الأربعاء، أغسطس 05، 2009

ماوراء الأصول الأشعرية


انزياحات المدنس ومخايلات المقدس
------------------------------------


"معاشر الناس: إنما تغيّبت عنكم هذه المدة؛ لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة، ولم يترجح عندي شيء على شيء، فاستهديت الله تعالى، فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده كما أنخلع من ثوبي هذا".

 مقطع من رواية على لسان الأشعري، يردّ فيها تحوّله إلى ما يشبه الأزمة النفسية/الفكرية"


"فلمّا كانت ليلة سبع وعشرين (من رمضان)، وكان من عادته (أي الأشعري) سهر تلك الليلة، أخذه من النعاس ما لم يتمالك معه السهر، فنام وهو يتأسّف على ترك القيام فيها، فرأى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ثلاثاً،
 فقال له: ما صنعت فيما أمرتك به؟
فقال: قد تركت الكلام يا رسول الله، ولزمت كتاب الله وسنّتك،
 فقال له: أنا ما أمرتك بترك الكلام. إنّما أمرتك بنصرة المذاهب المرويّة عنّي، فإنّها الحقّ،
 قال: فقلت: يا رسول الله، كيف أدع مذهباً تصوّرت مسائله، وعرفت دلائله منذ ثلاثين سنة، لرؤيا،
 قال: فقال لي: لولا أنّي أعلم أنّ الله يمدّك بمدد من عنده لما قمت عنك حتى أبيّن لك وجوهها، فجُد فيه، فإنّ الله سيمدّك بمدد من عنده "

"مقطع من رواية عن الأشعري ترتد بتحوله إلى أمر نبوي"


"كان يأتيني شيء والله ما سمعته من خصم قط، ولا رأيته في كتاب، فعلمت أنّ ذلك من مدد الله الذي بشّرني به رسول الله."

"قول للأشعري- أورده ابن عساكر- يخايل فيه بالتواصل مع الإلهي"


تكاد أيّ قراءة جدية للأشعرية،
 أن تنتهي إلى أنّ واقع هيمنتها وسطوتها الواسعة في عالم الإسلام،
لا ترتبط بكفاءة خطابها النظريّ واتساقه، بقدر ما ترتبط بشروط تقع خارج حقل النظر كلياً؛ 
وأعني في عالم الواقع الذي يكاد وحده أن يبرّر هيمنتها الكاملة.
 فالحقّ أنّ الخطاب النظريّ للأشعرية،
 يبدو مسكوناً بما يرزح تحت وطأته،
 من ضروب الإرباك والتناقض؛ التي نتجت، للمفارقة،
 بتأثير ضغوط الخارج وتحديداته، وبحيث يبدو وكأنّ تحديدات الخارج تعمل بالنسبة للخطاب الأشعريّ، لا كسياق يبني فيه هيمنته فقط،
 بل وكمصدر لما يسكنه من الإرباكات أيضاً.
 وإذ يحيل ذلك إلى مركزية الخارج في بلورة كلّ من الهيمنة والمأزق، فيما يتعلّق بالأشعرية، في آن معاً،
فإنّه يلزم التنويه بضرب من التمايز بين "الخارج"، كأصل لهيمنة الخطاب الأشعري، وبينه كمصدر لإرباكاته؛
 ولكن مع ملاحظة أنّ هذا التمايز لا يحيل إلى الانقطاع الكامل بين نوعين مختلفين من "الخارج"، حيث الأمر لا يتجاوز حدود مجرّد التمييز الإجرائي الذي تقتضيه القراءة.
فإذ يحيل انبثاق الأشعرية،
 وسيادتها داخل الثقافة الإسلامية، إلى شروط ذاتية وموضوعية تتحدّد بها في الخارج، فإنّه فيما يحيل "الخارج" كأصل لهيمنة الأشعرية وسيادتها،
 إلى تجاوب خطابها مع شروط موضوعية تقوم في الواقع التاريخي؛
 وهى شروط تستدعي حضور الخطاب وتبرّره،
 بقدر ما أن الخطاب يمثّل، هو نفسه، استجابة لها، فإنّ "الخارج" كمصدر لما تلبّسها من ضروب التناقض والإرباك، يحيل إلى ما يبدو وكأنّه الشرط الذاتي أو الشخصيّ، المتعلّق بتحولات شخص مؤسس الأشعرية؛
وأعنى أبا الحسن الأشعري؛ الذي تكاد تحوّلات حياته أن تحدّد الإطار الذي انبثقت الأشعرية داخله مع مطلع القرن الرابع الهجري.
وبالطبع فإنّ ذلك لا يعني أنّ تناقضات الخطاب الأشعري وإرباكاته تتأتّى فقط من الشرط الذاتي المؤسّس له؛
وذلك من حيث يبدو أنّ هذا الشرط نفسه قد لعب دوراً، بحسب ما ستكشف القراءة، في تثبيت هيمنة الخطاب وترسيخها.

ورغم وعي هذه القراءة بأنّ سعياً إلى الإمساك بما يقوم وراء تأسيس الأصول الأشعرية،
لا بدّ أن ينشغل بما يقف وراء انبثاقها من شروط ذاتية وموضوعية معاً،
فإنّه يلزم التنويه بأنّ حدود الانشغال فيها، لن تجاوز، في الأغلب، حدود ما هو ذاتي؛ ليس فقط لأنّ الشرط الموضوعي إنما يشتغل من خلال الذاتي،
 فيما يتعلق- على الأقل- بلحظة التأسيس والانبثاق،
 بل ولأنّ الشرط "الذاتي" قد لعب دوراً بالغ المركزية في تأسيس الأشعرية بالذات؛ وإلى حدّ استحالة تحليل انبثاقها بمعزل عن الفاعلية المؤثرة لهذا الشرط.
 وإذ يحيل هذا الشرط الذاتي إلى ما يتعلق بالتحوّلات الحادّة والعنيفة التي عرفتها حياة الأشعري؛
 فإنّ هذه التحوّلات التي كانت الأصول الأشعرية هي نتاجها الأهمّ،
 لا تجد ما يفسّرها إلا في قلب تجربة نفسية معذّبة، تلظّى الرجل بنارها، وسعى للانعتاق من تداعياتها المرّة.
 ولأنّ الأصول الأشعرية لم تكن، هكذا، إلا أداة الأشعريّ في إنجازه لانعتاقه،
 فإنّه قد راح يتعالى بها إلى أن تكون من قبيل المقدّس الذي يتنزَّل من عالم الملكوت، وذلك لكي يقطع الطريق على أيّ مسعى لربطها بالمدنّس الذي يسكن عالم المكبوت. ولسوء الحظّ ..
 فإنّ معظم كاتبي مناقب الأشعري ودارسيه قد راحوا يرسّخون لتصوّر الأشعرية
- ابتداء من هذا التعالي- كنتاج لتوجيه نبويّ أو حتى إلهيّ،
وليس كنتاج لمكبوت نفسيّ.
 لكن الحقيقة أنّ قراءة وإعادة تركيب روايات انخلاع الأشعري عن الاعتزال وتأسيسه لطريقته الأشعرية الجديدة- وهى موضوع هذه القراءة- تتكشف عن عنف طافح أحاط بهذا الانخلاع على نحو بدا معه الأمر وكأنه يتجاوز مجرّد التوجيه النبويّ إلي انفجارات المكبوت النفسيّ.

وبالطبع فإنّه إذا كانت الأشعرية قد صدرت عن مثل هذه التجربة المضطربة، والمسكونة بهذا القدر الهائل من الشقاء والمرارة،
 فإنّه لن يكون غريباً أن تشقى بكلّ ما كان عليها أن تجابهه من ضروب الإرباك والتناقض، وإلى حدّ ما تكاد تنتهي إليه هذه القراءة من أنّها خطاب التناقض بجدارة.
وحتى مع صرف النظر عن ضروب الإرباك والتناقض التي هي نتاج ما يقوم وراء تبلور الأشعرية من الاضطراب والحصر النفسيّ،
 فإنّه يبقى أن تعالي الأشعري- أو دارسيه وكاتبي مناقبه بالأحرى-
بما يؤسّس لأصول اعتقاده، من حلكة المكبوت إلى قداسة ونورانية الملكوت،
 إنّما هو أحد تجلّيات اشتغال واحدة من أهمّ الآليات النفسية التي تقف وراء ظهور الإبداع بأشكاله المختلفة؛
وأعني آلية الإعلاء والتسامي التي كان لها أن تفتح الباب أمامه، للإفصاح عن المكبوت والتحرّر منه،
 ولكن ليس في شكل إبداع إنسانيّ هو- في الأغلب- ما تنحلُّ إليه،
 بحسب التحليل النفسيّ، عقدة المكبوت، بل في صورة إلهام ربّانيّ يتنزَّل من فيض عالم الملكوت.
وإذن فإنّه التسامي بالأشعرية إلى ما يقوم وراء الإنسانيّ ويتعدّاه؛
 على نحو تستمدّ منه قداسة وحصانة، ترتفع بهما فوق أيّ نقد أو مساءلة؛
وهو الضرب من الارتفاع الذي يستحيل فهمه خارج القصد الإنسانيّ إلى تأبيد الهيمنة وتثبيت الحضور.
ومن جهة أخرى، فإنّ اشتغال هذه الآلية النفسية لم يكن ليُخفي،
 بل لعلّه يؤكد، حقيقة أنّ ما يقوم وراء أصول الأشعرية،
 ليس شيئاً إلا المكبوت النفسيّ يتخفى وراء الإلهام النبويّ؛
وبما يعنيه ذلك كلّه من أنّ الشرط الإنسانيّ، لا سواه، هو ما يقف وراء انبثاق الأشعرية.


