذاك. وبالطبع فإن الشرط الذاتى (الخاص بمزاجه الشخصي) والشرط الموضوعى (المتعلق بواقع مصر المأزوم فى نهاية الأربعينيات)، قد كانا بمثابة الشرط الخارجى الذى جعل سيد قطب يبلغ بالعنف الكامن فى خطاب حسن البنا إلى نهايته القصوى. وهكذا فإن خطاب "قطب" يكاد أن يكون تطويراً لخطاب البنا ضمن شروطٍ متغيرة (ذاتية وموضوعية)، وبما يعنيه ذلك من أن العنف لم يكن غائباً عن خطاب البنا، بقدر ما كان "كامناً" ينتظر الشروط التى سوف تسمح بظهوره واشتعاله.وإذا كان يحلو للجماعة أن تستخدم المفاهيم التى استقرت لفهم الدعوة النبوية بالتمييز داخلها بين الحقبة "المكية" والحقبة "المدنية"، وبحيث تكون لحظة البنا هى اللحظة المكية (القائمة على المسالمة)، فيما تكون لحظة قطب هى اللحظة المدنية (القائمة على التمايز والمفاصلة)، فإن هذه المماثلة تدعم الفكرة التى تقضى بأن العلاقة بين لحظتى البنا وقطب هى علاقة تطويرٌ واتصال، وليست - كما يحلو للبعض الإيهام - علاقة انقطاع وانفصال. 

وإذا كان داعية الإسلام السياسى التائب يسعى عبر هذه المراوغات إلى إعادة إدماج الجماعة الأم لكل تيارات الإسلام السياسى فى المشهد المصرى مرة أخرى، فإن داعية الليبراالية (ولو كانت حتى مصبوغةً ببقايا باهتة للون اليسار الأحمر) يسعى فى نفس الاتجاه، ولكن عبر الثرثرة بشعارات ليبراليته الساذجة، والتى ينكشف طوال الوقت أنها ليبرالية (محفوظات) وليس (مفهومات). فهم يحتجون بأنه إذا كان الإخوان قد قد قاموا بإقصاء الأخرين (من الليبراليين وغيرهم)، فإنه لا ينبغى أن يقوم هؤلاء الآخرون بممارسة نفس الإقصاء ضد الإخوان، لأن ذلك يعنى الانتهاء إلى نفس فشل الإخوان. ولسوء الحظ، فإن هذا الاحتجاج يكشف عن عقلٍ يشتغل بطريقة قياسية فقهية بائسة، حيث لا يقدر هؤلاء على إدراك أن الإقصاء لا يمكن أن يكون بمجرد ذاته سبباً فى الفشل، بل إنه يكون كذلك حين يكون وقوفاً فى وجه ما يقتضيه نظام العقل وتطوره. ولعل ذلك بالذات هو جوهر ما تسبب فى فشل الإخوان، لأن إقصائيتهم كانت تنطوى على السعى إلى العودة بالمصريين إلى مرحلة أدنى من تلك التى يقتضيها تطورهم العقلى والإنسانى الراهن. 



تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 5 / سبـتـمـبـــــــــــــــــر / 2013