الخميس، يوليو 21، 2011

عن مرحلة ما قبل المعرفي في مصر




يكشف مستوي الجدال والمناظرة المحتدمة في الفضاء المصري الراهن‏,‏
عن حقيقة أن 
مصر تعيش في إطار ما يمكن اعتباره مرحلة ما قبل المعرفي وأعني بها تلك المرحلة 

التي ينحبس فيها الناس داخل صناديق انتماءاتهم وتحيزاتهم الأيديولوجية والدينية والمذهبية‏.‏ وضمن سياق هذا الانحباس‏.‏...
فإن الناس لا يعجزون, فحسب, عن رؤية ما يقع خارج الصناديق الايديولوجية والمذهبية
التي يحبسون رؤوسهم داخلها, بل- والأهم- أنهم لا يقبلون التفكير في جملة المفاهيم والتصورات المضمرة التي يقوم عليها بناء ما يتحيزون له من إيديولوجيات ومذاهب, باعتبار أنها من قبيل المطلقات التي تعلو علي أي تفكير.


والملاحظ أن العقل حين ينحبس وراء تلك الأسوار الحصينة, لا يكف عن السعي إلي إكراه الواقع, بدوره, علي الانحباس معه وراءها.
وإذ يبدو, هكذا, أن مرحلة ما قبل المعرفي التي تسود الفضاء المصري الراهن, لا تقدم إلا عقلا منحبسا وراء أسوار الأيديولوجيا بأطيافها المختلفة( وأعني علماوية ودينية ومذهبية وغيرها) من جهة, وواقعا يراد له أن ينحبس, بدوره, وراء تلك الأسوار من جهة أخري, فإنه لا سبيل لتحرير كل من العقل والواقع إلا عبر الإشتغال المعرفي علي المفاهيم والتصورات التي يقوم عليها بناء الأنظمة الأيديولوجية والمذهبية التي تتقارع علي سطح الواقع المصري الراهن.

 ومن حسن الحظ أن إشتغالاً معرفياً علي معظم المفاهيم والتصورات والإفتراضات المضمرة التي يؤسس عليها البعض أبنية يريد لها أن تحدد معالم المسار السياسي والإجتماعي لمصر, إنما يكشف عن كونها أضعف من أن تكون أساسا لبناء راسخ; وأعني من حيث تبدو جميعا أضيق من أن تستوعب حركة الواقع, وأعجز- بالتالي- من أن تقدم حلولاً ناجزة لمشكلاته الجاثمة.
ولعل مثالاً للضلال الذي تمارسه الإيديولوجيا علي الوعي يتبدي في المقاربة الراهنة لخطاب التيار السلفي في مصر; وأعني من حيث ما تقدمه تلك المقاربة من صورة للخطاب تتعارض بالكلية مع الصورة التي تقدمها المقاربة المعرفية له.

 فإذ تقدم الإيديولوجيا صورة لخطاب يتسع لتباين الرؤي وتعدد الآراء, وإلي حد ما يجري الترويج له من أنه قد يكون للداعية السلفي في القاهرة زقولا في مسألة بعينها يختلف عن قول الداعية السكندري فيها, فإن المقاربة المعرفية تقدم, في المقابل, صورة لخطاب يقوم نظامه الباطن علي التفكير المقيد بأصل مسبق; وهو أصل يتم تضييقه علي نحو كامل, وبما يعنيه ذلك من إنغلاق الخطاب وجموده.

 وإذن فإنه التناقض بين صورة تقدمها الإيديولوجيا يتميز فيها الخطاب بالإتساع والرحابة, وبين ما يقدمه التحليل المعرفي من صورة يتسم فيها الخطاب بالضيق والجمود. وإذ تكون العبرة في تحليل الخطاب, بما يقدمه الإشتغال المعرفي علي نظامه العميق, وليس بما تقدمه الإيديولوجيا التي تجري علي سطحه بنفعيتها وإنتقائييها, فإنه يمكن القول بأن ما يجري من التركيز علي الإختلافات الجزئية بين دعاة الخطاب السلفي هو محض حيلة إجرائية تقصد, عبر التغطية علي نظامه المعرفي المغلق, إلي نسبة ما ليس فيه, من المرونة والديناميكية, إليه.

