الجمعة، ديسمبر 28، 2012

تنــــــــــــويه .. !!




سوف يتم اعادة طرح كتاب :

" النبوة .. من علم العقائد الى فلسفة التاريخ "
للدكتور علي مبروك 

على هيئة محاضرات تم تدريسها عام 1999م
 لطلبة الفرقة الثانية 
-كـلية الآداب / قسم الفلسفة -
بمعـــدل محاضرة كـــل اسبوع
بــدءاً من العــــــام الجـديــــد 2013 

وبتلك المناسبة يتمنى لكم الدكتور على مبروك عاماً جديداً سعيداً



الخميس، ديسمبر 27، 2012

المصـريون والحـرية




رغم أن الحرية كانت أحد أهم المطالب التي دوت بها حناجر الخارجين علي مبارك‏,‏ علي مدي الأيام السابقة علي رحيله‏,‏
 فإن نظرة على ما جري على مدار الأشهر العشرين التي أعقبت السقوط المدوي لنظامه, لتكشف عن الاتجاه إلي الإثقال علي المجالين العام والخاص بالمزيد من القيود والكوابح, بدلاً من التخفيف عنهما وتحريرهما; بما يفتح الباب لإخراج مصر من الأزمة التي تتخبط فيها علي مدي عقود.

ولسوء الحظ, فإنه يجري الترويج لهذا الإثقال علي مصر, بأنه نتاج الإرادة( الحرة!) للمصريين; وعلي النحو الذي يجري فيه الإيهام بأن هذا الفعل المهدد للحرية, هو- نفسه- فعل حرية. 

وبالطبع فإن ذلك لابد أن يفتح الباب أمام التساؤل عن مشروعية أن تلغي الحرية نفسها, وعما إذا كان ممكناً للناس أن يلغوا حريتهم ويهربوا منها, وهل يكونون أحراراً بالفعل حين يقومون بذلك, أم أنهم يكونون مجبرين علي ذلك, حتي وإن بدا أنهم يفعلونه بإرادتهم؟.


يكشف ما سبق لعالم التحليل النفسي الأمريكي إريك فروم القيام به في كتابه الشهير الهروب من الحرية
- الذي خصصه لتحليل تجربة الشعب الألماني أثناء الحقبة النازية-
 عن حقيقة أن الناس يكونون مجبرين علي هذا الهروب من الحرية, حتي وإن بدا أنه يكون إرادة لهم.
 فقد كشف له تحليل تلك التجربة الأليمة عن أن رضوخ الألمان لسلطة الفوهرر المطلقة, لم يكن اختيارا لهم, بقدر ما كان فعل اضطرار دفعت إليه الظروف القاسية التي واجهتها ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب الأولي;
 وبكل ما ترتب عليها من نتائج كارثية لا تقف عند حدود السياسة والاقتصاد, بل تتجاوزها إلي ما كان يعتمل في النفسية الجريحة للشعب الألماني.
 وبالطبع فإن كون الأسباب المحددة للفعل لا تقف عند حدود ما يمسك به الوعي, بل تتجاوزه إلي ما يرقد تحته في الأغوار السحيقة للمكبوت اللاواعي للشعوب, ينتهي
- وبالضرورة -
 إلي أن الفعل الصادر عنها لا يمكن أن يكون فعل حرية واختيار, بقدر ما هو- وبيقين- فعل اضطرار.

لم يكن الألمان, إذن, أحراراً في هربهم من حريتهم,
 بل كانوا تحت وطأة ضغوط لم تسمح لهم بغير ما فعلوه.
 إن ذلك يعني - ومن دون أي مواربة - أن فعلاً يلغي الحرية
لا يمكن أن يكون- هو نفسه - فعل حرية;
 وفقط فإن الضغوط والإكراهات التي تحدده وتتحكم فيه تتواري عن وعي صانعيه, فيجعلهم هذا التواري يتصورون أن فعلهم حر, وهو ليس كذلك بالفعل.
وبالطبع فإن ما يثير الالتباس, بهذا الخصوص, هو أن هذه الإكراهات والضغوط تكون علي قدر من الرهافة, لا يسمح لها بأن تكون موضوعا لوعي مباشر.
 ويرتبط ذلك بأنها لا تكون عوائق خارجية يسهل علي الوعي ملامستها والإمساك بها, بل تكون جزءاً من البنيات الداخلية الأعمق( النفسية والذهنية) للجمهور; وبما يعنيه ذلك من أن توجيهها لهذا الجمهور يكون خارجا عن سيطرة وعيه علي نحو كامل.
 إن ذلك يعني وجوب السعي إلي الكشف عن هذه الإكراهات المتخفية, ووضعها تحت بصر الجمهور, ليتسني الانتقال به إلي مقام الفاعل الحر حقا.

 ومن دون ذلك فإن الفعل الصادر عن هذا الجمهور سيظل فعل لزوم وإجبار, حتي وإن توافرت له كل الأدوات الخارجية التي تتحقق من خلالها أفعال الاختيار, كالانتخابات وغيرها.
وإذ لا يمكن الشك أبداً في أن مجمل هذه الإكراهات الرهيفة الناعمة تفعل فعلها في المشهد المصري الراهن,
 فإن فعالية الشرط المعرفي من بينها تبدو الأكثر اشتغالا في تفسير ما يظهر من الإثقال بالقيود والكوابح علي المجالين العام والخاص.
وهنا تأتي المفارقة من أنه إذا كان فعل المعرفة هو الجوهر العميق لفعل الحرية, فإنه يبدو وكأنه يمثل
- في الحال المصري -
 جوهر ما يتهدد الحرية الحقة للمصريين.
 وهنا يلزم التنويه بأن التأكيد علي أن تصور الحرية, ومعها المعرفة, كفعل إنما يرتبط بوجوب إدراك الواحدة منهما كممارسة مفتوحة, وليس كجوهر أو معطي ثابت;
 وهو أمر له دلالته القصوي.
 حيث إن تصور المعرفة, مثلا, كمعطي ثابت; علي النحو الذي يجعل منها معرفة مطلقة وموهوبة من مرجعية عليا
( لن تتردد عن فرض نفسها كسلطة كهنوت),
 لا يمكن أن يؤسس لحرية حقة, بل إنها ستكون, بدورها, هبة يستطيع من يهبها أن ينتزعها حين يشاء.