تم النشر في موقع الآوان بتاريخ 5 أغسطـــــــس 2009

الجمعة، يوليو 10، 2009

مركزيّة السياسيّ في علاقته بالدينيّ:

السياسي يحدّد بناء الأنطولوجيّ الأشعريّ
==========================



إذا كان الأشاعرة قد انتهوا
- كما تبدَّى في مقال سابق-
 إلى إفقار فعل الوعي على نحو كامل،
 وذلك حين اختزلوه في مجرد ضرب من "معرفة الاستدلال" التي هي أفقر أنواع المعرفة؛ لأنّ الوعي لا يعرف، في إطارها،
 إلا أن يتقيُّد بما يبدأ منه (وبحيث تصبح المعرفة تثبيتاً لما هو معروف أصلاً)،
 وليس "معرفة اكتشاف" لا يتقيَّد فيها الوعي إلا بما ينتهي إليه،
(وبحيث تصبح المعرفة إدراكاً للجديد غير المعروف)،
 فإنّ هذا البناء الأشعريّ الفقير إلى فعل الوعي قد تأدى إلى تصوّر العالم كمحض دليل أو علامة لا اعتبار لها في ذاتها؛
بل إنّ كامل معناها يُستفاد بأسره مما تؤشّر وتدلّ عليه من وجود مفارق يقوم وراءها.

 وبالطبع فإنّ هذا الحضور للعالم كمجرّد دليل وعلامة كان لا بدّ أن يحدّد طبيعة كلّ من تصوّره وبنائه في النسق الأشعريّ.
وأعنى- في كلمة واحدة- أنّه كان لزاماً أن يتبلور "تصوّر" العالم داخل هذا النسق بوصفه "كلّ موجود سوى الله، وهو أجسام محدودة متناهية المنقطعات،
وأعراض قائمة بها، كألوانها وهيئاتها، في تركيبها، وسائر صفاتها، وما شاهدنا منها واتصلت به حواسنا، وما غاب منها عن مدرك حواسنا،
هي (وغيرها مما ينحلّ إليه العالم من عناصر أولية) متساوية في ثبوت حكم الجواز لها، ولا شكل يُعاين أو يُفرض منا، صغر أو كبر، أو قرب أو بعد، أو غاب أو شهد،
 إلا والعقل قاضِ بأنّ تلك الأجسام المشكَّلة،
 لا يستحيل فرض تشكُّلها على هيئة أخرى.
وما سكن منها لم يحل العقل تحرّكه.
وما تحرّك منها لم يحل سكونه،
 وما صُودف مرتفعاً إلى منتهى سمك من الجوّ لم يبعد تقدير انخفاضه،
وما استدار على النطاق لم يبعد فرض تدواره (دورانه) نائياً عن مجراه،
 وترتب الكواكب على أشكالها يجوز على خلاف هيئاتها وأحوالها…
(وبما يعنى أنه لا شيء البتة إلا ويقبل الخرق والفوات والانقلاب على خلاف الهيئة والحال، وكلّ ذلك ليس من نفسه طبعاً، بل من غيره)
 لأنه إذ يتّضح بأدنى نظر استمرار مقتضى الجواز على العالم جميعه،
 وما ثبت جوازه استحال الحكم بوجوبه. فإذا لزم العالم حكم الجواز، استحال القضاء بقدمه وتقرّر أنّه: مفتقر إلى مقتضى اقتضاه على ما هو عليه.
 وإنما يستغنى عن المؤثر ما قضى العقل بوجوبه، فيستقلّ بوجوبه عن مقتضى يقتضيه.
 فأمّا ما ثبت جوازه وتعارضت فيه جهات الإمكان، فمن المحال ثبوته اتفاقا على جهة منها من غير مقتضى (أو مؤثر) .
 وهكذا فإنّ الخرق والفوات وإمكان انقلاب الهيئة والحال هو جوهر ما يمكن للعقل أن يقضي به على العالم ابتداء من ثبوت حكم الجواز لكلّ ما فيه.
ولأنّ حكم الجواز للعالم لازم عن تصوّره (أي العالم) هو ما سوى الله الذي يستقلّ وحده بوجوب الوجود وضرورته،
 فإنّ ذلك يعني أنّ نقطة البدء في تصوّر العالم، بحسب الأشاعرة،
إنما تنطلق من مغايرته مع الله، وعلى نحو يكون فيه تصوّره مجرّد فرع عن تصوّر الله. وبالطبع فإنّ ذلك يتجاوب مع حضور العالم المُشار إليه، في النسق الأشعريّ، كمجرد "دليل" هو- بدوره- فرع عن تصوّر "مدلول" يقوم سابقاً عليه.
والمُلاحظ أنّ هذا التصوّر الذي يؤسّس،
 لم يزل، لكيفية حضور العالم في الوعي المعاصر،
 كان لا بدّ أن يئول، بدوره، إلى بناء للعالم على نحو من الخواء والانفصال والتفتت والافتقار الكامل لما يتقوَّم به ذاتياً.
إذ الحقّ أنّه كان لزاماً أن ينحلّ بناء العالم، بحسب هذا التصوّر،
 إلى أجزاء تتناهى، لأنه
 " لا يمكن- حسب واحدِ من ورثة النسق الأشعري الكبار- إحاطة شاملة إلا بموجود متناه، ولا يمكن تحقق موجود متناه إلا إذا انقسم إلى جزء لا يتجزأ" .
 وإذا كانت تلك الأجزاء التي لا تتجزّأ هي اللبنة الأولى في بناء العالم،
 فإنّه كان لا بدّ من تصوّرها لا تعلُق بينها أو تداخل أو اتّصال،
 بل ليس بينها إلا التفتّت والانفصال الذي يسمح وحده بكلّ ما هو ممكن من الخرق والفوات وانقلاب الهيئة والحال.
وهنا يُشار إلى أنّه إذا كان القصد من ردّ العالم إلى تلك الأجزاء التي تتناهى ولا تتجزأ، هو التنزُّل بالعالم إلى وضعية التناهي ليقع في قبضة العلم المحيط والقدرة المطلقة لذات تقف خارجه،
 وبكيفية لا يقدر معها أبداً على الفعل خارج سياق هيمنتها الشاملة؛
 فإنّ تحقيق هذه الهيمنة على ما ينتهي إليه التناهي من جواهر مفردة
 (أو أجزاء لا تتجزأ) وأعراض يكون أولى لا محالة.
 وضمن سياق هذه الهيمنة، فإنّه كان لزاماً أن يتخلّى الجوهر عن حمولته الفلسفية التي تحيل إلى تقوّمه بذاته وفعله بطبعه،
 ليتزوَّد بحمولة مغايرة تناسب وضعه تحت الهيمنة.
 ومن هنا ذلك التصوّر للجوهر، في النسق الأشعريّ، لا باعتباره- على قول الفلاسفة- "ما قام بنفسه، فهو متقوّم بذاته ومتعيّن بماهيته"، بل باعتباره "ما يقبل العَرَض قبولاً يستحيل معه أن ينفكّ جوهر عن عَرَض" .
وهكذا فإنّ حقيقة الجوهر لا تُستفاد من عين ذاته، بل من كونه محلاً لغيره
 (أو العّرّض).
 وبالطبع فإنّ حضورهما معاً يُستفاد من "أنّ لهما مدخلية تامّة في الأدلّة (على الله)"، وذلك على قول من أدرك، لذلك، ضرورة
"التكلُّم عليهما، قبل التكلُّم على إثبات الصانع".

