الخميس، أكتوبر 18، 2012

هل نهي القرآن عن ولاية النصاري مطلقا؟



يفتح القرآن أبواباً واسعة للرحمة‏
,‏ تيسر للناس سبل العيش المشترك في سلام ووئام‏;‏
وذلك من خلال ما ينطوي عليه من ثراء الدلالات,
علي نحو يتيح تعدد الأفهام وتنوع الرؤي.

لكنه يبدو- ولسوء الحظ - أن الناس يصرون علي إغلاق هذه الأبواب عبر ضروب من التفكير والفهم الأحادي المغلق التي تعكس ما ينطوي عليه وجودهم من أشكال التحيزات والتعصبات والتمايزات والاستعلاءات وغيرها.
 فطرائق الناس في التفكير لا تنفصل عن طرائقهم في العيش أبدا;
وبمعني أن المجتمعات التي تصهر كل أفرادها في تجربة حياة مفتوحة تخلو من كل أشكال التمييز والتعصب, تسود فيها طرائق أكثر انفتاحا في التفكير,
من تلك التي تمايز بين أفرادها.

 ولقد كان ذلك ما عرفته تجربة الإسلام في بعض لحظاتها فعلا; وعلي النحو الذي عرفت فيه نمطا من التفكير المفتوح,
 كالذي ازدانت به تجربة الأندلس مثلاً

(وهي التجربة التي لا تزال تأسر خيال العديدين من الذين يتطلعون لمستقبل أفضل للعالم)

 وإذا كان من المحتم أن ينشأ عن ضروب التفكير المشبعة بالتمايزات والتحيزات قواعد ومبادئ للضبط السياسي والاجتماعي,
 فإن الاشكال ينشأ من تصور الناس أن هذه القواعد والمبادئ المتحيزة إنما تصدر عن القرآن الكريم, وليس عن طريقتهم في فهمه والتفكير فيه, التي لا تنفصل, بدورها, عن الكيفية التي يكون عليها حالهم في الواقع.
 ولو أن الناس يتعاملون مع هذه القواعد علي أنها نتاجات فهمهم الخاص, لما كان هناك أي إشكال علي الإطلاق. إذ يؤدي تصور أنها تصدر عن القرآن الكريم إلي جعلها من مصدر إلهي( وبما يعنيه ذلك من تحويلها إلي مطلقات نهائية), وأما تصورها تصدر عن طريقة الناس في التفكير والفهم, فإنه يجعل منها تكوينا ينتمي إلي عالم البشر(وعلي نحو تقبل فيه التجاوز).


ولعل مسألة العلاقة مع غير المسلمين(النصاري مثلا) تطرح مثالا لأبواب الرحمة التي يفتحها القرآن أمام الناس.
فإنه إذا كان القرآن ينطوي علي دلالة النهي عن اتخاذ النصاري أولياء, فإنه ينطوي بالمثل, ليس فقط علي ما يسمح بجواز هذه الولاية,
بل وعلي ما يقطع بحصولها فعلا.

وغني عن البيان أن ورود القول, في القرآن, بكل من النهي عن ولاية النصاري وتجويزها في آن معا, يرتبط بأن لكل من النهي والتجويز ما يبرره في اللحظة التي ورد فيها; وبما يعنيه ذلك من أن القرآن لا يقدم, في الحالين, موقفا مطلقا ينتهي فيه النهي إلي إلغاء التجويز, أو العكس, بل يقرر حكما مشروطا بشروط الواقع الفعلي القائم.
 وبمعني أنه إذا استدعي الواقع الفعلي ضرورة النهي عن ولاية النصاري
(كما حدث فعلا في لحظة كانت فيها علاقة المسلمين بهم غير مستقرة),
 فليتقرر حكم النهي, وإذا استدعي الواقع حكم جواز تلك الولاية
(كما حدث في لحظة أخري كانت فيها العلاقة بين الطرفين مستقرة وودية)
فليتقرر حكم تجويزها, فإنه ليس من حكم نهائي ومطلق بخصوصها, بل الحكم يدور مع الواقع.