 وحين يدرك المرء أن ثمة من قد سعوا, بالفعل, إلي تثبيت مفهوم المرجعية الحاكمة عند الخلاف( حول الشريعة)
 في الدستور المصري الجديد,
 فإن له أن يقدر حجم ما يتهدد مستقبل الحريات في مصر.
 وإذ يبين أن الجماعات السلفية كانت هي الأعلي صوتاً في الدعوة إلي تثبيت مفهوم المرجعية في بنية دستور ما بعد الثورة المصرية الذي جري الاستفتاء عليه,
 فإن ذلك يرتبط بما أكده الآباء المؤسسون للخطاب السلفي من عدم جواز أي معرفة إلا عبر الابتداء بتثبيت مرجعية تقوم مقام الأصل الذي يحدد ما يمكن القبول به منها, وما لا يمكن أن يكون مقبولا أبدا.

 يقول صاحب كتاب( الحيدة وانتصار المنهج السلفي):
 لابد من أصل يرجع إليه عند الاختلاف...,
 فنؤصل بيننا أصلاً, فإذا اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلي الأصل, فإن وجدناه فيه( قبلناه), وإلا رميناه, ولم نلتفت إليه.

إن ذلك يعني أن ما يبين من سعي السلفيين إلي الإثقال بالقيود علي حرية التفكير من خلال تثبيت مفهوم المرجعية في الدستور, هو محض انعكاس لنظام المعرفة الذي صاغه الآباء المؤسسون.
ولعل ذلك يعني أن تحول المعرفة إلي عائق يتهدد الحرية إنما يرتبط بكيفية انبنائها; وأعني بما إذا كانت تنبني كممارسة مفتوحة
( تكون فيها شئون الناس موضوعا لحوار العقلاء),
 أو تنبني كهبة معطاة من سلطة أو مرجعية عليا, تقع خارج دوائر النقاش والسؤال.
 وغني عن البيان أن انبناءها, كهبة معطاة من سلطة ما,
 هو أخطر ما يتهدد آفاق التحول الديمقراطي في مصر;
وأعني من حيث تكون المعرفة, علي هذا النحو, إطاراً لترسيخ العقل التابع
(الذي تحيل تبعيته إلي خضوعه),
 بدل أن تكون ساحة لانبثاق وتبلور العقل الناقد بما يحيل إليه من قدرة علي التفكير المستقل, التي هي بمثابة الشرط المؤسس لكل حرية.
ولأنه ليس من المتوقع أن يتحقق تحول سريع في نظام إنتاج المعرفة الغالب علي الجمهور في مصر
(لأن هذا النوع من التحول يكون في حاجة إلي زمن متطاول نسبيا),

 فإن للمرء أن يتوقع أن تدوي حناجر المصريين من أجل الحرية, بعد زمن قد يطول أو يقصر,
 ومع الأمل بأن يكونوا قد انتقلوا بالمعرفة, حينها,
 من مقام المعطي الجاهز
( وهو النمط الذي يمثل الجذر الغائر لكل استبداد),
إلي وضع التكوين المفتوح
( علي النحو الذي يجعل منها, هي نفسها, فعلاً تحررياً)
وذلك لكي يحرثوا البحر من جديد.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 27 ديسمبر 2012


الأحد، ديسمبر 23، 2012

الخميس، ديسمبر 13، 2012

آلية التفكير الحاكمة لكتابة الدستور





لابد من التنويه ـ منذ البدء ـ
بأن الوثيقة الأولية التي طرحتها الجمعية الموكول إليها كتابة دستور
ما بعد الثورة في مصر‏,‏ للنقاش العام‏,‏
إنما تكشف ـ وعلي نحو نموذجي ـ
عن طبيعة الآلية التي يشتغل بها العقل المهيمن في عالم العرب منذ آماد بعيدة;
 وهي آلية الجمع التجاوري,
 بكل ما تقوم عليه من الإلحاق القسري والتلفيق بين عناصر لا تأتلف ويصادم واحدها الآخر,
وعلي نحو لا تقدر معه علي الإنتاج المثمر أبدا.
وللإنصاف فإن هذه الوثيقة لا تختلف عن غيرها مما أنتجته النخبة المصرية
 علي مدي تاريخها الطويل;
 وأعني منذ ابتداء تشكلها في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
وفقط فإنها كانت تتقن تشكيل وزخرفة ما تنتج فيما سبق;
وبحيث كانت تنجح في إخفاء عوار تفكيرها وراء بلاغة الصياغة وبهاء التعبير,
 وأما الآن فإنها قد بلغت حدا من الانهيار والتدهور راحت معه تضيف إلي فقر الفكر وهشاشته بؤس الأسلوب وركاكته.

والحق أنه إذا كان ما تشهده مصر من الارتباك والتخبط,
 علي مدي الشهور التي أعقبت رحيل مبارك, يكشف عن تردي نخبتها علي صعيد الممارسة والعمل,
 فإن هذه الوثيقة تشهد علي بلوغها الحد الأقصي من التراجع والتردي,
علي صعيد النظر, أيضا.
فعند ابتداء لحظة التشكل قبل انتصاف القرن التاسع عشر,
 كان الأب المؤسس( الذي هو الطهطاوي) يدشن تلك الآلية,
 في صورتها التي لا يزال ورثته يحتذونها, علي مدي القرنين تقريبا, للآن.
 وللغرابة فإنه إذا كان حقل تدشينها ـ مع الرائد المؤسس ـ
 هو التأسيس السياسي لدولة الباشا, فإنها تعود للاشتغال,
 علي نحو لافت, عند ورثته الحاليين في إطار انهماكهم في كتابة الدستور
 الذي هو الوثيقة الأرفع في مجال التأسيس السياسي لدولة ما بعد الثورة.
لا يعني ذلك ـ بالطبع ـ أن آلية الجمع التجاوري لا تعمل في غير هذا المجال,
 بقدر ما يعني أن حقل التأسيس السياسي هو أبرز حقول اشتغالها.
وهكذا فإنه إذا كان الطهطاوي قد مضي
 ـ في سياق كشف الغطاء عن تدبير الفرنساوية, مستوفياً غالب أحكامهم ليكون تدبيرهم العجيب عبرة لمن اعتبر ـ
 إلي إن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف, وإن السياسة الفرنساوية هي قانون مقيد; بحيث إن الحاكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين التي يرضي بها أهل الدواوين, فإنه يضع إلي جوار ذلك قوله
ـ كاشفا الغطاء عن تدبير دولته المصرية ـ
إن للملوك في ممالكهم حقوقا تسمي بالمزايا, وعليهم واجبات في حق الرعايا.

