الخميس، مارس 22، 2012

الشريعة بين التاريخ والقرآن



يئول عدم الإنضباط المعرفي للمفاهيم إلي إلتباسها وتشوشها‏,‏
علي النحو الذي يجعل منها موضوعاً للتلاعب‏,‏ وليس الفهم‏.‏
وغني عن البيان أن المفاهيم تتحول, حين تصبح موضوعاً للتلاعب وليس الفهم, إلي أدوات يتحارب بها الناس ويتناحرون, بدل أن تكون ساحات يتواصلون عبرها ويتحاورون.
 ولسوء الحظ, فإنه إذا كان الفضاء المصري الراهن يزدحم بما يجري تداوله فيه من مفاهيم متناحرة, فإن ما يغلب عليها من التشوش وعدم الانضباط المعرفي, قد أحالها إلي أدوات تتبادل بها النخبة الإحتراب والقصف.
 ومن بين هذه المفاهيم تتجلي, لافتة, القيمة القصوي لمفهوم الشريعة, الذي تشهد اللحظة الراهنة إستخداما متزيدا له من جانب جماعات الإسلام السياسي التي تستثمره في صعودها المتسارع نحو السلطة في العالم العربي علي العموم, وذلك فضلا عن شحذها الجاري له لتحسم به الجدل المرتقب حول الدستور في مصر. 

ولعله يمكن القول أن الاستخدام الراهن للمفهوم كأحد أسلحة هذه الايديولوجيا الزاحفة نحو السلطة قد جعل منه أداة إقصاء, أو حتي سحق, للخصوم بالكلية, وذلك- وللمفارقة - علي حساب ما أراده القرآن من أن يكون المفهوم ساحة يتواصل عبرها البشر, علي اختلاف الأقوام والأزمان.
وهنا يلزم التنويه بما يبدو من أن التلاعب الايديولوجي بالمفهوم إنما يتأسس علي التشوش الناتج عن الخلط بين الشريعة وبين الفقه; وهو الخلط الذي لا يكتفي بتجاهل التمييز القرآني الحاسم بينهما, بل ويلح- إبتداء من ذلك - علي تصور بالغ الضيق والتحيز والانغلاق للشريعة; وعلي النحو الذي يناقض- وللمفارقة - الطرح القرآني لها.

ولعل ذلك يكشف عن أن إمكانية قول جديد في الشريعة لابد أن تؤسس نفسها علي استعادة الفهم القرآني(المنفتح) لها, وذلك في مواجهة ما يبدو أنه تاريخ من الفهم  (المنغلق) الضيق الذي تتحكم فيه مفاهيماً صنعتها عصور الجمود والركود الطويل التي عاشتها المجتمعات الإسلامية.
 ولسوء الحظ, فإن الأمر لا يقف عند مجرد ركود المفاهيم وجمودها, بل يتجاوز إلي الإنحراف بها عن المجال التداولي لها في القرآن.
 وبالرغم من ذلك, فإن منتجي هذا الفهم وحراسه لا يكفون عن الإدعاء بأن القرآن هو مصدر تلك المفاهيم, لكي يهبوها حصانته وقداسته;
وعلي العموم, فإن الاستخدام الراهن للعديد من المفاهيم- التي يقال إنها إسلامية- يرتبط بذلك التاريخ الطويل من الفهم الذي وجهته حاجات وإكراهات الواقع الاجتماعي والسياسي الذي عاشه المسلمون, بأكثر من إرتباطه بما يمكن أن يكون التوجيه القرآني لها.
ولسوء الحظ, فإن التاريخ قد إتجه بالمفاهيم إلي أفق أكثر ضيقا مما أراده لها القرآن.
وكمثال, فإنه إذا كان ما يغلب علي الاستخدام الراهن لمفهوم الشريعة هو ربطه بالأحكام والحدود, فإن هذا الربط يجد ما يؤسسه في التاريخ, وليس في القرآن الذي يربط الشريعة بما يقوم فوق الأحكام والحدود. وإذا كان المتصور أن ربط المفهوم   (أي مفهوم) بالتاريخ يجعله أكثر اتساعا, فإن الأمر يبدو علي العكس تماما من ذلك, فيما يخص مفهوم الشريعة الذي يبدو أن ربطه بالقرآن- وليس التاريخ - هو الذي يجعله أكثر اتساعا ورحابة.
 وبالطبع فإنه حين يراوغ البعض فيخفي هذا المفهوم الضيق للشريعة, الذي أنتجه التاريخ, وراء القرآن, فإنه لا سبيل إلي فضح تلك المراوغة إلا عبر استعادة مقاربته القرآنية الأرحب.