والغريب حقاً أنّ النسق قد استدعى هذا الترابط بين كلّ من الجوهر والعَرَض،
 لا من أجل صهرهما في هوية واحدة
" تكون فيها الأعراض- على قول أحد المعتزلة- من فعل الأجسام أو الجواهر طباعاً" ، بل بقصد إفساح المجال أمام تصدّعهما وانهيارهما معاً؛
 وذلك من حيث أنّ
"الأعراض هي التي لا يصح بقاؤها، وهى التي تعرض في الجواهر والأجسام وتبطل في ثاني حال وجودها" .
 وهكذا فإنها وجود إلى الانعدام والبطلان الذي كان لا بدّ أن يطال الجواهر أيضاً ابتداء من عدم قابليتها للانفكاك عنها؛
 وهو الضرب من الانعدام الذي راح يجد ما يؤسّسه في التصوّر الأشعريّ للزمان هو
"مجموع ذرات أو آنات (لا تتجزّأ)، يحدث الواحد منها بعد الأخر، ولا صلة بين الواحد والآخر" .
 وإذ الآن، هكذا، هو وحدة منفصلة وقائمة بذاتها،
ولا صلة البتة بينها، كوحدة، وبين ما يسبقها أو يلحقها من آنات،
 فإنّ ذلك يعنى أنّ هوّة من الفراغ أو العدم- حتى لو كانت وهمية وغير محسوسة-
لا بدّ أن تقوم بين كلّ آن وآخر من آنات هذا الزمان؛
 وهى هوّة يسقط العَرَض- ومعه الجوهر الذي لا ينفك عنه- ويتهاوى فيها،
 فيبطل وينعدم. وبالطبع فإنّه كان لازماً أن يدخل العدم ،هكذا، إلى بناء العالم من خلال هذا الزمان الذي تنفصل وتتقطع آناته.
ولعلّ هذه الإضافة للعدم إلى الزمان إنما ترتبط بالسعي إلى إظهار أثر القدر والمطلقة الذي "لا بدّ أن يكون وجودياً، حيث لا تتعلق القدرة بالعدم"، بل بمجرّد الإيجاد والإحداث.
وهو من نوع الإيجاد والإحداث المستمر الذي لا يتوقّف، ليس فقط لأنّ الإعدام المنسرب إلى بناء العالم من طبيعة بناء الزمان لا يتوقّف بدوره، بل- والأهمّ- لأنّه "يلزم استغناء العالم حال بقائه (بنفسه) عن الصانع" .
ومن هنا ضرورة "الخلق المستمر" للعالم حتى لا يستغني، حال بقائه بنفسه،
عن الصانع من جهة، وحتى لا ينقطع عن البقاء في حال عدم تجدّد أعراضه من جهة أخرى. ولأنّ هذا التجدد للأعراض (وهو أساس الخلق المستمر والمتجدد للعالم)
"هو للقادر المختار، فإنّه يخصص بمجرد إرادته كلّ واحد منها بوقته الذي خلقه فيه، وإن كان يمكن له خلقه قبل ذلك الوقت وبعده" ،
 فإنّ ذلك يعنى أنها محض الإرادة منفكة عن أيّ تحديدات أو سنن، وليس سواها، هي ما يفعل في العالم، لا عند واحدة من لحظاته فحسب، بل في كل آن من آنات زمانه. وفي كلمة واحدة، فإنّها "مطلق الإرادة"، وليس "قانون العقل والحكمة" هي ما يحدّد تصور العالم الأشعري وبنائه بحسب.
والحقّ أن هذا التصوّر للعالم متلاشياً في قبضة الإرادة لم يكن أبداً من مقتضيات العقيدة، بقدر ما كان من لوازم السياسة وضروراتها.
إذ الحقّ أنه ليس مما يتعارض أبداً ومقتضيات العقيدة أن يكون الله قد خلق العالم لمرة واحدةِ فقط، ثم أمدّه بقوانين ثابتة وسنن شاملة، تحفظ وجوده وتنظم حركته،
هي انعكاس لعلمه وحكمته، ومن دون أن يكون بقاء العالم موقوفاً على التدخل المباشر من الله في كلّ لحظة؛ وبكيفية يكون معها "نظام القانون" وليس "مطلق الإرادة" هو ما ينتظم علاقتهما ويحددها.
والملاحظ أنه وحتى حين اتّسع الخطاب لمفهوم "القانون"،
فإنّ ذلك لم يمنعه من نزع التأثير والفاعلية عن هذه القوانين ابتداء من أنه:
" لدى تدقيق النظر والبحث في الأدلة العقلية، وملاحظة عظيم قدرته سبحانه،
 وكمال علمه، وتدبر عجائب صنعه، ظهر لنا معشر أهل السنّة والجماعة،
 أنّ جميع تلك الأسباب والقوانين التي وضعها الله سبحانه،
 وجرت عادته في إحداث الحوادث عندها ما هي إلا عادية، بمعنى أن عادته تعالى جرت بإحداث الحوادث عندها لا بتأثيرها، وأن الزمن الذي خُص لتكوّنها وحدوثها ما هو إلا عاديّ أيضاً، وهو سبحانه وتعالى قادر على إحداث تلك الحوادث بدون تلك الأسباب والقوانين" .
 والحقّ إنّ هذا الإلغاء لفاعلية القوانين وتأثيرها إنما يرتبط، في العمق، بالإلحاح الدائم على تفعيل "مطلق الإرادة" على حساب "مقتضى العلم والحكمة".
 وإذ يرتبط هذا التفعيل للإرادة مطلقة من أيّ تحديد،
 وبما يترتّب على ذلك من نفي القانون، باستحالة أن تتحدّد الإرادة الإلهية بقانون العالم خارجها؛ فإنّ ذلك يتجاهل حقيقة أنّ "قانون العالم" هو انعكاس لعلم الذات الإلهية وحكمتها، وبما يعنى أنّ الإرادة تتحدّد بالعلم والحكمة، وليس أبداً بشيء خارجها.

 وإذن فالأمر لا يتعلق بتحديدات للذات من خارجها، بقدر ما هي الذات تتحدد بقانونها الخاص. ومن هنا أن هذا التصوّر الأشعري، الذي ينبني على أولوية "الإرادة"- مطلقة من كل تحديد- على "العلم والحكمة"، تفعل من خلالهما الذات ويتعيّن حضورها في العالم، لا يمكن أن يكون مما تفرضه طبيعة الذات وماهيتها، بل إنه يئول- فيما يبدو- إلى التشويش على ماهية هذه الذات؛ وأعني من حيث تصوّرها مُعرّاة من قانون ينتظم فعلها. والملاحظ أنّ الخطاب حين جوبه بما يئول إليه هذا الإطلاق للإرادة، على حساب العلم، من شناعات، أظهر من الارتباك ما بدا معه مضطراً إلى تصور العلم قائماً قبل الإرادة متقدّماً عليها.
فإذ ينبني إطلاق الإرادة- حسب الخطاب-
على لزوم حكم "الجواز" للعالم، وبما يترتّب عليه من نفي "الضرورة"،
 أو القطع- بلغة الخطاب-
 بأنّ:" الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سبباً، وبين ما يُعتقد مسبباً، ليس ضرورياً عندنا، بل كلّ شيئين، ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما، متضمّناً لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمّناً لنفي الآخر،
 فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الريّ والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، وهلمَّ جراَّ، إلى كلّ المشاهدات من المقترنات في الطبّ والنجوم والصناعات والحرف.
 فإنّ اقترانها (هو) لما سبق من تقدير الله سبحانه، يخلقها على التساوق لا لكونه ضرورياً في نفسه، غير قابل للفوت"، لأنّ القول بعكس ذلك يلزم عنه
" أنّ الله تعالى لا يفعل بالإرادة"،
 فإنّ الخطاب، وقد "أنكر لزوم المسببات عن أسبابها، وأضافها إلى إرادة مخترعها، ولم يكن للإرادة أيضاً منهج مخصوص معيَّن، بل أمكن تفننه وتنوّعه"،
 لم يجد إلا أن يفترض ضرباً من "العلم" المسبق المتعدّي للإرادة والسابق عليها، ليحول دون ارتكاب محالات شنيعة يئول إليها لزوم حكم الجواز للعالم.
وهكذا فإنّ شناعات يجرّ إليها إنكار الضرورة،
من قبيل أنّ" يُجوُّز كلّ واحد منّا، أن يكون بين يديه سباعٌ ضارية، ونيران مشتعلة، وجبال راسية، وأعداء مستعدة بالأسلحة لقتله، وهو لا يراها، لأنّ الله تعالى ليس يخلق الرؤية له.
 ومن وضع كتاباً في بيته، فليجوُّز أن يكون قد انقلب عند رجوعه إلى بيته، غلاماً أمرد عاقلاً متصرفاً، أو انقلب حيواناً، ولو ترك غلاماً في بيته، فليجوُّز انقلابه كلباً، أو ترك الرماد فليجوُّز مسكاً، وانقلاب الحجر ذهباً، والذهب حجراً، وإذا سئل عن شيء من هذا،
 فينبغي أن يقول:
 لا أدري ما في البيت الآن، وإنّما القدر الذي أعلمه أني تركت في البيت كتاباً،
ولعلّه الآن فرس، قد لطخ بيت الكتب ببوله وروثه،
 وإنّي تركت في البيت جرّة من الماء، ولعلها الآن انقلبت شجرة تفاح، فإنّ الله تعالى قادر على كلّ شيء ممكن، فلا بدّ من التردّد فيه"،
 قد دفعت الخطاب إلى التراجع تحت وطأة ضغوطها العنيدة إلى أنه...
" لا مانع من أن تكون هذه الأشياء ممكنة في مقدورات الله تعالى، ويكون قد جرى في سابق علمه أنه لا يفعلها في بعض (وبالأحرى معظم) الأوقات، ويخلق لنا العلم بأنه ليس يفعلها في تلك الأوقات".
 وهكذا راح الخطاب ينصاع لما سعى إلى الإفلات منه دوماً؛
 وأعنى تصوّر الإرادة تتحدّد بضرب من العلم المسبق
- الذي يستحيل العالم من دونه إلى ساحة للمحال والفوضى-
 بعدم حصول هذه المحالات إلا في أوقات مخصوصة.
والحقّ أنّ رضوخ الخطاب لهذه الضغوط والإرباكات التي عرضت له،
 ضمن مجال اشتغاله الديني، نتيجة إصراره على إطلاق الإرادة مُعرّاة،
 ولو من مجرّد "منهج مخصوص معيَّن" تفعل بحسبه، ليكشف عن كون الباعث الأعمق لهذا الإطلاق، بكلّ ما يترتب عليه من المحال والفوضى، إنما يقوم خارج حدود مجال "الديني"، الذي لم يكن لشيء أن يحضر فاعلاً خارج حدوده- بل داخلها، وحتى في قلبها، وهو الأهمّ- إلا "السياسي".
إذ الحقّ أنّ تحليلاً لمسار العلاقة بين الديني والسياسي في الإسلام يكاد يتكشَّف عن مركزية الدور الذي لعبه السياسي في مسار هذه العلاقة؛
وإلى حدّ تبلور الدينيّ في قلبه. ولعلّ هذا المسار يتمايز كلياً عن ذلك الذي اتخذته العلاقة نفسها في المسيحية؛
 وتلك قصّة أخرى.