فمن مزايا الملك أنه خليفة الله في أرضه,
 وأن حسابه علي ربه, فليس عليه في فعله مسؤولية لأحد من رعاياه,
وإنما يذكر للحكم والحكمة من طرف أرباب الشرعيات أو السياسات برفق ولين, لإخطاره بما عسي أن يكون قد غفل عنه, مع حسن الظن به.
 وإذ لا يفعل الرجل, هكذا, إلا أن يجاور بين الاعتبار بالتقليد الليبرالي الحديث,
 وبين التأكيد علي التقليد السلطاني الموروث;
فإنه كان يؤسس لما سيمضي إليه الورثة الحاليون من النص
 ـ  في المادة(6) من الوثيقة الأولية للدستور ـ
علي أن النظام الديمقراطي( المنتمي إلي التقليد الليبرالي الحديث)
يقوم علي مبدأ الشوري
( المنتمي إلي التقليد السلطاني الموروث;
 والذي يقصر الطهطاوي دلالته علي تذكير أرباب الشرعيات أو السياسات للحاكم بما عسي أن يكون قد غفل عنه برفق ولين).
ولسوء الحظ, فإن التجاور بين الأطراف, علي هذا النحو,
 لا يسمح للواحد منها أن ينفتح علي الآخر, مؤثرا فيه ومتأثرا به,
 بل يبقي منغلقاً علي نفسه,
 وساعياً إلي إقصاء غيره;
وبما يعنيه ذلك من أن التناحر والخصومة تكون هي مآل العلاقة
بين أي أطراف متجاورة.
 ولأن هذه الأطراف لا تكون متعادلة في عمق الحضور والقوة,
 بل إن منها ما يكون أقرب إلي القشرة الطافية علي السطح
( التي تشتمل علي كل ما ينتسب إلي التقليد الحديث),
 ومنها ما يمارس في العمق هيمنة لا تقبل التحدي
( ويشتمل علي كل ما ينتمي إلي التقليد الموروث),
 فإنه لابد من تصور أن ما سيجري إبعاده عن مجال الاشتغال الحقيقي
 هو الطرف( الحديث),
 الذي لن يكون مسموحا له بالحضور إلا كقناع يتجمل به التراث, متي شاء.

وهكذا فإنه إذا كان التقليد السلطاني الراسخ قد انتهي, مع الطهطاوي,
إلي إزاحة القول الليبرالي الناشئ,
 وأحاله إلي مجرد برقع يستتر وراءه, فإن الأمر لن يختلف مع ورثته الذين يكتبون الدستور الآن.
وبالطبع فإن قدرة الموروث علي فرض هذه الهيمنة الكاملة تتآتي من ربطه بالدين; وذلك علي الرغم من أن ما يجري استدعاؤه من التراث للاشتغال السياسي الراهن, ويجري تنسيبه للدين,
 هو ـ في معظمه ـ قواعد للضبط السياسي والاجتماعي التي تضرب بجذورها في التاريخ, وليس في الدين.
 وحين يضاف إلي ذلك, أيضا, أن الديني نفسه يكون موضوعاً لقراءات تأويلية تخضع, بطبيعتها لجملة المحددات الاجتماعية والسياسية
التي تفرضها لحظة إنتاجها;
 وبما يعنيه ذلك من أن التاريخ يدخل في تركيبها, لا محالة,
فإن ذلك يعني أن كل ما يجري استدعاءه من التراث,
 ليتحدد به المجال السياسي الراهن,
هي جملة تراكيب أنتجها البشر, ويلعب التاريخ دورا جوهريا في بنائها.
 وبالطبع فإنه لا يجري السكوت, فحسب,
 عن المحددات التاريخية لهذه التراكيب التي أنتجها البشر,
 بل ويجري تنسيبها إلي الدين, لتكتسب قداسته,
وتستقر في الوعي ـ وحتي اللاوعي ـ
كدين واجب الإتباع; وذلك هو الأصل في كل تلاعبات جماعات الإسلام السياسي.

ومن جهة أخري,
 فإن كون ما يجري وضعه في الدستور,
 من القواعد والمبادئ الحديثة ليس لها مثيل التاريخ المتجذر الطويل
 للموروث الكامن,
 فإن حضورها يكون هشاً وقابلاً للإطاحة به,
 عندما يثور بينهما أدني اختلاف.
 ولسوء الحظ,
فإن ذلك يعني أن ما تنشأ الدساتير من أجل تحصينه والإعلاء من شأنه
( من قبيل المساواة بين المواطنين وحظر التمييز بينهم بسبب الدين أو المذهب أو الجنس,
 وتثبيت مبدأ تداول السلطة والرقابة عليها,
 وإمكان محاسبة القائمين عليها, وغيرها من المبادئ التي بلغتها الإنسانية عبر مسار تطورها الطويل)
سوف تكون موضوعا للتهديد, علي نحو كامل,
 بسبب ما يقوم إلي جوارها مما يفتح الباب واسعاً أمام القفز علي كل ما تلزم به. وهكذا فإن أحداً لا يجادل في أنه سيتم النص, في الدستور,
 علي كل المبادئ العليا المنصوص عليها في الدساتير الحديثة,
ولكن المجادلة تتعلق بأن ما سيقوم إلي جوارها,
 من تركيبات تراثية سوف يجعل منها مجرد إكسسوارات للتجمل والزينة, 
لا غير.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 13 ديسمبر 2012





الاثنين، ديسمبر 03، 2012

حوار الدكتور علي مبروك مع حركة مصر المدنية




5 / نوفمبر /2012
حـــديث عـــن الفـلـسـفــــــــة



12 / نوفمبر /2012

د, علي مبروك : العقل النقدي والعقل التبعي






20 / 11 / 2012

د. علي مبروك: اشكالية الدستور القادم




الخميس، نوفمبر 29، 2012

رشــيد رضــا ومـا يكـتـبه تأسيـسـيو الدستــور



إذا كان المشهد المصري الراهن يطفح بالعديد من مظاهر التردي والبؤس‏,‏
 فإن ما يجوز اعتباره الأكثر بؤسا من بينها يتمثل في ظاهرة الفقر المعرفي
 الذي ترزح تحت وطأته النخبة المتغلبة في مصر.
 وليس من شك في أن هذا الفقر هو ما يؤسس لما تعيشه مصر من التردي والنكوص; الذي تقطع به حقيقة أن ما كان يكتبه المصريون ويفكرون فيه قبل مائة عام,
هو الأرقي, بما لا يقاس, من كثير مما يكتبونه ويفكرون فيه الآن.