فقد أورد القرآن الجذر شرع ومشتقاته أربع مرات; كان في ثلاث منها منسوبا إلي الله وحده, وفي المرة الوحيدة التي نسب فيها القرآن الفعل شرعوا إلي البشر, فإن ذلك كان علي سبيل الاستنكار والتعريض; وبما يعنيه ذلك من عدم تصور إمكانية نسبة هذا الفعل إلي غير الله. وحين يضاف إلي ذلك أن القرآن قد أورد مشتقات الجذر فقه عشرين مرة كان فيها جميعا في صيغة الفعل المنسوب إلي البشر فقط, فإن الدلالة القصوي لذلك تتمثل في إلهية ما يربطه القرآن بالفعل شرع, في مقابل بشرية ما يربطه بالفعل فقه.
ولعل قراءة لما أضافه القرآن إلي الله من أنه:
شرع لكم من الدين ما وصي به نوحاً, والذي أوحينا إليك, وما وصينا به إبراهيم وموسي وعيسي أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه,
 لتكشف عن صرف القرآن لدلالة الفعل شرع إلي ما قال القرطبي أنه توحيد الله وطاعته والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء, وما قال الفخر الرازي في تفسيره الكبير, أنه ما يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان, كالقول بحسن الصدق والعدل والإحسان, والقول بقبح الكذب والظلم والإيذاء.

 إن ذلك يعني أن الفعل شرع الذي إختص به القرآن الله وحده, ينصرف إلي المشترك بين بني البشر مما ينضوي تحت كليات الدين وأمهات الفضائل; أو هو الدين الذي تطابقت الأنبياء علي صحته, والذي يجب أن يكون المراد منه- علي قول الرازي- شيئا مغايرا للتكاليف والأحكام, لأنها مختلفة متفاوتة.
 وهكذا يتبلور القول صريحا بأن دلالة الفعل شرع لا تنصرف إلي التكاليف والأحكام, بل إلي ما يقوم فوقها من الكليات التي يتشارك فيها بنو البشر جميعا, والتي تنتصب كمسلمات تتعدي التفكير والمساءلة, وذلك علي عكس التكاليف والأحكام والحدود التي هي موضوع للتفكير; وذلك بحسب ما يبدو من إنشغال المصريين الراهن بالتفكير في حد الحرابة.
وبالطبع فإن كون التكاليف والأحكام والحدود موضوعا للتفكير( إكتناها لحكمتها ووعيا بعللها, وشروط إنفاذها, والموانع التي تحول دون هذا الإنفاذ) لمما يجعلها من قبيل ما يندرج تحت مظلة الفقه الذي أضاف القرآن فعله إلي البشر, بحسب ما تشير الآية فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين.

 ولعل هذا التمييز القرآني بين كلي ثابت مشترك مردود إلي الله بالفعل شرع, وبين جزئي متغير خاص مردود إلي البشر بالفعل يتفقهوا,
 يؤسس لقراءة للآية:
 لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجاً علي أساس تباين لفظتي الشرعة والمنهاج, وليس ترادفهما; وبحيث ينصرف مدلول الشرعة إلي الكلي المشترك, فيما ينصرف مدلول المنهاج إلي الجزئي المتغير.
وحين يدرك المرء أن الأمر لا يقف عند مجرد تأكيد هذا التمييز, بل يتجاوز إلي ما أدركه البعض( وأعني الرازي) من أن سعي الشرع في تقرير النوع الأول( الكلي المشترك) أقوي من سعيه في تقرير النوع الثاني( الجزئي المتغير), فإن له أن يهيب بأولئك الساعين إلي حسم معركة الدستور بسلاح الشريعة إلي الإنصات إلي صوت القرآن الذي يلح علي الكلي المشترك, بدلا من التاريخ الذي يلح, في المقابل, علي الجزئي المتغير.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 22 / مارس /2012