تم النشر في موقع الآوان بتاريخ 10 يوليــــــــــــو 2009

الجمعة، مايو 29، 2009

كيف قاربت النخبة العربية مفهوم العقلانية الحديثة؟



إذا كانت النخبة العربية
 قد راحت تغطى على سعى دولتها البائسة التعيسة إلى التكيّف مع العجز،
 بخطاب عن العقلانية والواقعية،
لا يجاوز اشتغال العقل داخله حدود القبول والتسليم بما هو قائم،
أو حتى الاستسلام له،
ولا يتعدى حضور الواقع، ضمنه، حدود أنه مجرد كيان مصمت
 لا ينطوي في جوفه على أي إمكانات أو ممكنات تقوم وراء ما يظهر على سطحه الفقير؛
 فإن بؤس هذا الخطاب وابتذاله لا يتأتى مما يهبه لمفاهيمه من مضامين ليست فقيرة وجدباء فقط،
 بل وتمثل انحرافا كاملاً عن الروح الحقة التي تحملها هذه المفاهيم في سياق الحداثة؛ التي تتباهي هذه النخبة بحمل بيارقها.
 وإذ يتأكد هذا الانحراف عبر تحليل لتلك المفاهيم في خطاب الحداثة،
 فإن نقطة البدء في هذا التحليل لابد أن تنطلق من ملاحظة التلازم الكامل بين كل من العقل والواقع والتاريخ في هذا الخطاب،
وإلى حد أن الواحد منهما يكاد يحدد الآخر، ويتحدد به على نحو مطلق.
 ولعل ذلك ما تتكشَّف عنه حقيقة أنه إذا كانت الحداثة قد استقرت على تصور الواقع كصيرورة، وذلك انطلاقا من كونه مجرد نتاج لوعى الإنسان وفعله في العالم،
 واللذان لا يمكن تصورهما أبدا خارج دائرة التجاوز والتخطي؛
 فإن ذلك قد فرض تصوراً للعقل هو قوة نفي ورفض لكل وضع قائم يتصوره أصحابه كاملاً ونهائياً؛
 وبما يعنيه ذلك من دخول التاريخ كمكون جوهري في بناء كل من العقل والعقلانية. 

وبالطبع فإن هذا التصور للعقل يتجاوب تماماً مع تصور كل من الواقع كصيرورة، والتاريخ كتجاوز؛ وأعنى من حيث تتجاوب قوة النفي التي ينطوي عليها بناء العقل مع الحركية والصيرورة التي يقوم عليها بناء كل من الواقع والتاريخ.
والحق أن هذا التصور للعقلانية
 يكاد أن يجعل منها فعل تحرر في العمق. فالتحرر هو، في جوهره، فعل نفي ورفض؛ وذلك انطلاقاً من أنه يبدأ كممارسة إنسانية لا تتوقف،
 في كافة مناحي النشاط الإنساني،
من قول "لا" النافية لوضع قائم يُراد من البشر أن يخضعوا لسطوته؛
 وعلى نحو لا تمايز فيه بين "لا" ينطق بها الوعي،
 أو ينطق بها الوعييى بمثل ما هو الحال في الإسلام الذي أشعل ثورته في العالم من "لا" السالبة التي يبتدئ المرء فعل انتسابه إليه من الإقرار بها
(وأعنى "لا إله إلا الله").
فالتحرر هو جوهر ما يتغياه كل من الوعييي والوعي؛
اللذان يكمل الواحد منهما، أو الوعي، عمل الآخر، وهو الوعييى، والعكس أيضاً. وابتداء من كونهما فعلى نفي ورفض،
 فإنه يمكن المصير إلى جوهرية التماهي بين العقلانية والتحرر؛ وإلى حد إمكان اعتبار العقلانية هي فعل تحرر في الجوهر.

والحق أن العقلانية قد انبثقت في سياق الحداثة الأوروبية كممارسة تحررية تتصف بالشمول والكلية؛
 وذلك من حيث لم تقف عند حدود "الإنسان" الذي أدرك الوعي أن سعياً إلى تحريره وتأكيد مركزية حضوره وسلطانه في العالم،
 لا يمكن أن يتحقق إلا عبر توسيع مجال التحرر ليشمل أيضاً كل من الطبيعة والمجتمع والتاريخ التي كان عليها أن تتحرر جميعاً- في موازاة تحرر الإنسان- من قبضة الوهم وسلطان الخرافة.
 وهكذا فإن الوعي حين كان يحرر نفسه، كان يحرر غيره
 (كالطبيعة والمجتمع والتاريخ)؛
وأعنى من حيث راح يرتفع بها إلى مستوى المعقولية، وذلك عبر الكشف عن نظام العقل الكامن فيها، والذي بدا أنها جميعاً إنما تنبني بحسبه.
ولعل شمول فعل التحرر على هذا النحو، يكشف عن الطبيعة الجدلية، وغير الصورية، لتلك العقلانية التي بدا أنها لا تنبني على تصور للعقل هو بمثابة جوهر أو أقنوم جامد بحسب ما تصوره القدماء، بل على اعتباره ممارسة مفتوحة لا تكف عن الاغتناء والنماء؛ وبما يعنيه ذلك من تاريخيتها.
 فالعقل في الحداثة هو مشروع مفتوح وتكوين، وليس جوهراً أو معطى جاهز ومكتمل.
لكن ثمة معضلة حقة تجابه هذه العقلانية.
 وهي معضلة تتأتى من أن هناك في بنائها العميق ما تنطوي عليه،
ولكنها- في الآن نفسه- تناضل ضده،
 مما يتعارض مع هذا الجوهر التحرري القائم على النفي الذي لا يتوقف.
إنه ما تنطوي عليه من السعي إلى "الهيمنة"؛
الذي يستلزم تثبيتاً لوضع ما على نحو يعطل اشتغال قوة النفي والتخطي الدائم. 

ويتأتى هذا السعي إلى الهيمنة من أن نفي "وضع ما" ورفعه،
إنما يؤول إلى فتح الباب أمام انبثاق "وضع بديل"؛ وذلك ابتداء مما أكده هيجل من "إن كل سلب أو نفي هو- أيضاً- تعيين ووضع لبديل في العمق".
 وبالرغم من أن هذا الوضع البديل لابد أن يكون- بحسب منطق العقلانية-
 موضوعاً للنفي والرفع،
 فإنه قد يحدث أحياناً أن تسعى قوى بعينها إلى تثبيت أوضاع ما،
 وبالطبع مع ضرورة الوعي بأن مثل هذا السعي يمثل انحرافاً عن روح ومنطق العقلانية، التي تبادر، هي نفسها، بالنضال ضده.
وعلى أي الأحوال فإنه يبقى أن العقلانية قد تبلورت، في سياق الحداثة،
 مسكونة بالتوتر بين قوة النفي من جهة، وبين السعي إلى الهيمنة من جهة أخرى. وغنيُّ عن البيان أن هذا التوتر القائم في قلبها،
إنما يرتبط بحقيقة أن العقلانية، وكأي مشروع ينبني في قلب عملية تاريخية،
لابد أن ينطوي على جوانب متعارضة، أو حتى متناقضة.
 لكن المهم هنا أنها تسعى إلى رفع ما يتعارض من هذه الجوانب التي تنطوي عليها، مع جوهر اشتغالها ومنطقها التحرّري.