 وبالطبع فإنه لا شئ وراء نسبة المرونة والديناميكية إلي الخطاب, أي خطاب, إلا القصد إلي مكاثرة المؤمنين والأتباع; وبما يتبع ذلك من تحقيق الهيمنة والإنتشار.
 وإذ لا سبيل إلي تحرير الناس من زيف الصور التي تقدمها الإيديولوجيا للخطابات المتصارعة في الفضاء المصري الراهن, إلا عبر إنتاج معرفة منضبطة بها, فإن الخطاب السلفي يقوم- بحسب مصادره التأسيسية - علي خطاطة معرفية بسيطة تنطلق من أنه لا تفكير إلا إبتداء من أصل يجب الرجوع إليه; وهذا الأصل هو النص الذي يشتغل- علي قول أحد الآباء المؤسسين للخطاب- بمجرد زالتلاوة ونص التنزيل, وليس بتفسير وتأويل. ويربط الخطاب رفضه للتأويل بأنه قول بالظن والهوي, لم يأمر به النبي.
تلكم إذن هي خطاطة السلف نص بلا تأويل...وواقع لابد من أن ينحشر داخله. وإذ يبدو, والحال كذلك, أنه لا مجال لتوسيع النص بالتأويل, ليستوعب حركة الواقع التي تتسع بإطراد, بقدر ما هو السعي إلي تضييق الواقع ليقبل الإندراج تحت لفظ التنزيل, فإنه لا يبقي إلا أن تكون الأيديولوجيا, ولا شئ سواها, هي مصدر الإدعاء بمرونة مثل هذا الخطاب وديناميكيته.
والحق أن التأويل ليس قولا بالظن, بحسب ما يروج دعاة السلفية, بقدر ما هو السعي إلي إنتاج معني الآية القرآنية عبر ربطها بمحددات سياقية( منها سياق تنزيلها, والسياق النصي الذي يشملها, وسياق كل من الواقع والعقل معاً. وللمفارقة فإن القرآن نفسه يؤكد علي ضرورة تلك المحددات السياقية لأي عملية فهم.
 ويأتي المثال الأبرز علي ذلك من قصة موسي والخضر التي يبدو موسي فيها عاجزا عن إستيعاب أفعال الخضر( من خرق السفينة وقتل الغلام وهدم الجدار) إلا عبر ردها إلي سياق أشمل تكتسب فيه تلك الأفعال دلالتها ومعناها التي يصبح موسي قادراٌ علي إستيعابها. وهكذا فإن الإدعاء السلفي بأن النبي لم يأمر بالتأويل يتعارض مع جوهر الدرس القرآني الذي يؤكد ضرورة ربط الحدث الجزئي بسياق أشمل يكتسب فيه دلالة مغايرة; والذي لا يعني إلا التأويل.

والحق أن الإنحياز السلفي للتعامل مع القرآن بمنطق التنزيل علي حساب منطق التأويل لا يعني إلا الإنحياز للجزئي علي حساب الكلي في القرآن. فإذا كان أهم ما يميز القرآن كتنزيل أنه قد تنزل كآيات متفرقة علي مدي أكثر من عشرين عاما, فإن الإلحاح السلفي علي التعامل مع القرآن بنص التنزيل لا يعني إلا التعامل معه كآيات متفرقة, تنتج فيه الواحدة منها دلالتها في إنفصال عن غيرها, وليس ضمن سياق أكبر ترتبط فيه مع غيرها من الآيات; وذلك علي النحو الذي يتحدد فيه معناها بحسب نوع وإتجاه الحركة الكلية لهذا السياق.
حقا قد يستدعي داعية السلفية آيات أخري لتأكيد ما يريد من الآية التي يشتغل عليها أن تنطق به. وهكذا فإنه يستدعيها لتقف فقط إلي جوار الآية التي يشتغل عليها, وليس لكي تتفاعل أو تتحاور معها علي النحو الذي قد يؤدي إلي إعادة توجيه معناها في غير إتجاه ما تنطق به, وهي معزولة عن سياق تفاعلها مع غيرها.