الخميس، مارس 08، 2012

متـي تكون إرادة الشـعب حــرة حقـــا؟




 "لم أكن أعرف أن سبحان الله يمكن أن يعصي بها الله إلا في هذا المجلس "
تنسب المصادر إلي عبدالقاهر الجرجاني هذا القول الذي يستهدف التأكيد به- وهو البلاغي الكبير- علي أن أنبل الشعارات قد يكون السبيل إلي أحط الغايات; وإلي الحد الذي يمكن أن يكون معه تسبيح الله هو الباب إلي معصيته.
ولعله يمكن القول- قياسا علي قول الجرجاني- أن المرء لم يكن يعرف أن إرادة الشعب يمكن أن يتسلط بها البعض علي الشعب, إلا في سياق المشهد المصري الراهن; الذي يتبدي فيه جليا سعي البعض إلي توظيف المفهوم في تحقيق مكاسب سياسية تخصه, ولو كان ذلك علي حساب الإرادة الحقة وخصما منها من جهة, وبصرف النظر عما يضمره هذا التوظيف من تشويه الروح الحقة لمفهوم الإرادة من جهة أخري. 

وهكذا فحين يقوم فريق من المصريين بإشهار مفهوم إرادة الشعب- كالسيف- في وجه كل من يطرحون تصورا يختلف مع ما يجري تحشيد الجمهور وراءه, فإنهم لا يفعلون بذلك إلا أن يستخدموا هذا المفهوم علي طريقة سبحان الله التي يراد بها عصيان الله.
 وحين يدرك المرء أن الفريق الذي يتمترس الآن وراء إرادة الشعب هو الأكثر قدرة علي حشد الجمهور عبر التأثير في ميوله الدينية الكامنة, فإن ذلك يعني أن الإرادة, هنا, ليست حرة أبدا, بل إنها خاضعة لتوجيه ما لا يقدر الجمهور علي مجرد التفكير فيه( ناهيك عن أن يري رأيا فيه).
ولعل ذلك يندرج في إطار ذات الممارسة الشائهة التي تجعل فريقا من المصريين يقيم التراتب التنظيمي لبناء جماعته علي مبدأ السمع والطاعة( بما يقوم عليه من ثقافة التلقي والإذعان), هو الأكثر تخفيا وراء يافطة الديمقراطية( بما تقوم عليه من القدرة علي التفكيرالمستقل المنفتح علي النقد والحوار), رغم ما يبدو من أن الديمقراطية لا تكون, والحال كذلك, إلا محض شعار فارغ يراد التغطية به علي نزعة سلطوية كامنة.
والحق أن ما يمارسه الكثيرون من التلاعب بمفهوم إرادة الشعب إنما يرتبط بغموض فكرة الإرادة الذي يجعل الناس يتصورون أن كل ما يصدر عنها يكون دائما فعل حرية واختيار, وذلك فيما تقطع التجربة بأن ما يصدر عنها لا يمكن, في أحيان كثيرة, إلا أن يكون فعل إكراه واضطرار.
 ويرتبط ذلك بأن الفعل الحر فعلا إنما يصدر عن إرادة يحددها الوعي, وليس عن إرادة تنفلت من تحديداته. ولكن الإرادة تكون, بحسب طبيعتها, أوسع مجالا من الوعي, لأنها تنفتح علي ما يتجاوز حدوده( من العواطف والانفعالات الأولية والرغائب الغريزية, بل وحتي المكبوتات اللاواعية).
ولهذا فإن كل ما يصدر عنها لا يمكن أن يكون أبدا فعل حرية. وهكذا فحين يقع الناس في قبضة انفعالاتهم وعواطفهم, وحتي أوهامهم, فإنهم لا يمكن أن يكونوا أحرارا حقا, بل إن الفعل الصادر عنهم يكون فعل إكراه واضطرار; ومن دون أن يؤثر في ذلك أنه قد يكون مستوفيا لكل مظاهر الفعل الحر وفقط فإن كون مصدر الاضطرار في هذا النوع من الفعل لا يكون القهر المادي الخارجي لسلطة متعسفة, هو ما يجعله يبدو وكأنه فعل حرية.
 وغني عن البيان أن الطغاة جميعا يلعبون علي هذا المخزون الانفعالي العاطفي( وحتي الغرائزي) الراكد, فيقومون بتوجيه شعوبهم, عبر استثارة هذا المخزون, إلي ما يقولون إنها إختيارات تلك الشعوب, في حين انها تكون محض اختياراتهم الخاصة.