وهكذا فإن معضلة العقلانية هي نتاج كونها مشروع مفتوح قيد الاكتمال،
 وليست جوهراً أو معطى مكتمل
 (وأعنى بذلك تصورها كبناء صوري ينتصب أولانياً، وكأدنى ما يكون إلى المعيار الذي يتميز به ما هو عقلي من اللاعقلي).
 فهذا السعي إلى الاكتمال لا يتحقق في فضاء شفاف خالٍ من أي معاندة،
بل يجرى في مواجهة عوائق تجد معها العقلانية نفسها مشتبكة مع بعض ما تكون، هي نفسها، قد وضعته في لحظة سابقة ما،
ثم تناضل ضده بعد ذلك، ومن دون أن ينطوي ذلك على أي تناقض
 لأن العقلانية هي مشروع تاريخي يحقق اكتماله عبر تجاوزها لذاتها،
 وليست جوهراً معطى أولانياً يمثل الخروج على ما يفرضه تناقضاً؛
 وبما يعنيه ذلك من أنها ليست عقلانية تماهي مع الذات، بل مجاوزة لها بالأحرى. فالعقلانية كجوهر:
 هي فقط ما تفرض وتضع أولانياً- وككل جوهر بالطبع- ما يُعد الخروج عنه تناقضاً، ولكنها كمشروع لا تفرض،
 بل تضع ما يصبح رفعه، بمثابة نوع من التجاوز، وليس التناقض.
 ومن هنا إمكان المصير إلى أنه إذا كانت تاريخية العقلانية هي أصل معضلتها،
 فإنها تكون باب الانفكاك من أحابيلها كذلك؛
 وأعنى من حيث لا يكون منها مجرد الوضع والإنشاء فحسب،
 بل والدفع إلى التجاوز أيضاً.
 فإذ العقل- والعقلانية بالتالي- ليس معطىً مطلقاً،
 بل هو تكوين تاريخي، فإن ذلك يعنى أن ما يضعه العقل، من معارف وفلسفات وأنظمة ومؤسسات، ليس مطلقاً ونهائياً بدوره.
 بل إنه يكون تكويناً تاريخياً مشروطاً بجملة سياقات يفقد معقوليته خارجها؛
 وبما يعنيه ذلك من أن العقل ذاته سرعان ما يكتشف حدود ما كان قد وضعه في لحظة ما، بل ويدرك ما ينطوي عليه هذا الذي كان قد وضعه هو نفسه،
 من جوانب تفقد مع التطور معقوليتها،
 ويتجاوزها إلى وضع جديد يكون هو الأكثر معقولية من وضع سابق عليه،
 وليس أبداً على نحو مطلق.
 إذ العقل إنما ينعكس على نفسه، ويتجاوز ذاته على نحو دائم.
 ولهذا فإن كل ما يضعه هذا العقل في لحظة ما باعتباره الأكثر معقولية مما كان سابقاً عليه، لابد أن يفقد بعض هذه المعقولية، أو حتى كلها،
في مسار التطور الذي لا يكف فيه العقل عن تجاوز نفسه أبداً.
 إن ذلك يعنى أن اللاعقل يدخل في تركيب العقلانية،
ولا يمكن اعتباره مجرد نقص يقوم خارجها؛ وعلى النحو الذي يؤكده ما أشار إليه هيجل من أن الخطأ هو جزء من تركيب الحقيقة.
 وإذ يحيل ذلك إلى استحالة مقاربة العقلانية كنموذج أو جوهر جاهز قابل للاستنساخ في غير سياقه الذي انبثق فيه؛
 وبما يعنيه ذلك من ضرورة بناء العقلانية في قلب عملية تاريخية لا تكف فيها عن النضال ضد واقعها، ومن أجله، بل وضد نفسها أيضاً،
 فإن ذلك يكشف عن بؤس المقاربة العربية للعقلانية الحديثة؛ وأعن من حيث تنبني (هذه المقاربة) على تصورها كجوهر ثابت يمكن نقله،
 وليس كمشروع تاريخي لابد من بنائه في قلب معركة تدور رحاها على أرض واقعها الخاص.

ولعل أهم ما يؤول إليه هذا الإنبناء،
 الذي يكون فيه التاريخ جزءاً من صميم بناء العقلانية وماهيتها،
أن تثبيت ما يضعه العقل في لحظة ما على أنه وضع مطلق ونهائي،
 وينبغي أن يخضع له البشر،
هو في جوهره ممارسة لا عقلانية، لأنها تستمسك بما لابد أن يتجاوزه العقل،
وتطمح إلى تثبيته كوضع نهائي ليس له أبداً ما بعد.
وإذ يبدو وكأن هذه الممارسة تنحاز لمبدأ الهيمنة على حساب قوة النفي التي تكاد تتحدد بها العقلانية الحديثة؛
 فإنها وبقدر ما تفارق حدود العقلانية،
فإنما لتضع نفسها- وبالقدر ذاته- في قلب الإيديولوجيا بما هي وعى زائف وغير مطابق لمنطق كل من العقل والواقع.
 ومن هنا ما يمكن للوعي أن يمسك به من أن ما عُرف بالعقلانية الوضعية؛
التي انطوت على التسليم بما هو قائم باعتباره واقعة نهائية لا سبيل إلى مناطحتها وإزاحتها، لم تكن في حقيقتها أكثر من قناع إيديولوجى تحارب به التيارات المحافظة، في الفكر الأوروبي، معركتها، أو- بالأحرى- معركة الرأسمالية المتوحشة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وذلك في مواجهة قوى النفي والثورة التي حافظت على وفائها لجوهر العقلانية التحررى.

فلقد أدركت الرأسمالية أن الأساس الفلسفي الذي أنجزت بفضله إنتصارها على الإقطاع، والقائم على تصور العقل كقوة تحرير ورفض،
 والواقع كصيرورة، والتاريخ كتجاوز، لابد أن يؤول إلى تقويض مسعاها إلى تثبيت نفسها كوضع نهائي لا يُقاوم ولا يقبل التخطي والتجاوز،
فراحت تتوسل بالوضعية لتهبها أساساً فلسفياً تفلت به من المصير
 الذي تراه متربصاً بها.
ومن هنا إن الوضعية قد يسَّرت، على قول ماركيوز،
 استسلام الفكر لكل ما هو موجود، ولكل ما لديه القدرة على الاستمرار في التجربة؛ حتى لقد ذكر مؤسس الوضعية صراحة أن لفظ "الوضعي" الذي كان يصف به فلسفته يتضمن تعليم الناس أن يتخذوا موقفاً إيجابياً (لا نقدياً) من الوضع السائد.
 فالفلسفة الوضعية
 تستهدف تأكيد النظام القائم ضد أولئك الذين أكدوا الحاجة إلى نفيه؛
وذلك عبر "تعليم الناس أن نظامهم الاجتماعي يندرج تحت قوانين أزلية لا يجوز لأحد أن يخالفها، وإلا كان مستحقاً للعقاب".
وتبعاً لذلك فإن ماركيوز لم يتورع عن القطع بأنها مجرد
"دفاع إيديولوجى عن مجتمع الطبقة الوسطى (المهيمن)، كما أنها تحمل بذور تبرير فلسفي للنزعة التسلطية"
وإلى حد أنه
 "يندر- على قوله- أن نجد في الماضي فلسفة (كالوضعية) تطالب بمثل هذا الإلحاح، وبمثل هذه الصراحة، بأن تُستخدم في حفظ السلطة القائمة وحماية المصالح الموجودة من كل هجوم ثوري".
 بل إن الأمر قد تجاوز مجرد ذلك إلى تحولها إلى ما يشبه اللاهوت الجامد؛
ومن هنا ما جرى المصير إليه من أن
"المذهب الوضعي هو المذهب الكاثوليكي بدون المسيحية"
 (وهنا يُشار إلى أنه قد جرى بالفعل التبشير بها كديانة جديدة).
 وإذ تفقد الوضعية، هكذا، جوهر ما يميز أي عقلانية حقة، فإنها تصبح مجرد إيديولوجيا، لا تملك من العقلانية إلا مجرد زخارفها الصورية.
 وللمفارقة فإنها قد أُجبرت، حين أخذت موقعها في عالم الإيديولوجيا،
 على أن تحمل سمات "المرحلة اللاهوتية"، التي تقول هذه الوضعية نفسها أنها قد أحالتها إلى مجرد ذكرى غابرة في تاريخ الإنسانية.

وهكذا فإن العقلاني العربي الذي يستعير،
 في دفاعه عن دولة البؤس الراهنة، تلك الوضعية، لا يفعل إلا أن يستعير مجرد إيديولوجيا، ذات سمات لاهوتية،
 استخدمتها القوى المحافظة لتغطية مواقعها (الإيديولوجية) في مواجهة الروح الحقة للعقلانية،
 وهو حتى في هذه الاستعارة يظل وفياً لماضويته الأصيلة التي جعلته يتكأ على شيء من مخلفات القرن التاسع عشر. 
والحق أن الأمر لا يقف عند حد الوفاء للماضوية،
 بل ويتجاوز إلى ما يبدو من أن استعارته لتلك العقلانية الوضعية البائسة،
 إنما يتجاوب مع حقيقة الدور "التسلطي"، وليس "التحرّري"،
 لما يُقال أنه العقلانية العربية؛ وذلك ابتداء من تحيزاتها السوسيوسياسية المضمرة.
 فإذ يرتبط الدور التحرري للعقلانية، بعقلانية تخوض معركة ضد المجتمع،
ومن أجله؛
 أعنى من أجل تحريره من قبضة الخرافة التي يجرى استعباده باسمها،
فإن العقلانية العربية لم تزل تحارب معركتها التعيسة ضد المجتمع،
 ولكن لا من أجل تحريره، بل من أجل تثبيت مواقع نخبة مهيمنة لا تقبل التخلي عن امتيازاتها السياسية والاجتماعية،
 بل وتعمل على تحصينها من خلال ما ترفعه من شعارات العقلانية المبتذلة.
وبالطبع فإنها لا يمكن أن تكون معركة العقلانية الحقة، بقدر ما هي - وبامتياز- معركة الإيديولوجيا الرثة.
والحق أن تحليلاً سوسيوسياسياً للعقلانية العربية،
إنما يكشف عن نخبويتها الضيقة من جهة، وبما يترتب على ذلك من عزلتها وهشاشتها التي كان لابد أن تتأدى بها- وكما هو حاصل بالفعل- إلى التبعية الكاملة للدولة من جهة أخرى. 
ولعل ذلك يرتبط بأن خطاب الحداثة العربي قد تبلور،
 ومنذ البدء، بوصفه خطاب دولة، لا خطاب مجتمع.