لعل مثالاً علي هذا النكوص المزري يمكن أن تقدمه قراءة مقارنة بين ما كتبه
الأستاذ رشيد رضا 

حول مسألة الحكم المقيد (أو الديمقراطي) والشوري,
 وبين ما كتبه تأسيسيو الدستور,
حول المسألة نفسها, بعد ما يربو علي المائة عام تقريبا.
إذ فيما كان السيد رضا حريصا - فيما يخص تلك المسألة - علي بيان الحقيقة,
 ولو كانت صادمة لأوهام الجمهور,
 فإن متغلبي تأسيسية الدستور قد انحازوا إلي أوهامهم, وليس أوهام الجمهور فحسب, علي حساب الحقيقة.
فإذ انشغل السيد رضا بنقد الاستبداد,
 وإلي حد تأكيد إن القوم الذين يرضون أن يستبد بهم حاكم يفعل فيهم ما يشاء ويحكم بما يريد ينبغي أن يعدوا من الدواب الراعية, والأنعام السائمة,
 فإنه قد مضي يقرر ـ في صراحة وحسم ـ أن أعظم فائدة استفادها أهل الشرق من الأوروبيين هي معرفة ما يجب أن تكون عليه الحكومة واصطباغ نفوسهم بها
 حتي اندفعوا إلي استبدال الحكم المقيد(أو الديمقراطي) بالحكم المطلق الموكول إلي إرادة الأفراد,
 فمنهم من نال أمله علي وجه الكمال كأهل اليابان, ومنهم من بدأ بذلك كإيران, ومنهم من يجاهد في سبيل ذلك بالقلم واللسان كمصر وتركيا.

ورغم تصريحه بأن الشرق قد استفاد هذه الفائدة وعرف قيمتها(من الأوروبيين),
فإن ذلك لم يمنعه من تقديرها
 وإلي حد اعتباره لها إسهاماً في الارتقاء(بأهل الشرق) من حضن البهيمية,
 إلي أفق الإنسانية;
 وبما يعنيه ذلك من أن موقفه السياسي والإيديولوجي من الأوروبيين لم يشوش علي وعيه بحقيقة أنهم هم أصحاب الفضل في تثبيت نظام الحكم المقيد.

وإذ يبدو الرجل صريحا في رد الفضل في تثبيت نظام الحكم المقيد إلي الأوروبيين, فإنه قد راح يحتج علي من يردونه إلي غير هذا الأصل,
 قائلا:
 فلا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم( المقيد/الديمقراطي) أصل من أصول ديننا, وأننا قد استفدناه من الكتاب المبين, ومن سيرة الخلفاء الراشدين, لا من معاشرة الأوروبيين والوقوف علي حال الغربيين.

 فإنه لولا الإعتبار بحال هؤلاء الناس (الأوروبيين) لما فكرت أنت وأمثالك
بأن هذا من الإسلام,
ولكان أسبق الناس في الدعوة إلي إقامة هذا الركن علماء الدين في الأستانة وفي مصر ومراكش,
 وهم الذين لا يزال أكثرهم يؤيد حكومات الأفراد الاستبدادية ويعد من أكبر أعوانها, ولما كان أكثر طلاب حكم الشوري المقيد هم الذين عرفوا أوروبا والأوروبيين.
ألم تر إلي بلاد مراكش الجاهلة بحال الأوروبيين كيف تتخبط في ظلمات استبدادها ولا تسمع من أحد كلمة شوري, مع أن أهلها من أكثر الناس تلاوة لسورة الشوري ولغيرها من السور التي شرع فيها( الله) الأمر بالمشاورة, وفوض حكم السياسة إلي جماعة أولي الأمر والرأي.
وهكذا لا يتورع الرجل
- وهو من لا يمكن إنكار تأثيره المباشر علي الأستاذ حسن البنا نفسه -
عن القطع باستحالة أن تكون الشوري أصلا للحكم الديمقراطي المقيد.

وإذا كان أكثر ما يلفت النظر في كل ما مضي إليه الرجل هو وعيه الحاسم بما يئول إليه الاستبداد من التنزل بالبشر إلي حال البهيمية,
 وإطلاعه علي ما يجري في العالم من السعي الدءوب لمحاصرة
هذا الاستبداد والقضاء عليه,
وذلك فضلا عن إقراره باستفادة الشرق لنظام الحكم المقيد من الأوروبيين,
وليس من الإسلام كما يجري الإيهام,
فإنه يمكن القول بأن الرجل يلتزم خطاً في التفكير,
 يكاد معه المرء أن يتصور أنه لو قرأ ما يسعي مؤدلجو الإسلام الحاليين إلي تضمينه في دستور ما بعد الثورة في مصر, لوجه إليهم الاتهام بالتدليس والتضليل, علي حساب الحقيقة.
ولسوف تكون حجته في هذا الاتهام أنهم يقلبون الحقائق عن قصد أو عن جهل; وفي الحالين فإنهم يكونون غير مؤتمنين علي مصائر بلد في حجم مصر.

 ولعل المرء يدرك مصداقية ما يوجهه السيد رضا إلي هؤلاء من الاتهام بالتدليس, حين يضع ما أوردوه في مسودة الدستور من أن النظام الديمقراطي يقوم علي مبدأ الشوري;
 وبما تعنيه هذه الصياغة من أن الشوري هي أساس النظام الديمقراطي وأصله
(وذلك باعتبار أن ما يقوم عليه الشيء يكون هو أساسه وأصله),
 في مقابل احتجاجات السيد رشيد رضا المفحمة- وغير القابلة للرد -
علي استحالة أن تكون الشوري هي أصل نظام الحكم المقيد (الديمقراطي) وأساسه; وهي الاحتجاجات التي تستمد قوتها من ارتكانها إلي منطق الواقع القائم
الذي يتعذر دحضه, 
وليس إلي مجرد السرد الوعظي المتخيل.

فعلي مدي التاريخ, لم يتوقف المسلمون- علي قول رضا - عن تلاوة سورة الشوري وغيرها من الآيات التي شرع فيها( الله) الأمر بالمشاورة, وظلوا - مع ذلك - يتخبطون في ظلمات استبدادهم;
وبما يعنيه ذلك من أنها(أي الشوري) لم تكن ناقضة للاستبداد أو هادمة له.

 وفقط فإن معرفتهم بأوروبا والأوروبيين, ووقوفهم علي حال الغربيين هي التي جعلتهم يتعرفون ويطلبون نظام الحكم المقيد,
 بوصفه السبيل للخلاص من الاستبداد الجاثم.
إن ذلك يعني أن الرجل لا يحمل وهم قراءة الديمقراطية(كفرع) بالشوري( كأصل), بمثل ما يفعل تأسيسيو الدستور الحاليين, بل يلح علي ضرورة قراءة الشوري بنظام الحكم( الديمقراطي) المقيد.
ولعله يلزم التأكيد أن التباين بين هذين الضربين من الفهم,
ليس من قبيل ما يمكن التهوين من شأنه,
بل إنه يؤشر علي مدي جدية التعامل مع معضلة الاستبداد.
 ففي حين أن الفهم المستقر للشوري- في أدبيات الفقه السياسي- لا يتجاوز بها حدود تولية الحاكم ومناصحته فقط,
 فإن هذا الفهم لا يقدم ما يمكن به تجاوز معضلة الاستبداد, بل لعله يئول إلي تكريسه. فإن وقوف مبدأ الشوري عند مجرد التولية والمناصحة يجعله أساسا لعلاقة مع الحاكم تغيب عنها, وعلي نحو كامل, آليات مراقبته ومساءلته ومحاسبته; وبما يعنيه ذلك من ترسيخ استبداده.
 وإذ يحيل ذلك إلي محدودية مفهوم الشوري, وعدم فاعليته في مواجهة الاستبداد, وذلك في مقابل رحابة المبدأ الديمقراطي, وفاعليته
( وأعني من حيث اتساعه لآليات الرقابة والمساءلة والمحاسبة...إلخ),
 فإنه يعني أن قراءة رضا للشوري( كفرع) بالديمقراطية( كأصل)
 تبقي هي الأرقي والأكثر معرفية من تلك القراءة الطافحة بالإيديولوجيا التي يقدمها تأسيسيو الدستور الآن .