وإذا كانت الانتخابات هي الآلية التي أتاحها النظام الحديث, لتكشف عبرها الشعوب عن إرادتها الحقة, فإنها تكون آداة الطغاة في إنفاذ مراوغة تخفيهم أيضا. ويرتبط ذلك بأن آلية الانتخاب هي- وبلغة أهل القانون- آلية إظهار للإرادة, وليست أبدا آلية إنشاء لها. ومن هنا لزوم التنويه بأن الشرط اللازم لتحقق الإرادة الحرة هو الوعي; بما هو قدرة علي التفكير المستقل غير القابل للتوجيه, والذي يستحيل مع غيابه أن تكون للشعوب إرادة حرة, حتي ولو جري سوقها لصندوق الإنتخابات كل بضع سنوات.
إن ذلك يعني أن استيفاء الشرط السياسي( متمثلا في الإجراء الإنتخابي), من دون حضور الشرط الثقافي( متمثلا في القدرة علي التفكير المستقل), لا يمكن أن يكون دليلا علي أن إرادة الناس هي فعلا حرة. ومن حسن الحظ, أن الحقبة الحديثة قد شهدت نماذج عدة لشعوب جري سوقها, عبر التلاعب بعواطفها وأوهامها, إلي ما لا يمكن أن يكون إختيارا حرا أبدا, وذلك لأن الإستبداد لا يمكن أن يكون إرادة لأحد, ناهيك عن أن تكون هذه الإرادة حرة.
ولقد كانت مصر- مع مطلع ثمانينيات القرن الماضي- مسرحا لتلاعب نخبتها بما قالت إنه إرادة شعبها; وهو التلاعب الذي تحقق- لسوء الحظ- عبر التخفي وراء الدين. فقد شاءت النخبة, آنذاك, أن تطلق مدد الولاية لحاكمها من غير حد زماني تنتهي إليه.
 وإذ لا يمكن لأحد أن يجادل في أن إطلاق الولاية للحاكم من دون تحديد لمدة ولايته هو السبيل إلي تكريس إستبداده وفساده, فإنه ليس من شك في أن إرادة هذا الإطلاق
( التي ستكون إرادة للإستبداد حينئذ),
لا يمكن أن تكون فعل إختيار, بقدر ما هي فعل إكراه وإضطرار ألجأت النخبة إليه المصريين حين ربطت هذا الإطلاق للولاية من دون تحديد زماني بجعل مبادئ الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع. ما حدث, إذن, هو أن النخبة الحاكمة كانت هي التي أرادت الاستبداد( عبر إطلاق الولاية للحاكم; الذي كان الرئيس السادات, والذي لم يستفد من هذا الإطلاق وتركه لخلفه يستفيد منه حتي جري خلعه أخيرا), ولكنها راحت تتخفي وراء الشعب; حين جعلت من هذا الاستبداد إرادة له. لكنها لم تنجح- ولسوء الحظ- في جعل الاستبداد إرادة للشعب إلا عبر التلاعب بالدين; وعلي النحو الذي وجد الناس معه أنفسهم مضطرين لقبول ما تريده النخبة من الاستبداد, وإلا فإنهم سيخرجون علي ما يعتبرونه صحيح دينهم.
 وهكذا فإن سعي النخبة إلي تثبيت هيمنتها يجعلها لا تتورع عن اصطناع إرادة للشعب, ولو كان هذا الإصطناع يتحقق عبر الإساءة إلي الدين, من خلال استخدامه في التغطية به علي ما تبتغي من كسب سياسي. ولسوء الحظ, فإن شرائح واسعة من النخبة المصرية لا تزال, للآن, تستخدم الدين في اصطناع إرادة للشعب تغطي بها علي أهدافها السياسية الخاصة.