وهكذا فإنه وحتى إذا راح البعض يجادل بأن أصداء تلك الوضعية تتردد
(كعلامة على استعادتها لعافيتها)
في أجواء اللحظة الراهنة من خلال مفهوم "النهاية" التي راحت تطال كل شيء ابتداءً من التاريخ، وحتى الإنسان والعقل والمثقف والإيديولوجيا،
فإنه يبقى أن الدور الوظيفي الذي يلعبه هذا المفهوم في تثبيت دعائم إيديولوجيا الليبرالية الجديدة التي يتعرض العالم الآن للقصف- تحت أعلامها الزاهية-
من غلاة اليمين الأمريكي المحافظ، يؤول إلى أنه ليس من جديد يطال خطاب العقلاني العربي التعيس حين يثرثر عن نهاية التاريخ،
 بينما لم يبدأ التاريخ بالنسبة له بعد.
وأعنى من حيث أنه يظل، واعياً أو غير واع، متعبداً في محراب الإيديولوجيا؛
 وهو الذي لم يكف- للمفارقة- عن الثرثرة بأن عصر هذه الإيديوجيا قد انتهى إلى غير رجعة، وأنه قد عرف أخيراً فضائل العقلانية وحكمتها،
بعد أن غابت طويلاً عن عالمه؛ الذي كان يرزح تحت وطأة الطيش والرطانة والديماغوجية.
وهنا تنبثق المفارقة زاعقة من حقيقة أن من يتصورون أنفسهم يحاربون معركة العقلانية في مواجهة الإيديولوجيا التي يتحدثون عن مسؤوليتها عن تخلف بلدانهم، لا يفعلون حقاً إلا أن يُحصِّنوا مواقع الإيديولوجيا التي ينحازون إليها؛
والتي اختلفت عن سابقتها المرذولة، بأن أصبحت إيديولوجيا للسكون والرخاوة واللذة والإشباع؛
وهي الإيديولوجيا الناعمة التي تليق حقاً بنخبة تدخل طور الترف،
 المؤذن- بحسب التحليل الخلدوني البارع- بخراب العمران وانهيار الدولة.
ولسوء الحظ ..
فإن الأمر لا يقف عند حدود هذا الوجه الإيديولوجي الفاضح لتلك العقلانية العربية (وهو الوجه الذي يفضح لا علميتها، بل وحتى- للمفارقة- لا عقلانيتها)،
 بل ويتعداه إلى ما تنطوي عليه من ضروب الانحياز التي يستحيل إخفاءها والتغطية عليها.
 فإن ثمة ما يمكن اعتباره ضربٌ من الانحياز الإعلائي الذي يجرى فيه تسييد الغرب على حساب المجتمعات الوطنية التي تصبح موضوعاً لضرب من الانحياز الهجائي أو الإنحطاطي.
 فالغرب، في خطاب هذه العقلانية، هو نهاية التطور،
وذروة العقلانية والكمال؛ وبحيث يستحيل تماماً تصور أن يقوم خارجه ما هو أكمل منه أو أكثر رقياً.
 وليس من شك في أن هذا التعالي بالغرب إلى فضاء المطلق غير القابل للمجاوزة، كان لابد أن يتأدى إلى لزوم انصياع الآخرين لكل ما يفرضه،
بوصفه وضعاً نهائياً لا يقبل السؤال أو المناقشة.
 ومن هنا أن ما تنبنى عليه العقلانية العربية البائسة من التسليم بما هو قائم، يكاد هو نفسه أن ينبنى على إقرار النخبة العربية بوضع الغرب السيادي،
 وغير القابل للتحدي.
وضمن سياق هذا الانحياز للغرب،
 فإنه يبدو وكأن ثمة الانحياز داخل هذا الغرب لما يبدو وكأنها قوى الهيمنة في مواجهة قوى التغيير والثورة.
 فقد بدا أن دعاة العقلانية العرب لا يكتفون بالانحياز للعقلانية الأوروبية كنموذج جاهز لابد من التفكير به،
 بل وينحازون داخل هذه العقلانية لواحد فقط من المبدأين اللذين يحددان جوهر بنائها؛
وأعنى الانحياز لما يفرضه مبدأ الهيمنة على حساب ما يضعه مبدأ السلب.
 لكنه يلزم التنويه بأن هذا الذي ينحازون إليه من السعي إلى تثبيت وضع قائم وترسيخه، مما يفرضه مبدأ الهيمنة،
 لا يتكشَّف عندهم عن السعي إلى تثبيت وضع الهيمنة لأنفسهم، لأنهم لا يعرفون مثل هذا الوضع إلا من موقع المفعول به،
 وليس من موقع الفاعل أبداً،
 بل يكشف عن استسلامهم لوضع الخضوع والتكيّف مع العجز؛ وبما يمكن أن يعنيه ذلك من أن المنطق الذي تفكر بحسب مبادئه هذه النخبة، كان لابد أن ينتهي بها إلى الانحياز ضد مجتمعاتها في النهاية.

وبالفعل فإن تلك المجتمعات هي ، في خطاب هذه النخبة،
موضوع دائم للهجاء والتبكيت؛
وأعنى من حيث لا تظهر تلك المجتمعات في الخطاب إلا كفضاء لتوالد الوهم والطيش والخرافة واللاعقلانية وغياب المنطق.
إنها- في كلمة واحدة- مجتمعات الانفعال والهوى،
 في مقابل ما يتحلى به السادة في الغرب من المنطق والحكمة والواقعية.
ولسوء الحظ فإنهم كانوا هنا أيضاً يستعيدون من مخلفات القرن التاسع عشر،
ولكن ليس وضعيته هذه المرة،
بل مفردات القاموس الهجائي والانحطاطي التي بلورها خطاب الاستشراق ضد المجتمعات الشرقية على العموم.
 وحين يدرك المرء أن هذا القاموس الهجائي قد ارتبط بتبرير واقع الهيمنة الاستعمارية على تلك المجتمعات،
 فإن انهماك نخبة البؤس الراهنة في الثرثرة بمفردات هذا القاموس إنما يحيل إلى تحولٍ في موقفها من مجرد الانحياز إلى عقلانية الغرب،
 إلى الانخراط في مشروع تبرير هيمنته؛ وهو العمل الذي يبدو،
 من فرط حماس النخبة في أدائه، أنها لطالما انتظرته وحلمت به طويلاً.
 ولعلها أرادته لما يتيحه لها في سياق الخيبة والهزيمة الذي لا تعرف سواه
- وعبر ما يهبها من إمكانية التناهي مع الغرب الذي لا يعرف الهزائم-
 فرصة أن تتذوق يوماً طعم الانتصار،
حتى ولو كان انتصارا على مجتمعاتها بالذات.

 والملاحظ أن ثمة ما يبرر أن تكون هذه المجتمعات موضوعاً للانتقام والثأر؛
 وأعنى بسبب سعيها إلى الانفلات من قبضة هذه النخبة ودولتها التي يبدو أنها تستشعر الآن،
وأكثر من أي وقت مضى، أنها قد بلغت نهايتها حقاً،
 وآن لها أن تصبح- ومعها نخبتها الرثّة- من مخلفات ماضٍ لن يكون إلا موضوعاً لازدراء أجيال العرب الآتية، الذين يبدو أنهم لن يرثوا منهما؛
 أعنى من الدولة والنخبة، إلا محض التعاسة والخيبة.