جريدة الأهرام بتاريخ 29 /نوفمبر/2010


الخميس، نوفمبر 15، 2012

معركة الشريعة بين الأحكام والمبادئ



تدير جماعات الإسلام السياسي معركتها بخصوص
ما ورد في الوثيقة الأولية للدستور من النص
 علي أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع, علي ضرورة استبدال لفظ أحكام بلفظة مبادئ; أو ــ علي الأقل ــ تعرية الشريعة من النص علي المبادئ والأحكام.
 وهنا فإنه يلزم الوقوف علي ما تحتج به هذه الجماعات من وجوب هذا التحويل لدلالة الشريعة من المبادئ إلي الأحكام, ثم تفكيك هذه الحجج علي نحو يكشف عما يسكنها من الخلل والعوار.



يستند التبرير السلفي لوجوب حذف لفظة مبادئ من مادة الشريعة في الدستور إلي أن استخدام اللفظة يقصر الشريعة ــ حسب قول أحدهم ــ علي القواعد العامة من الحق والخير والعدل, التي يتوافق فيها الإسلام مع البوذية;
 وبما يعنيه ذلك من أن الرجل لا يريد بالشريعة ما يربط الإسلام بغيره من أديان أهل الأرض التي تتوافق جميعا علي الأمور الكلية المشتركة, ويريد بها ما يفصله عن غيره من الأديان, من الأمور والأحكام التفصيلية الجزئية.

 وللمفارقة, فإن هذا الفهم ينتهك ما ينزع إليه القرآن الكريم من نسبة فعل التشريع
(ومنه الشريعة) إلي الله وحده,
مع صرف دلالته - بحسب المفسرين الثقاة ــ إلي الأصول الكلية المتوافق عليها بين الأنبياء وأهل الأديان جميعا; وهو ما جعل الإمام الشاطبي يؤكد, في الموافقات في أصول الشريعة, أن هذه الأصول مراعاة في كل ملة.
وإذ يمضي مطلب جعل الشريعة أداة فصل بين الناس في اتجاه معاكس للقرآن, فإنه لا يبقي إلا أن يكون تعبيرا عن بناء عقلي ونفسي لا يري في العالم إلا ساحة للانقسام والتمايز.

ومن حسن الحظ, أنه إذا كان القرآن قد جعل ما يشرعه الله مخصوصاً بما يجمع بين بني البشر من الكليات,
 فإنه قد جعل ما يفاصل بينهم من الأحكام التفصيلية الخاصة من فعل الفقه الذي اختصه بالإنسان.
 ولعل ذلك ما يكشف عنه التداول القرآني للجذرين شرع, وفقه; وأعني من حيث يجعل فعل تشريع الدين مختصا بالله وحده
(في قوله: شرع لكم من الدين- الشوري,13),
وذلك فيما يجعل فعل التفقه في الدين مردودا إلي البشر
(في قوله: منهم طائفة ليتفقهوا في الدين- التوبة,122).

والحق أن داعية السلفية لا يرفض لفظة مبادئ في مادة الشريعة,
لتعلقها ــ فحسب ــ بالكليات المشتركة التي تصل الإسلام بغيره من الأديان, بل لكون هذه المبادئ تؤشر فقط علي ما هو قطعي الثبوت والدلالة;
 وبما يعنيه ذلك ــ وعلي قول أحدهم ــ من أن ما هو ظني الثبوت والدلالة
ــ والذي يمثل علي قوله القدر الأعظم مما يقول إنها الشريعة ــ
سوف يوضع خارجها.
 ولهذا فإنه يريد تعرية الشريعة عن لفظة المبادئ,
 ليتسني له إلحاق هذا الظني بها.

وحين يدرك المرء أن الظني هو ما يتميز بانفتاح دلالته وحركيتها,
وعدم قطعيتها,
 فإنه سيتحقق من أن الله قد أراد له أن يكون ظنياً ليصبح موضوعا لفعل التفقه في الدين الذي ينسبه القرآن الكريم إلي البشر;
 بحيث يكون متروكا لهم تحديد دلالته, بحسب ما يناسب طبيعة وعيهم وواقعهم, وتفعيلا لمبدأ رفع الحرج.
وبالطبع فإن الناتج عن فعل تفقه البشر( في هذا الظني الدلالة)
لابد أن يكون عاكساً لواقع تاريخهم;
وعلى النحو الذي يمكن معه القول إن السعي الملحاح من جانب دعاة السلفية إلي نقله من مجال الفقه( ذي الطابع الإنساني)
إلي الشريعة( ذات الأصل الإلهي),
 إنما يقدم الدليل العملي الواضح علي ممارستهم الأثيرة في تحويل التاريخ إلي دين. 

وليس من شك في أن فرض هذا التاريخ السابق علي الناس,
 كدين واجب الاتباع,
 سوف يضع الناس في الحرج الذي ينطق القرآن الكريم صريحاً بأن الله لا يريده أبداً للبشر,
 وذلك في قوله:
 وما جعل عليكم في الدين من حرج.
 ويرتبط هذا الوضع للناس في الحرج بحقيقة أن ما يكون به الصلاح في وقت بعينه, قد لا يستجلب الصلاح نفسه في غير هذا الوقت; وبما يعنيه ذلك من أن صلاح الشئ مرتبط بوقته, وليس أمرا مطلقا أبدا.
ولأن أحداً قد يحتج بأن الفقه هو وضع إلهي,
 وبالتالي فإن صلاحيته مطلقة خارج الوقت; فإنه يلزم التأكيد ــ من جهة ــ
إلا أن الفقه, بما هو نتاج فعل التفقه في الدين, مردود حسب القرآن نفسه إلي الناس, وليس إلي الله, وذلك فضلا عما بدا من استحالة تفسير تعدد الوحي, وهو فعل الله حقا, لا مجازا, إلا عبر قاعدة ربط الصلاح بالوقت.
فقد بدا أن تفسير التعدد الحاصل في فعل الوحي هو مما يستحيل تماما إلا عبر ربط الصلاح بالوقت;
 وإلا فإنه ستتم نسبة النقص إلي الله( جل شأنه),
 فإنه لو قيل:
 إن الوحي الثاني أصلح من الأول(من دون ربط هذا الصلاح بوقته),
لكان( هذا الوحي) الأول ناقص الصلاح; فكيف يأمر الله به( وهو الناقص)؟,
 قلنا ــ والقول للرازي في مفاتيح الغيب ــ
إن( الوحي) الأول أصلح من( الوحي) الثاني بالنسبة إلي الوقت الأول,
والثاني بالعكس منه.