وأخيرا فإن الإنصاف يقتضي الإقرار بأن التلاعب بإرادة الشعوب لا يتحقق من خلال الدين وحده; وأعني من حيث تكشف التجربة عن أن إثارة مشاعر الخوف والهلع عند الشعوب, واستنفار النوازع الغريزية المكبوتة في لاوعيها الجمعي, هي كلها مما يمكن معه تعبئتها في إتجاه بعينه يراد لها أن تمضي فيه. ولعل شيئا من ذلك قد حدث مع المصريين الذين يحتاجون إلي عمل كبير لكي تصبح إرادتهم حرة حقا; علي أن يكون مفهوما أنه عمل ثقافي ممتد, وليس عملا سياسيا تصنعه الخطابة.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 8 / مارس / 2012


السبت، مارس 03، 2012

‮ عن "‬ثــورات العرب‮"


حكايــــــة الحداثـــة الشـــكلية

كتب / وائل فتحي 



تاريخ جلب الحداثة أو قطف الثمرة،‮ ‬
هذا أول استنتاج سيصل له القارئ عند قراءة‮
 "‬ثورات العرب‮..‬خطاب التأسيس‮"
 ‬للدكتور علي مبروك‮.‬
‮ ‬كيف حاولنا جلب الحداثة لوادينا الطيب منذ اعتلاء محمد علي ولاية مصر،‮ ‬وحتي الآن!؟‮ ‬
هذا هو سؤال الكتاب‮.‬

بداية‮ ‬يطرح المؤلف مناقشة حول مشروع الحداثة التركية،‮
 ‬ذلك الذي خاضه كمال أتاتورك ضد الدين،‮
 ‬معتبرا أن هذا الطرح خاطئ،‮ ‬
مثلما كان الطرح الخاص بالدولة الحديثة لمحمد علي باشتراط الحداثة بما‮ ‬يتفق مع التراث كذلك،‮ ‬حيث استمرت هيمنة خطاب القوة في التجربتين،‮
‬لهذا‮ ‬يقدم الأستاذ المساعد بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة للقارئ نصيحة مفداها
أن السبيل الوحيد للتحرر في بلاد العرب‮ ‬يكمن في :
التخلي عن خطاب القوة مقابل خطاب المعرفة‮..‬هكذا تستقيم الحداثة‮.
‬ولنتأمل سويا هذا التصور‮: ‬