تم النشر في موقع الأوان بتاريخ 29 مايـــــــــــــو 2009

الأربعاء، مايو 13، 2009

عن البناء الأشعري الفقير لفعل الوعي



إذا كان قد بدا أن سعياً للإنفلات من سطوة الأشعرية
 هو مما يستحيل تماماً إلا عبر مقاربة لها،
 تتجاوز مضمونها ومحتواها
 (وقد بدا أن نقدهما أو حتى تقويضهما لا يمنع من إعادة إنتاجها)
إلى صميم بنيتها ونظامها الأعمق،
 فإن نقطة البدء في هذه المقاربة لابد أن تنطلق من ضرورة الإحاطة ببناء فعل الوعي داخلها (أي الأشعرية)،
 ليس فقط لأن بناء الوعي هو نقطة البدء في بناء النظام الأشعري بأسره،
 بل ولأن طبيعة تصوره قد انعكست بقوة على بناء معظم العناصر الجزئية التي تشكل مجمل المنظومة الأشعرية.
 ولعل أول ما يمكن ملاحظته هنا أن التصور الأشعري لمفهوم الوعي يكاد أن يقف به عند حدود كونه مجرد نوع من الاستدلال الفقير الذي يقتصر عمل الوعي ضمنه على مجرد " الإحاطة بوجه تعلق الدليل بمدلوله".
فإذ العلم (الذي جرى التنويه بأن المقصود به طرائق وآليات إنتاجه؛ أو فعل الوعي، وليس أبداً مضمونه)
 ينقسم- حسب الأشاعرة- إلى علم ضروري وآخر نظري،
 فإن تعريفهم للعلم الضروري بأنه :
" علم يلزم نفس المخلوق لزوماً لا يمكنه معه الخروج عنه، ولا الانفكاك منه، ولا يتهيأ له الشك في متعلقه ولا الارتياب به.
 وحقيقة وصفه بذلك في اللغة أنه مما أُكره العالِم به على وجوده لأن الاضطرار في اللغة هو الحمل والإكراه والإلجاء"،

يكاد يخرج بهذا الضرب من العلم عن حدود مفهوم الوعي من حيث هو نشاط وفاعلية للعقل
 (يمارس خلالها ضروباً من التحليل والتركيب والتجريد والتصنيف والمقارنة وغيرها)،
 بينما الإدراك يكون- بحسب هذا التصور للعلم الضروري-
معزولاً عن أي فعالية إنسانية ابتداء من أنه "مما أُكره العالِم به على وجوده"،
ومن غير أن يمكنه "الخروج عنه، أو الشك في متعلقه".
وفي المقابل،
 فإن تعريف العلم النظري بأنه " ما احتيج في حصوله إلى الفكر والروية، وكان طريقه النظر والحجة، ومن حكمه جواز الرجوع عنه والشك في متعلقه"،
 يكاد يطابقه مع مفهوم الوعي على نحو كامل؛
 وأعنى من حيث يبدو نشاطاً للعقل تتجلى فيه فعاليته عبر الفكر والروية والنظر والشك.
 ومن هنا أن حدود هذا العلم النظري- وليس الضروري-
 تمثل المجال لأي سعى إلى اكتناه طبيعة فعل الوعي وحدوده في النظام الأشعري.
 فإذ يخرج العلم الضروري عن كونه مقدوراً للإنسان
لأنه" يلزم نفسه لزوماً لا انفكاك منه"،
 وبالتالي فإنه ليس ثمة من فاعلية للإنسان ضمنه أبداً؛
 فإن للإنسان- في إطار العلم النظري- "قدرة محدثة عليه".
 وبالطبع فإن هذه القدرة، أياً كان مُحدثها، هي السمة الجوهرية للوعي من حيث هو نشاط وفاعلية للإنسان.
 لكنه يبقى أن ما صارت إليه الأشعرية من اختزال هذا العلم النظري في مجرد الاستدلال -انطلاقا من "أن كل ما عدا (العلم الضروري) هو علم استدلال"-
 كان لابد أن يئول إلى إفقار مفهوم الوعي، أو حتى إهداره، على نحو كامل.

فإذ الاستدلال "هو نظر (المستدل) في الدليل وطلبه به علم ما غاب عنه"،
فإن ما صاروا إليه من
"إن الدليل هو ما أمكن أن يُتوصَل بصحيح النظر فيه إلى ما لا يُعلم باضطرار"
، إنما يكشف عن تمييز أشعري في "النظر" بين صحيح وفاسد؛
 وهو التمييز الكاشف، بدوره، عن أن النظر ليس أبداً فاعلية حرة، بقدر ما هو فاعلية مقيدة ومشروطة بشيء خارجها.
إذ الحق أن معيار صحة النظر أو فساده لا يقوم داخله،
أو يرجع إلى علة في ذاته، بقدر ما يقوم هذا المعيار خارجه؛
وأعنى فيما ينتجه ويفضى إليه.
 فإذ مضى "الجويني" إلى أن
"أول ما يجب على العاقل (هو) القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم"،
 فإنه كان يحدد ماهية النظر الصحيح بأنه المفضي إلى العلم بخلق العالم وحدوثه؛ الأمر الذي يلزم عنه أن النظر إذا أفضى إلى القول بما يُضاد خلق العالم وحدوثه يكون نظراً فاسداً لا محالة،
 وعلى نحو يكون فيه ما يئول إليه النظر علماً بحدوث العالم أو قولاً بقِدَمه هو الأصل في صحته أو فساده؛ وبما يعنى أن القيمة (صحةً أو فساداً) تنضاف إلى النظر بما هو فعل معرفي من شيء خارجه.

وأعنى من نوع المضمون المعرفي
الذي يُفترض أن هذا الفعل يثبته وينتهي إليه؛ حيث المضمون الذي يئول إليه النظر يبقى خارجياً بالنسبة له (أي النظر) كفعل.
 وإذا كان ذلك مما يتفق مع حقيقة أن "القيمة" تُضاف أبداً من الخارج في النسق الأشعري،
 لأن شيئاً في هذا النسق لا يتعيَّن بذاته أو يتقوَّم بنفسه؛
 فإنه يبقى أن ذلك الشيء من الخارج الذي يحدد ماهية النظر أو فعل الوعي،
 ويضفي عليه نوع قيمته لا يكون، هو نفسه، نتاجاً للوعي في الحقيقة،
 بل إنه يبدو- حسب الأشاعرة- مرتبطاً بما يسبق الوعي ويتخطاه،
بل ويفرض نفسه عليه موجهاً ومحدداً لكيفية اشتغاله.

إن ذلك يعنى أن الوعي لا يجد نفسه، فحسب، في مواجهة "دليل" لا يملك بإزائه إمكانية أن يستدل منه على نحو غير مشروط، بل إنه يجد نفسه أيضاً في مواجهة "المدلول" الذي ليس من عمل للوعي بإزائه إلا العثور على وجه الدلالة عليه من الدليل؛
 حيث "النظر الصحيح- على قول الجويني- هو كل ما يؤدى إلى الوجه الذي منه يدل الدليل".
والغريب حقاً أن إمكانية العثور على هذا الوجه (الذي يدل منه الدليل على المدلول)
لا تقوم- حسب الأشاعرة- إلا مع العلم المسبق بالمدلول؛
 لأنه "لما كان للدليل وجه يقتضى العلم، لم يُتصور العثور عليه إلا مع العلم بالمدلول"؛
 ويعنى بعبارة أصرح أنه "لا يُتصور ثبوت الدليل من غير ثبوت المدلول (أولاً)". وبالطبع فإن مثل هذا العلم المسبق أو القبلي Priori
 بالمدلول (الذي يوجه الوعي للعثور على الوجه الذي يدل منه الدليل عليه)
 لا يمكن أن يكون من الوعي،
 بل من شيء يتجاوزه ويتخطاه ويفرض نفسه عليه.
 وليس من شيء أبداً يسبق الوعي ويتخطاه- حسب الأشاعرة- إلا السمع أو النقل. 