 وهكذا لا يتورع من هو في وزن الرازي عن التعامل مع الوحي( وهو فعل إلهي), بحسب قاعدة ربط الصلاح بالوقت, لكيلا يصار إلي نسبة النقص إلي الله ..
 فهل يجوز ربط الصلاح بالوقت في حال الوحي( وهو فعل الله لا محالة), بينما لا يكون ذلك جائزا في حال الفقه( وهو فعل الناس بامتياز)؟.

إن ذلك يعني أنه, وعلي فرض أن الفقه هو وضع إلهي, فإن ذلك لا ينبغي ألا يحول دون ربط صلاحه بالوقت, قياساً علي ربط صلاح الوحي ــ وهو فعل الله الصريح ــ بالوقت,
 وإذ يحيل ذلك إلي اعتبار الله(جل شأنه) للسياق الإنساني المتغير, وذلك فيما يصر هؤلاء- عن عمد أو جهل - علي إهدار هذا السياق بالكلية,
 فإنه لا يمكن قبول ما يزعمون من أن هذا الإهدار هو من أجل إعلاء كلمة الدين; وذلك إلا أن يكون دين سلاطين الاستبداد, وليس أبدا دين الله الذي هو أكثر رحمة بالعباد!.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 15/نوفمبر/2012


الخميس، نوفمبر 01، 2012

عن الدستور والشريعة والعقل والجمهور



تتصاعد في الفضاء المصري الراهن بشائر حرب طاحنة‏,‏
 تدور رحاها بين الفرقاء المتناحرين حول مادة الشريعة في الدستور
 الذي تجري كتابته الآن,
 في ظل استقطابات وتجاذبات يسعي البعض ضمنها لحسم الأمر لمصلحته عبر التهديد باستدعاء الجمهور المتحمس, 
إلي ساحات الصدام والمواجهة.

وإذا كان التهديد بالجمهور يصدر- بالأساس- عن جماعات الإسلام السياسي, فإن ذلك لا يرتبط, فحسب, بقدرتها علي تحشيد الجمهور الملتزم التابع, بقدر ما يرتبط
- فضلا عن ذلك -
بتعارض ما تطرحه من آراء مع منطق العقل;
وعلي النحو الذي يبدو معه أنها لا تجد ما تجابه به منطق العقل,
إلا حماس الجمهور.

 وهكذا فإن الجمهور الذي يجري التهديد به
 هو أقرب ما يكون إلي قوة القمع منه إلي شاهد العدل,
 لأنه يحضر إلي الساحة, لا كأفراد يمتلكون إرادة حرة, ويقدرون علي التفكير المستقل,
فإن هذا الجمهور لا يصدر في اختياراته عن العقل, بل يصدر فيها عن انفعالاته
- أو حتي غرائزه- الأولية;
حتي وإن تعلق الأمر بما لا يمكن أن يكون موضوعا للانفعال والغريزة,
 كالشريعة.

 ولسوء الحظ,
 فإنه إذا كانت جماعات الإسلام السياسي لا تجد ما تحسم به معركة الشريعة إلا هذا الجمهور
( الذي يبدو أن أحدا لا يريد له أن يغادر موقع الضحية),
فإن ذلك يكشف عن مفارقة التوافق بين نظام مبارك وبين هذه الجماعات الوارثة له; وأعني من حيث لا يريدان لهذا الجمهور أن يغادر موقع من يمارس الاختيار
(علي فرض أنه اختيار) بمنطق الغريزة والانفعال.

ولكن فيما كان نظام مبارك يخاطب غرائز وانفعالات جمهوره بالفن الردئ وكرة القدم بالذات, فإن ورثته من جماعات الإسلام السياسي يخاطبون غرائز جمهورهم وانفعالاته بالدين.
وبالطبع فإن الجمهور مستعد للتجاوب معهم, ولو حتي علي سبيل التكفير عما يراه خطايا انغماسه في رذائله السابقة, من دون أن يدري أن إرتقاءه الحقيقي سوف يتحقق, فقط, بتوقفه عن التفكير بالغريزة والانفعال, وليس بمجرد جعل الدين موضوعا لهذا النوع من التفكير الأولي.
 والمؤسف أنه إذا كان لا يقدر بذلك علي الارتقاء بنفسه, فإنه يتنزل بالدين إلي حيث يجعل منه ساحة للانحيازات والتعصبات الذميمة.

فإنه إذا كان البعض- ولأسباب سياسية ظرفية خالصة -
يتعامل مع ما يقول إنها إرادة الجمهور علي أنها البقرة المقدسة التي ينبغي السجود لها, فإنه يلزم التنويه بأن هذه الإرادة لا يمكن أن تكون موضوعا للقبول أبدا.
 بل إنها كثيرا ما تكون موضوعا للإدانة والوصم.
 فليس من شك في أن منتجي الفن الغرائزي الهابط كانوا- وسيظلون-
 يتخفون وراء ما يقولون إنها إرادة الجمهور لتبرير ما يقدمون من نتاجات رديئة. 

ليست إرادة الجمهور مرادفا للحق والصواب,
 إذن, بل إنها قد تكون غطاء للرداءة والانحطاط.
وبالطبع فإنه يستحيل الاحتجاج بأن تعلق إرادة الجمهور بالدين
(بعد أن كانت تتعلق- قبلا- بالفن الهابط),
 قد ارتقي وتسامي بها; إذ الحق أنها هي التي تحيل الدين- بل وأحالته بالفعل- إلي ساحة لانكشاف كل ما يرتبط بالغريزة والانفعال من التعصب والنزوع لتحقيق السيادة والهيمنة وسحق الآخرين.
 ومن هنا غرابة تخفي جماعات الإسلام السياسي وراء هذه الإرادة
(التي كانت موضوعا لإدانتهم, لا شك, حين تعلقت بالفن المنحط),
 لتضمين الدستور المقترح كل ما يتدني به إلي حيث لا يمكن أن يكون الوثيقة المحددة لملامح المسار المصري في القرن الحادي والعشرين.