تربط المصادر القديمة( موسوعات التفسير وكتب أسباب النزول) نزول آية النهي عن موالاة اليهود والنصاري بما جري في وقعة أحد 
(بين المسلمين وقريش),
 حين أصر فريق من مسلمي يثرب( المدينة) علي ربط انخراطهم في جيش النبي الكريم( عليه السلام) باستمرار موالاتهم لليهود;
وبما يعنيه ذلك من إدخالهم كطرف يلعب دوراً حاسما في المواجهة مع قريش.
 ولما كانت علاقة المسلمين باليهود (وربما النصاري) غير مستقرة منذ الهجرة إلي يثرب,
 فإن القرآن الكريم قد أورد النهي عن موالاتهم( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصاري أولياء), لكيلا يكون لتلك العلاقة غير المستقرة أثر في الإضرار بمصالح المسلمين.
إن ذلك يعني أن اضطراب علاقة المسلمين مع يهود يثرب(ومع النصاري) هو الأصل في النهي عن موالاتهم, وليس لكونهم يهودا أو نصاري.
 إنه, بلغة الفقه, هو العلة التي إذا غابت جاز أن يتغير حكم النهي إلي الجواز.

 ولعل ذلك بالذات هو ما يقف وراء ما أورده القرطبي, في تفسيره لهذه الآية, من أن أبا حنيفة قد أجاز للمسلمين موالاتهم( أي اليهود والنصاري) والانتصار بهم علي المشركين; حيث الحكم عنده يدور مع العلة وجوداً وعدماً.
فإنه لو كان النهي عن موالاتهم مطلقاً; وأعني صادراً عن مجرد كونهم يهوداً أو نصاري, لكان القرآن الكريم قد قرره منذ البدء, ولم يكن ليسمح للمسلمين بموالاتهم أو طلب النصرة منهم أبداً.
وأما أن يكون القرآن قد سمح للمسلمين بموالاة النصاري,
 والاستنصار بهم بالذات, وأقر ذلك, بل وأثني عليه,
 فإن ذلك ما تقطع به آيات التنزيل المتعلقة بواقعة الهجرة إلي الحبشة.

 فقد أورد الواحدي النيسابوري في كتابه أسباب النزول أن آية ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا النصاري قد نزلت في النجاشي وأصحابه.
 حيث يروي عن ابن عباس قوله:
 كان رسول الله صلي الله عليه وسلم بمكة, يخاف علي أصحابه من المشركين, فبعث جعفر ابن أبي طالب وابن مسعود في رهط من أصحابه إلي النجاشي,
 وقال:
 إنه ملك صالح, لا يظلم, ولا يظلم عنده أحد, فاخرجوا إليه حتي يجعل الله للمسلمين فرجا, فلما وردوا عليه أكرمهم,
وقال لهم:
 تعرفون شيئا مما أنزل عليكم,
 قالوا:
 نعم,
قال:
اقرأوا, فقرأوا وحوله القسيسون والرهبان, فكلما قرأوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق,
 قال الله تعالي:
 ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا, وأنهم لا يستكبرون, وإذا سمعوا ما أنزل إلي الرسول تري أعينهم تفيض من الدمع.

وهكذا تتضافر الرواية النبوية مع القرآن في التأكيد, ليس فقط علي جواز ولاية النصاري بالذات, بل وعلي وقوع هذه الولاية فعلا; حيث يروي الطبري عن المهاجرين من المسلمين قولهم:
 قدمنا أرض الحبشة, فجاورنا بها خير جار, أمنا علي ديننا, وعبدنا الله, لا نؤذي ولا نسمع شيئا نكرهه.
 وإذن, فإنه الجوار والإكرام, والأمن علي الدين والدنيا, وعدم الأذية
( وكلها من معاني النصرة التي هي معني الولاية في القرآن)
وقد عاشها المسلمون واقعا متحققا مع نصاري الحبشة.
 فهل لأحد, بعد ذلك, أن ينهي عن هذه الولاية مطلقا, أم أنه يلزمه الوعي بشروط السياق المحدد لحكمها؟.
وفضلا عن كل ما سبق, فحين يدرك المرء أن مفهوم الولاية لم يرد, في القرآن الكريم, بمعني الحكم السياسي أبدا, بل بمعني طلب النصرة فقط, فإنه لا يملك إلا القطع بأن القائل بدعوي عدم جواز ولاية النصاري, يتخفي وراء نهي القرآن الكريم
- في ظل ظروف بعينها-
عن الاستنصار بهم, ليجعل منه نهيا عن توليهم مناصب الحكم السياسي, وهو ما لا يعنيه القرآن الكريم أبدا, بل إن ذلك ما يبدو وكأن التاريخ قد فرضه; وهو ما يحتاج إلي بيان.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 18 / أكتوبر /2012