وإذن فإنه العلم من مصدر مفارق يفرض نفسه على الوعي ويوجهه كلياً.
ولعل هذه الهيمنة على النظر أو الوعي تبلغ مداها بما جرى المصير إليه من أن "النظر الموصل إلى المعارف واجب، ومدرك وجوبه الشرع"؛
 وبما يعنى أن أمر الهيمنة على الوعي لا يقف عند مجرد تحديد كل من مضمونه وكيفية اشتغاله، بل ويتجاوز إلى حد تقرير وجوب هذا الاشتغال ذاته.
 والحق أن ارتهان الوعي لهذا الذي يجاوزه يتجلى صريحاً فيما صار الأشاعرة إليه من إن إفادة النظر للعلم إنما تتأتى من أن :
الله تعالى يخلق العلم عقيب تمام النظر بطريق إجراء العادة، أي تكرر ذلك دائماً من غير وجوب، بل مع جواز أن لا يخلقه على طريق خرق العادة لاستناد جميع الممكنات إلى قدرة الله تعالى واختياره ابتداء، وأثر المختار لا يكون واجباً.
وافترق أهل هذا المذهب فرقتين،
فمنهم من جعله (أي العلم) بمحض القدرة القديمة،
 من غير أن تتعلق به قدرة العبد، وإنما قدرته على إحضار المقدمتين وملاحظة وجود النتيجة فيهما بالقوة،
ومنهم من جعله كسبياً مقدوراً
 (على طريقة الكسب الأشعري الذي لا يفارق فيه الفعل كونه خلقاً من الله وكسباً من الإنسان).
 وهكذا فإن علاقة الوعي بما يفضى إليه من العلم هي أيضاً مما يقبل الفوات والخرق؛ وبما يعنى أنها علاقة هشة ولا تنطوي على أي ضرورة ابتداء من أن العلم إنما يحصل عقيب النظر أو حتى معه،
 وليس أبداً بسببه، لأن النظر- أو فعل الوعي-
"لا يولِّد العلم ولا يوجبه إيجاب العلة معلولها".
 ومن هنا أن "معنى تضمُّن النظر للعلم، أنهما بحال لو قُدِّر انتفاء مضاد العلم،
لم ينفك النظر الصحيح عنه (يعنى عن العلم) من غير إيجاب أو توليد،
مع أنه لا يحصل إلا معه".
وإذ يرتبط هذا الإقصاء للإيجاب والضرورة عن علاقة الوعي أو النظر بما يتعلق بهما من العلم، بإدراج كل ما يحصل عقيب فعل النظر أو معه ضمن فئة الممكنات
"التي تستند جميعاً إلى قدرة الله واختياره"؛
 فإن ذلك يعنى أن العلم المتحصِّل عقب النظر إنما يجد ما يؤسسه- حسب الأشاعرة- في مجرد الإرادة المتعالية لله، وليس أبداً في تعلُّقه بفعل النظر أو الوعي.
 وفضلاً عما يتكشَّف عنه ذلك من صورية الوعي وهشاشته،
فإنه يبقى أن هذا التصور لعلاقة الوعي بمتعلَّقه تنبني على قاعدة الخرق والفوات، سوف يتجاوب على نحو كامل،
 مع ما سيكشف عنه التحليل- لاحقاً- من تصور الخرق والفوات ينتظم بناء كل من العالم الطبيعي والعالم السياسي عند الأشاعرة.
 وإذ يحيل ذلك إلى أن بناء الوعي عند الأشاعرة يعكس،
 ثم ينعكس- هو نفسه- في بناء كل من العالمين الطبيعي والسياسي؛
وأعنى من حيث أن الخرق والفوات ينتظم بناءها جميعاً، فإنه يكشف عن الانتظام البنيوي لكل عناصر العالم الأشعري بحسب قاعدة الخرق والفوات التي يستحيل معها أن يشتغل قانون أو تحضر ضرورة.
وهكذا يئول النظام الأشعري،
 لا إلى مجرد الإفقار الكامل للوعي؛ وأعنى من حيث تكريس تبعيته لمصدر مفارق،
 بل وإلى ما يشبه نفيه وإلغاءه،
 لأنه "لو أحدث الله السموات والأرض ولم يُحدِث عاقلاً ينظر ويستدل، فلا تخلو الحوادث إما أن تكون أدلة مع انتفاء المستدلين أو لا تكون أدلة، فإن لم تكن أدلة وجب أن لا تدل أيضاً عند وجود العقلاء، إذ من المستحيل انتفاء صفة نفس في حال وثبوتها في أخرى"؛
 وبما يعنى أن كينونة الدليل غير مشروطة بحضور العقلاء،
 بل إنها تكون قائمة (أعنى أنطولوجياً) حتى في حال غيابهم وانتفاء وعيهم.
 ولكن ذلك لا يعنى أبداً إضفاء أي قيمة على الدليل في معية المدلول وبإزائه؛
 حيث "الدليل لا يتضمن المدلول..،
 لأنّا لو قلنا إن العالم يدل على الصانع سبحانه وتعالى، لزمنا أن نقول إنه يتضمنه ويقتضيه ويوجبه، وذلك مستحيل، إذ الباري سبحانه غير مُقتضى ولا موجب..،
(وإذن) فإن الدليل يتعلق بالمدلول ولا يتضمنه،
والإحاطة بوجه تعلق الدليل بمدلوله يتضمن العلم، وهذا لا يتضمن رجوع العلم والتعلق إلى الدليل".

إذ الدليل مجرد أمارة أو إشارة- بحسب الباقلانى- 
يُتوصل بها إلى ما ورائها (أعنى المدلول)،
والأمارة من حيث هي مجرد أداة، لا يمكن أن تكون أساساً للعلم،
 بل العلم يرجع إلى ما يقوم وراءها. وبالطبع فإنه ليس من شيء يقوم وراءها إلا ما تدل عليه، أو المدلول (الذي هو "الله" هنا)، والذي لا بد أن العلم وتعلُّق الدليل به يرجعان إليه وحده.
وإذن فإنه الإفقار للدليل
- الذي هو العالم الحادث بالطبع، والذي لا يرجع إليه العلم، تماماً كما أنه لا يرجع للوعي الذي تم إفقاره أيضاً-
 هو جوهر ما ينتهي إليه النظام الأشعري.
والحق أن كون العلم لا يرجع- هكذا- إلى أيِ من الدليل (العالم) أو نظر المستدل (الوعي)،
 إنما يحيلُ إلى الأولوية المطلقة للمدلول (وهو المطلق خارج العالم) الذي يترفَّع ضمن سياق علاقة مع الدليل (العالم) والمستدل (الوعي) تنبني على نفي أي حضور فعال لهما؛
وأعنى من حيث يتحدد وضع العالم داخل هذه العلاقة
- على فرض أنها حقاً علاقة- كمجرد دليل أو أمارة،
فيما يتحدد عمل الوعي في مجرد الإحاطة بوجه تعلُّق هذه الأمارة بالمدلول أو الصانع سبحانه. ومن هنا أن الوعي،
 في كليته، لا يتجاوز في علاقته مع العالم حدود الانشغال ببيان وجه دلالته على ما يتجاوزه،
 وليس بالكشف عن قوانين كامنة تفسره وتنكشف دلالتها ضمن حدوده.
وإذا كان توظيفاً لمفردات الأصول
 (والعلم الذي تسيّدته الأشعرية؛ أعنى علم أصول الدين، يستمد تسميته من الانتساب إليها)
يتكشف عن تعيُّن المدلول كأصل أولي، فإن العالم لابد أن يتبدى، في مواجهته،
كمجرد فرع يستفيد كامل حضوره ومعناه من مجرد انطوائه على أوجه الدلالة على هذا المدلول/الأصل،
 ومن دون أن يكون منطوياً في ذاته وضمن حدوده على قانونه ومعناه؛
 لأن العالم حين ينتصب كمجرد "دليل"،
 وتغدو ظواهره مجرد أوجه للدلالة، فإن ذلك يعنى أن معنى الظاهرة- أي ظاهرة-
 لا يقوم فيها، أو حتى في العالم الذي ينطويها،
 بل يقع دوماً خارجهما؛ وأعنى في ما يدلان عليه أو يشيران إليه، باعتبارهما علامة عليه.
 وهنا يُشار إلى حقيقة الانحلال اللغوي للعالم والعلامة إلى جذر معجمي واحد (عَلَم)؛ الأمر الذي يتجاوب مع تصور العالم مجرد دال أو علامة،
حيث العلامة بدورها هي شيء عارض ويظل معناه خارجه على الدوام.
وهكذا فإن كون "المدلول" هو الواقعة الأولى التي يجد الوعي نفسه في مواجهتها غير قادر على الانفلات من سطوتها،
لا يئول إلى مجرد إفقاره (أي الوعي) فقط،
 بل ويئول كذلك إلى إفقار "العالم" الذي يُقصى منه القانون والمعنى ليبقى مجرد علامة لا قيمة لها إلا من حيث تدل على ما وراءها.
ولعل ذلك هو ما أدركه ابن خلدون،
 حين مضى إلى أنه إذا كان "الجسم الطبيعي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات وهو بعضٌ من هذه الكائنات، إلا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلم
 (الذي هو المتكلم الأشعري بالأساس)،
وهو (الفيلسوف) ينظر في الجسم من حيث يتحرك ويسكن
(يعنى بحسب قوانين الحركة والسكون)،
 والمتكلم (الأشعري دوماً) ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل.
وكذا نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته، ونظر المتكلم في الوجود من حيث إنه يدل على الموجد".
وهكذا فإنه ليس ثمة، عند المتكلم، من حضور للعالم أو الوجود على العموم،
 إلا من حيث كونهما يدلان على ما يتعداهما ويقوم وراءهما.
 (ابن خلدون ج3 ص1082)

وبالطبع فإن هذا التحديد لفعل الوعي ابتداء،
 هو ما يؤسس لآلية إنتاج المعرفة، لا داخل النسق الأشعري فقط،
 بل- بالأحرى- داخل الثقافة بأسرها؛
 والتي كان لابد أن يتحول فعل المعرفة فيها، تبعاً لذلك،
 إلى مجرد نوع من الانتقال الفقير من "فرع" يستفيد حضوره ودلالته من إلحاقه "بأصل" يقوم سابقاً عليه،
 أو من "دليل" هو مجرد أثر وعلامة على "مدلول" هو مصدر المعنى وأصل الدلالة؛ وذلك في سياق نوع من المقايسة التي لا يتجاوز السعي فيها حدود تكريس سلطة الأصل/المدلول، التي هي القناع المعرفي لسلطة الأب/المستبد؛
 وأعنى بالطبع أن سلطة المستبد قد بدأت من هنا سيرورة التخفي وراء سلطة هذا الأصل الذي ظل يعمل للآن كقناع معرفي لها.
فإذ الأصل "هو ما يُبتنى عليه غيره"؛
 وبما يعنيه ذلك من أوليّته ومفارقته وعدم قابليته للتغيّر لقيامه بذاته في غير حاجة لغيره مع احتياج الغير له،
فإنه يكاد- هكذا- أن يختزل كل سمات الاستبداد العربي وملامحه التي تنطق بها قسمات حكَّام أو أنصاف آلهة لا يعرفون في تسلطهم على مقادير هذا العالم البائس، أي غياب.


تم النشر في موقع الأوان بتاريخ 13 مايــــــو 2009