ولابد, هنا, من تأكيد أن هذا التدني لا يرتبط أبدا بالشريعة, بل بفهم القطاع الصاخب, علي الأقل, من هذه الجماعات للشريعة; وأعني القوي السلفية بالذات.
 ولسوء الحظ,
فإن التطابق يبدو كاملا بين كل من
نوعي الجمهور والشريعة اللذين تستدعيهما هذه القوي الصاخبة.

 فإنه إذا كان قد بدا أن الجمهور الذي تهدد هذه القوي باستدعائه,
هو الجمهور كقوة تعمل خارج منطق العقل,
فإنها لا تكتفي بإستدعاء مفهوم للشريعة يتعارض مع منطق العقل, بل يعاكس
- وهو الأخطر- المجال الدلالي للمفهوم في القرآن;
وبما يومئ به ذلك من أن الخروج علي مقتضي العقل يؤول إلي الانحراف عن مقصد القرآن. وإذا كان خروجهم بالمفهوم عن مقتضي العقل يتأتي من تصورهم له كبناء مكتمل ومغلق; وبما يخرج به منطق العقل الذي يعادي الأبنية المغلقة علي العموم, فإن إخراجه عن مقصد القرآن يبين جليا في مقصد السلفيين تحويل دلالته من المبادئ الكلية إلي الأحكام التفصيلية الجزئية.

 والحق أن الصراع الراهن, في مصر, هو في جوهره
 صراع حول هذا التحويل الدلالي, وليس أبداً حول وجود الشريعة, أو عدمه, في الدستور.
 فإنه ليس في مصر من يصارع من أجل عدم تضمين الشريعة في الدستور, بل هي المواجهة مع التحويل الدلالي لها من المبدأ الكلي إلي الحكم الجزئي;
 وهو التحويل الذي تريد القوي السلفية فرضه علي الكافة,
رغم ما يبدو من تعارضه الصريح مع دلالة القرآن.

فقد مضي الفخر الرازي في مفاتيح الغيب إلي أن المقصود
من الآية: (شرع لكم من الدين),
 ديناً تطابقت الأنبياء علي صحته,
وأقول يجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئاً مغايرا للتكاليف والأحكام,
 وذلك لأنها مختلفة متفاوتة;
وبما يعنيه ذلك من أن دلالة الجذر شرع (ومنه الشريعة) تنصرف إلي المبادئ الكلية المشتركة التي توافق عليها جميع الأنبياء.
 وحتي إذا جاز إمكان التمييز- والقول للرازي- بين قسمين من الشرائع بحسب هذه الآية;
منها ما يمتنع دخول النسخ عليه والتغيير فيه,
 بل يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان, كالقول بحسن الصدق والعدل والإحسان, والقول بقبح الظلم والإيذاء,
 ومنها ما يتغير ويختلف مما اقتضت المصلحة وأوجبت الحكمة وضعه في الأزمنة (المختلفة) علي الأمم, بحسب قول القرطبي,
فإن الرازي يقطع بأن الآية دلت علي أن سعي الشرع(أو القرآن)
في تقرير النوع الأول
 (المتعلق بالمبادئ الكلية)
أقوي من سعيه في تقرير النوع الثاني
(المتعلق بالأحكام الجزئية).

إن ذلك يعني أن القرآن- علي قول الرازي - يصرف دلالة الشريعة إلي القواعد العامة كالصدق والعدل والإحسان, التي يتوافق فيها الإسلام مع غيره, وهو ما بدا أن داعية السلف يرفضه علي نحو كامل.

وإذ يحيل ذلك إلي أن المعني الذي يقول به داعية السلف للشريعة,
لا يمكن رده إلي القرآن, فإنه لا يبقي إلا أن يكون الأصل فيه هو التاريخ.
 وإذن فإنه الإبدال السلفي للدلالة التي يصنعها التاريخ, بتلك التي يتداولها القرآن; وبما يؤول إلي تأكيد الفرضية القاضية بأن الوعي السلفي لا يفعل إلا أن يجعل من التاريخ دينا, أو أنه يتعبد تاريخا يظنه ديناً.
والمهم أن ذلك يعني أن السلفي يحارب معركته حول مفهوم للشريعة يتعارض مع دلالة القرآن والعقل معا, وبجمهور وضعته ظروفه في موضع الخارج عن مقتضي العقل أيضا; 
وبما يعنيه ذلك من أنها معركة اللاعقل, بل وحتي اللاقرآن.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 1/ نوفمبر /2012

الخميس، أكتوبر 18، 2012

هل نهي القرآن عن ولاية النصاري مطلقا؟



يفتح القرآن أبواباً واسعة للرحمة‏
,‏ تيسر للناس سبل العيش المشترك في سلام ووئام‏;‏
وذلك من خلال ما ينطوي عليه من ثراء الدلالات,
علي نحو يتيح تعدد الأفهام وتنوع الرؤي.

لكنه يبدو- ولسوء الحظ - أن الناس يصرون علي إغلاق هذه الأبواب عبر ضروب من التفكير والفهم الأحادي المغلق التي تعكس ما ينطوي عليه وجودهم من أشكال التحيزات والتعصبات والتمايزات والاستعلاءات وغيرها.
 فطرائق الناس في التفكير لا تنفصل عن طرائقهم في العيش أبدا;
وبمعني أن المجتمعات التي تصهر كل أفرادها في تجربة حياة مفتوحة تخلو من كل أشكال التمييز والتعصب, تسود فيها طرائق أكثر انفتاحا في التفكير,
من تلك التي تمايز بين أفرادها.

 ولقد كان ذلك ما عرفته تجربة الإسلام في بعض لحظاتها فعلا; وعلي النحو الذي عرفت فيه نمطا من التفكير المفتوح,
 كالذي ازدانت به تجربة الأندلس مثلاً

(وهي التجربة التي لا تزال تأسر خيال العديدين من الذين يتطلعون لمستقبل أفضل للعالم)

 وإذا كان من المحتم أن ينشأ عن ضروب التفكير المشبعة بالتمايزات والتحيزات قواعد ومبادئ للضبط السياسي والاجتماعي,
 فإن الاشكال ينشأ من تصور الناس أن هذه القواعد والمبادئ المتحيزة إنما تصدر عن القرآن الكريم, وليس عن طريقتهم في فهمه والتفكير فيه, التي لا تنفصل, بدورها, عن الكيفية التي يكون عليها حالهم في الواقع.
 ولو أن الناس يتعاملون مع هذه القواعد علي أنها نتاجات فهمهم الخاص, لما كان هناك أي إشكال علي الإطلاق. إذ يؤدي تصور أنها تصدر عن القرآن الكريم إلي جعلها من مصدر إلهي( وبما يعنيه ذلك من تحويلها إلي مطلقات نهائية), وأما تصورها تصدر عن طريقة الناس في التفكير والفهم, فإنه يجعل منها تكوينا ينتمي إلي عالم البشر(وعلي نحو تقبل فيه التجاوز).