الخميس، أكتوبر 04، 2012

عدم جواز ولاية غير المسلمين

إذا كان المقال السابق
" عدم ولاية غير المسلمين .. هل هي من الدين حقاً "

قد كشف عن الحضور الطاغي لفعل القراءة‏,‏
 حتى في حال اكتفاء المرء بمجرد ترديد آيات القرآن‏,‏
 فإنه يلزم التأكيد علي أن القرآن يصبح, عبر هذا الفعل,
 موضوعا لضروب من التوجيه (الناعمة والغليظة) التي لا تكون
 ـ في غالب الأحوال ـ موضوعا لوعي الممارسين لها.


ويتحقق هذا التوجيه ليس فقط عبر إنطاق وإسكات دلالات بعينها ينطوي عليها القرآن, بل وعبر ما يبدو وكأنه إبدال الدلالات التي فرضها التاريخ بتلك التي يتضمنها القرآن.
 ولعل مثالا علي هذا الضرب الأخير من التوجيه, الذي يجري فيه إستبدال دلالة التاريخ بدلالة القرآن, يأتي من قراءة آية قرآنية تنشغل بتعيين معني المسلم والإسلام, وبما لذلك من تعلق مباشر بمسألة عدم جواز ولاية غير المسلمين;
وأعني بها قوله تعالي:
إن الدين عند الله الإسلام.
فالدلالة المستقرة, في وعي الجمهور, للآية تنبني علي أن معني الإسلام ينصرف إلي ذلك الدين الذي إبتعث به النبي الكريم محمد(,); وبما لابد أن يترتب علي ذلك من أن المسلمين هم- وفقط - أتباع هذا النبي الكريم.

ولسوء الحظ, فإن هذه الدلالة التي إستقرت, في وعي الجمهور, للفظتي إسلام/مسلمين تمثل تضييقا أو حتي نكوصا عن الدلالة التي يقصد إليها القرآن خلال إستخدامه لكلتا اللفظتين.
بل إن إختبارا لهذا الإستخدام القرآني يكشف عن أن هذه الدلالة المستقرة للفظتي إسلام/مسلمين تكاد أن تكون قد تبلورت ـ وتطورت ـ خارج القرآن,
علي نحو شبه كامل.
وإذن, فإنها تبدو أقرب ما تكون إلي الدلالة الإصطلاحية, التي تمتزج فيها المقاصد الواعية وغير الواعية لمن إصطلحوا عليها; وعلي النحو الذي تعكس فيه عناصر تجربتهم التاريخية, ولو كان ذلك علي حساب القرآن ذاته.

فإذ تنبني الدلالة الإصطلاحية علي صرف معني لفظة مسلمين مثلا, إلي أتباع النبي محمد(,) 
فحسب,
 فإن الدلالة السيمانطقية, الغالبة علي الإستخدام القرآني لتلك اللفظة ذاتها, لا تقصر المعني علي هؤلاء فقط, 


بل تتسع به ليشمل غيرهم من أتباع الأنبياء السابقين أيضا.
 وهكذا, فإن اللفظة مسلمون/مسلمين قد وردت, في القرآن, حوالي ست وثلاثين مرة, إنطوت فيها, في الأغلب, علي دلالة تسليم المرء وجهه لله, من دون أن يكون ذلك مقرونا بإتباع نبي من الأنبياء بعينه. 
بل إن بعض الآيات يستخدم لفظة مسلمون/مسلمين صراحة, للإشارة إلي من هم من غير أتباع النبي محمد(,).