الدولة‮ 
كيف جلبت الحداثة المشروطة بــ"تخليص‮" ‬رفاعة‮ ‬رافع الطهطاوي،‮
وما الموانع التي منعت النقل الكامل؟
 مثلاً‮ ‬ينقل أول ناقل للحداثة الأوروبية‮ ‬الطهطاوي‮
‬في تلخيصه لهذه الحداثة فيما‮ ‬يخص توزيع وتقسيم السلطات‮
"‬إن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف،‮ ‬وإن السياسة الفرنساوية هي قانون مقيد‮"
(‬كما جاء في الكتاب العُمدة: تخليص الأبريز في تلخيص بايز‮)‬،‮
 ‬ولكن الطهطاوي ما‮ ‬يلبس أن‮ ‬يتناسي تماماً عقد مقارنة بين ملك في فرنسا وباشا في مصر،‮ ‬ليورد المقارنة بشكل‮ ‬يدمر تماماً حس المقارنة حينما‮ ‬يتكلم عن الدولة المصرية،‮ ‬في الكتاب نفسه،‮
 ‬حيث‮ ‬يكتب عنها وفقاً لقاموس‮ "‬السياسة الشرعية‮" ‬حيث‮ ‬يري،‮
‬فيما‮ ‬يخص الدولة المصرية الجديدة‮
"‬إن للملوك في ممالكهم حقوقا تسمي بالمزايا،‮ ‬وعليهم واجبات في حق الراعايا‮. ‬
فمن مزايا الملك أنه خليفة الله في أرضه،‮ ‬وأن حسابه علي ربه،‮
‬فليس عليه في فعله مسئولية لأحد من رعاياه،‮ ‬وإنما‮ ‬يذكر للحكم والحكمة من طرف أرباب الشرعيات أو السياسات برفق ولين،‮ ‬
لإخطاره بما عسي أن‮ ‬يكون قد‮ ‬غفل عنه،‮ ‬مع حسن الظن به‮"..‬
هكذا‮ ‬ينتهي رفاعة إلي أن مصدر سلطة الباشا ليس الأمة،‮ ‬وإنما الله،‮
 ‬والذي‮ ‬يلح الطهطاوي طوال‮ »‬تخليصه‮« ‬
أن الله سبحانه وتعالي هو الذي ولاه حكم مصر،‮
 ‬وذلك‮ ‬يتعارض مع الواقع التاريخي الذي‮ ‬يقطع بأن تولية الباشا كانت من جماهير الشعب ونخبته التي استمسكت به في مواجهة الإرادة السلطانية العلوية،‮
 ‬كل هذا‮ ‬يكشف،‮ ‬حسبما‮ ‬يري الباحث ومؤلف الكتاب،‮ ‬
عن أزمة مثقف‮ ‬يجد نفسه مضطرا لأن‮ ‬يكون بوقاً لسلطة القوة علي حساب سلطة الحقيقة‮. ‬لنتقدم بالزمن سريعاً،‮ ‬لنجد إنعكاسا لهذه الفكرة في وقتنا الراهن،‮ ‬
حيث أعاد إنتاج أنصار‮ "‬مبارك‮" ‬هذه الفكرة،‮
‬حيث رفع أحد المؤيدين لافتة كتب عليها‮: ‬
من اختاره الله لا‮ ‬يسقطه الخونة والعملاء‮!‬
لكل هذا فالكتاب‮ ‬يعد تأريخاً‮ ‬لفكرة صراع بين قوتين‮:
السلطة،‮ ‬والمعرفة،‮
 ‬رغم ذلك لا‮ ‬يعكس الكتاب صراعا بين القوة والقوة الناعمة،‮ ‬مثلاً،‮
 ‬بل‮ ‬يسجل تاريخاً من سطوة الأولي وقلة حيلة الثانية‮.‬
‮ ‬كان مشروع النهضة قائماً علي دعم القوة،‮
‬بمعني أن نأخذ من الحداثة ما‮ ‬يجعلنا أقوياء،‮ ‬أن تكون الدولة صلبة،‮
‬دون أن ننقل تجارب الحداثة،‮ ‬رفاعة الطهطاوي كانت له عبارة‮ ‬اعتراف أن مشروع النهضة كان‮ ‬يهدف لقطف الثمرة،‮
‬وليس لتقليب التربة‮.‬
الثمرة هي ثمرة الحداثة،‮ ‬ليس هذا أوان الحديث عن رفاعة ومشروعه المعرفي،‮
‬لكن الإشارة تكشف للقارئ ملامح خطاب التأسيس العربي أي‮
"‬ثورات العرب‮..‬خطاب التأسيس‮"‬،‮
 ‬حيث‮ ‬يري الباحث أن ثورات العرب كانت مجرد مدخل
ليعود مبروك إلي نشأة مشروع النهضة العربي،‮
 ‬أي مشروع الدولة الحديثة،‮ ‬لهذا‮ ‬يتجول بين النشأة المعرفية التي أرساها رفاعة الطهطاوي‮. ‬
يكشف الكتاب أن مشروع النهضة العربي كان قائماً علي استجلاب مظاهرة القوة فقط،‮ ‬ومظاهر الحداثة أيضاً،‮ ‬
بينما كان عماد الدولة التي أسسها محمد علي الجيش،‮
‬إلا أن بقية المظاهر لم تهدف لتأسيس دولة قوية،‮ ‬بل أن تبدو دولة قوية فحسب‮.‬
الجامعة
تعطيل متعمد للنهضة بسبب السياسة،‮
‬حينما‮ ‬كان الحضور للسياسي طاغياً علي حساب المعرفي،‮ ‬كان ذلك في نهايات القرن التاسع عشر،مما أسس لأزمة شاملة،‮ ‬فكان الحل المطروح هو الجامعة‮. ‬
خلال هذه الفترة لم تستطع جامعة الأزهر أن تلعب الدور الوسطي بين سيطرة
السلطة‮/ ‬القوة‮/ ‬الجيش،
‮ ‬ورغبة المجتمع في‮  ‬والتقدم بعد ذلك‮.
‬حيث انشغلت المؤسسة الأزهرية بالحداثة المشروطة باسم الحفاظ علي التراث،‮
 ‬حتي أن المؤلف‮ ‬يتوقف عند تجربة تأسيس كلية دار العلوم،‮
 ‬لتعيد إنتاج خلطة تناسب مجتمعنا بين الدين والعلم،‮ ‬لكنها لم تحقق شيئا حسب استشهاد الكتاب برأي دكتور طه حسين‮.‬
لكن كل‮  ‬ذلك لم‮ ‬يعنِ‮ ‬نهاية دور مؤسسة القوة الصلبة،‮
‬بل استمرت الغلبة لها،‮ ‬وكان تغليب السياسي،‮ ‬علي المعرفي،‮ ‬أمراً مستمراً.‬