ولعل مسألة العلاقة مع غير المسلمين(النصاري مثلا) تطرح مثالا لأبواب الرحمة التي يفتحها القرآن أمام الناس.
فإنه إذا كان القرآن ينطوي علي دلالة النهي عن اتخاذ النصاري أولياء, فإنه ينطوي بالمثل, ليس فقط علي ما يسمح بجواز هذه الولاية,
بل وعلي ما يقطع بحصولها فعلا.

وغني عن البيان أن ورود القول, في القرآن, بكل من النهي عن ولاية النصاري وتجويزها في آن معا, يرتبط بأن لكل من النهي والتجويز ما يبرره في اللحظة التي ورد فيها; وبما يعنيه ذلك من أن القرآن لا يقدم, في الحالين, موقفا مطلقا ينتهي فيه النهي إلي إلغاء التجويز, أو العكس, بل يقرر حكما مشروطا بشروط الواقع الفعلي القائم.
 وبمعني أنه إذا استدعي الواقع الفعلي ضرورة النهي عن ولاية النصاري
(كما حدث فعلا في لحظة كانت فيها علاقة المسلمين بهم غير مستقرة),
 فليتقرر حكم النهي, وإذا استدعي الواقع حكم جواز تلك الولاية
(كما حدث في لحظة أخري كانت فيها العلاقة بين الطرفين مستقرة وودية)
فليتقرر حكم تجويزها, فإنه ليس من حكم نهائي ومطلق بخصوصها, بل الحكم يدور مع الواقع.

تربط المصادر القديمة( موسوعات التفسير وكتب أسباب النزول) نزول آية النهي عن موالاة اليهود والنصاري بما جري في وقعة أحد 
(بين المسلمين وقريش),
 حين أصر فريق من مسلمي يثرب( المدينة) علي ربط انخراطهم في جيش النبي الكريم( عليه السلام) باستمرار موالاتهم لليهود;
وبما يعنيه ذلك من إدخالهم كطرف يلعب دوراً حاسما في المواجهة مع قريش.
 ولما كانت علاقة المسلمين باليهود (وربما النصاري) غير مستقرة منذ الهجرة إلي يثرب,
 فإن القرآن الكريم قد أورد النهي عن موالاتهم( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصاري أولياء), لكيلا يكون لتلك العلاقة غير المستقرة أثر في الإضرار بمصالح المسلمين.
إن ذلك يعني أن اضطراب علاقة المسلمين مع يهود يثرب(ومع النصاري) هو الأصل في النهي عن موالاتهم, وليس لكونهم يهودا أو نصاري.
 إنه, بلغة الفقه, هو العلة التي إذا غابت جاز أن يتغير حكم النهي إلي الجواز.

 ولعل ذلك بالذات هو ما يقف وراء ما أورده القرطبي, في تفسيره لهذه الآية, من أن أبا حنيفة قد أجاز للمسلمين موالاتهم( أي اليهود والنصاري) والانتصار بهم علي المشركين; حيث الحكم عنده يدور مع العلة وجوداً وعدماً.
فإنه لو كان النهي عن موالاتهم مطلقاً; وأعني صادراً عن مجرد كونهم يهوداً أو نصاري, لكان القرآن الكريم قد قرره منذ البدء, ولم يكن ليسمح للمسلمين بموالاتهم أو طلب النصرة منهم أبداً.
وأما أن يكون القرآن قد سمح للمسلمين بموالاة النصاري,
 والاستنصار بهم بالذات, وأقر ذلك, بل وأثني عليه,
 فإن ذلك ما تقطع به آيات التنزيل المتعلقة بواقعة الهجرة إلي الحبشة.

 فقد أورد الواحدي النيسابوري في كتابه أسباب النزول أن آية ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا النصاري قد نزلت في النجاشي وأصحابه.
 حيث يروي عن ابن عباس قوله:
 كان رسول الله صلي الله عليه وسلم بمكة, يخاف علي أصحابه من المشركين, فبعث جعفر ابن أبي طالب وابن مسعود في رهط من أصحابه إلي النجاشي,
 وقال:
 إنه ملك صالح, لا يظلم, ولا يظلم عنده أحد, فاخرجوا إليه حتي يجعل الله للمسلمين فرجا, فلما وردوا عليه أكرمهم,
وقال لهم:
 تعرفون شيئا مما أنزل عليكم,
 قالوا:
 نعم,
قال:
اقرأوا, فقرأوا وحوله القسيسون والرهبان, فكلما قرأوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق,
 قال الله تعالي:
 ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا, وأنهم لا يستكبرون, وإذا سمعوا ما أنزل إلي الرسول تري أعينهم تفيض من الدمع.

وهكذا تتضافر الرواية النبوية مع القرآن في التأكيد, ليس فقط علي جواز ولاية النصاري بالذات, بل وعلي وقوع هذه الولاية فعلا; حيث يروي الطبري عن المهاجرين من المسلمين قولهم:
 قدمنا أرض الحبشة, فجاورنا بها خير جار, أمنا علي ديننا, وعبدنا الله, لا نؤذي ولا نسمع شيئا نكرهه.
 وإذن, فإنه الجوار والإكرام, والأمن علي الدين والدنيا, وعدم الأذية
( وكلها من معاني النصرة التي هي معني الولاية في القرآن)
وقد عاشها المسلمون واقعا متحققا مع نصاري الحبشة.
 فهل لأحد, بعد ذلك, أن ينهي عن هذه الولاية مطلقا, أم أنه يلزمه الوعي بشروط السياق المحدد لحكمها؟.
وفضلا عن كل ما سبق, فحين يدرك المرء أن مفهوم الولاية لم يرد, في القرآن الكريم, بمعني الحكم السياسي أبدا, بل بمعني طلب النصرة فقط, فإنه لا يملك إلا القطع بأن القائل بدعوي عدم جواز ولاية النصاري, يتخفي وراء نهي القرآن الكريم
- في ظل ظروف بعينها-
عن الاستنصار بهم, ليجعل منه نهيا عن توليهم مناصب الحكم السياسي, وهو ما لا يعنيه القرآن الكريم أبدا, بل إن ذلك ما يبدو وكأن التاريخ قد فرضه; وهو ما يحتاج إلي بيان.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 18 / أكتوبر /2012