ومن ذلك, مثلا, إشارته إلي بني يعقوب بإعتبارهم من المسلمين;
 وذلك في قوله تعالي:
 أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت,
 إذ قال لبنيه:
 ما تعبدون من بعدي, قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون ........ البقرة:133
والحق أن المرء يكاد يلحظ أن القرآن يكاد, علي العموم, أن يصرف دلالة اللفظة إلي فعل التسليم لله وذلك فيما تلح الدلالة الإصطلاحية علي صرف الدلالة إلي فعل الإتباع لنبي من أنبياء الله بالذات.
وتبعا لذلك, فإنه إذا كان غير المسلم هو
ـ بحسب دلالة الإصطلاح المستقرة, في وعي الجمهور ـ
 كل من لا يتبع دين النبي محمد(,), فإنه, وبحسب الدلالة المتداولة في القرآن, هو كل من لا يسلم وجهه لله; وبما لابد أن يترتب علي ذلك من أن كل من يسلم وجهه لله حقا, هو من المسلمين, حتي ولو لم يكن متبعا لدين النبي الخاتم.

 وإذ يفتح ذلك الباب أمام إدخال البعض ممن يقال أنهم من غير المسلمين إلي دين الإسلام, إبتداء من تسليمهم الوجه لله, فإنه سوف يفتحه بالمثل أمام إخراج الكثيرين ممن يقال أنهم من المسلمين, من دين الإسلام, لأنهم لا يعرفون الإسلام بما تسليم الوجه لله, بل بما هو قناع لتسليم الناس ـ أو حتي إستسلامهم ـ لهم, بدلا من الله.

 فإنه إذا كان القصد من تسليم الناس وجوههم لله وحده, هو تحريرهم من الخضوع لكل آلهة الأرض الزائفة, فإن ما يجري من تحويل الدين إلي قناع لاستعباد الناس وتيسير السيطرة عليهم لا يمكن أن يكون من قبيل الإسلام أبدا.
ولعل ذلك يكشف عن عدم إنضباط مفهوم غير المسلم; وأعني من حيث تبقي المسافة قائمة بين المعني الذي يصرفه إليه القرآن من أنه زمن لا يسلم وجهه للهس وبين المعني الذي فرضه عليه التاريخ من أنه زمن لا يتبع نبوة محمد عليه السلام.

 وبالطبع فإنه لا مجال للإحتجاج بأن معني الإسلام, بما هو تسليم الوجه لله, قد تحقق علي الوجه الأكمل مع نبوة النبي الخاتم محمد(,), فإن القرآن يتضمن بين جنباته ما يزحزح هذا الإعتقاد; وذلك حين يمضي إلي أن ثمة من اليهود والنصاري والصابئة من يتشارك مع المؤمنين بنبوة محمد عليه السلام في تسليم الوجه لله حقا,
وأنهم ـ لذلك ـ لهم أجرهم عند ربهم...
ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
إذ يقول تعالي:
 إن الذين آمنوا( يعني بمحمد) والذين هادوا والنصاري والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم...البقرة:62.
 وهكذا فإن القرآن لا يقصر معني الإسلام بما هو تسليم الوجه لله ـ حتي بعد إبتعاث النبي محمد(,) ـ علي المؤمنين بنبوته فحسب,
بل إنه يتسع به ليشمل غيرهم أيضا.

 وغني عن البيان أن ذلك يرتبط بحقيقة أن مدار تركيز القرآن هو علي فعل تسليم الوجه لله وحده وليس علي الباب الذي يتحقق من خلاله هذا الفعل,
 وحتي علي فرض أن القرآن يمضي إلي أن الباب الأكمل لتحقق هذا الفعل هو باب النبي محمد(,),
 فإنه لم يدحض إمكان تحققه من غير هذا الباب أيضا.

يبدو, إذن, أن التاريخ, وليس القرآن,
 هو ما يقف وراء تثبيت الدلالة المستقرة للآية القرآنية إن الدين عند الله الإسلام
 وهو ما يدرك من يستدعي هذه الآية أنه سيلعب دورا حاسما في توجيه المتلقين لها إلي إنتاج ذات الدلالة المستقرة.
وهو يدرك أيضا أن إثارة المعني السيمانطيقي المتداول في القرآن للفظة إسلام سيؤدي, لا محالة, إلي زحزحة الدلالة التي قام التاريخ بترسيخها, ومن هنا أنه يسكت عنه تماما, رغم ما يبدو من ظهوره الجلي في القرآن.
 فهل يدرك المتلاعبون سياسيا بالإسلام أنهم ينحازون للتاريخ علي حساب القرآن؟

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 4 / أكتوبر /2012