لنترك النشأة،‮
‬وننتقل لتأسيس خطاب المعرفة،‮
‬وبالتحديد النقد المعرفي حيث‮ ‬يتوقف الباحث عند جدل ولدته الأفكار النقدية
 بين عابد الجابري وجورج طرابيشي،‮
 ‬يتوقف‮ "‬الفيلسوف‮" ‬المغربي الراحل و"المفكر‮" ‬واللبناني عند مفهوم الأصالة بين الشرق والغرب العربيين،‮ ‬بينما‮ ‬يشيد الجابري بالمشروع النهضوي المغاربي،‮ ‬
الذي صنعه العقل المغاربي الذي‮ ‬يتسم بتفكير منطقي‮ ‬يبحث عن البرهان،‮
‬كنتاج لتأثره بالمعرفة الإغريقية،‮
 ‬بينما‮ ‬يحصر الجابري-أيضا‮- ‬العقل الشرقيّ‮ ‬في دور العقل الصوفي البياني،‮
 ‬في حين أن جورج طرابيشي‮ ‬يعيد أصول المعرفة اليونانية للحضارة الفينيقية،‮
 ‬هكذا‮ ‬يكشف لنا الباحث أن النقد المعرفي قد ارتد بالعرب إلي الماضي السحيق
أي إلي التفاخر بالقبائل،‮
‬بما‮ ‬يستتبع ذلك بجدارة الأكثر أصالة،‮ ‬من أصحاب التصورين،‮ ‬بالإمساك بمقاليد السلطة والقيادة‮!‬
هنا‮ ‬يمكننا القول أن وظيفة النقد لم تعد تحرير الأفهام،‮ ‬
بقدر ما باتت تثبيت الأوهام‮..‬أوهام الأصالة،‮ ‬وجدارة الصدارة والقيادة،‮
‬وبالطبع لن‮ ‬يستطيع النقد إنتاج معرفة بالواقع،‮
‬لهذا‮ ‬يكتب د.مبروك‮:
"‬أعني من حيث لم‮ ‬يتجاوز الأمر حدود استبدال أصالة بأصالة ومركز بآخر،‮ ‬
وعلي نحو‮ ‬يكشف عن هيمنة منطق الإبدال والإحلال
الذي هيمن علي مجمل ما ساد فضاء الخطاب العربي
 من الاختزال الأيديولوجي للواقع‮."

تم النشر في أخبار الأدب بتاريخ 3 مـــــــــارس 2012‬