 وإذن فإنه الإستدعاء ضمن منطق التجاور الذي هو منطق تثبيت للدلالة, وليس ضمن منطق التفاعل والتحاور الذي هو منطق تفجير الدلالات المكتنزة الكامنة. ولعل مثالا لبؤس تلك المقاربة السلفية التي تنتج فيه الآية, أو الآيات, دلالتها منفردة, يتجلي في القراءة السلفية لآيات الرقيق والإماء وملك اليمين, والتي راح أحد مشاهير دعاة السلفية يري فيها سبيلا لخروج المسلمين من أزماتهم الإقتصادية الخانقة... فإنه ليس مطلوبا من المسلمين- حسب داعية السلفية الكبير- إلا تفعيل آيات الغزو والإسترقاق وسبي الذراري والإماء, والذين سوف تكفي حصيلة بيعهم- أو حتي تحريرهم- لا لحل مشكلاتهم فقط, بل ولنقلهم إلي حال العيش المترف الرغيد.
 ومع صرف النظر عن أن الرجل لا يفعل إلا أن يستعيد, ليس من الإسلام, بل من أعراب ما قبل الإسلام ذاكرة إقتصاد الغزو الذي يري فيه الحل لمشكلات المسلمين الراهنة, فإن ما يبدو من الإستحالة الكاملة لتلك الممارسة التي يقترحها الرجل في إطار التطور الراهن للإنسانية, لمما يؤكد علي بؤس المقاربة السلفية التي يبدو وكأنها قد نذرت نفسها لإظهار تناقض القرآن مع ما بلغه مسار التطور الإنساني الراهن.
 والحق أن منطق السلفية القاضي بالتعامل مع القرآن بنص تنزيله, لابد أن يؤول - شاءوا أم أبوا- إلي ضرورة النضال من أجل رد العالم إلي الحال التي كان عليها وقت التنزيل. فإذا كان القرآن قد تنزل بأحكام حول الرق مثلا, وأدي التطور الإنساني إلي تعطيل إشتغالها, فإن داعية السلفية, وبسبب إصراره علي قراءة آيات الرق معزولة عن سياق تتفاعل فيه مع غيرها, وعلي نحو يتم فيه توجيه معناها في إتجاه مغاير لما تنطق به في عزلتها وفرادتها, يلح علي تفعيلها في جزئيتها, حتي لو إقتضي الأمر رداً للعالم إلي الحال التي كان عليها وقت نزول تلك الأحكام.

وهنا فإنه إذا كانت آيات الرق في جزئيتها تحيل إلي دلالة إستعبادية ترتبط بالسياق الذي كانت تعيش فيه المجتمعات القديمة, وأنماط الإنتاج السائدة فيها, فإن ربطها بغيرها من آيات يبدو فيها تحرير البشر, علي العموم, قصداً قرآنياً كلياً سوف يؤدي إلي إعادة توجيه دلالة تلك الآيات علي نحو ينقذ القرآن من وصمة اللا إنسانية. يبدو, إذن, وكأن كلا من القرآن والإنسانية في حاجة للخلاص من القبضة السلفية; وهو ما لن يكون ممكنا إلا عبر التجاوز بمصر من مرحلة ما قبل المعرفي التي تعيش فيها.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 21 / يوليو 2011

الثلاثاء، يوليو 19، 2011

قراءة في أزمة النخبة الفكرية المصرية بعد الثورة (3-3)



في الجزء الأول من الحوار،
 تحدث د. علي مبروك عن الخطاب النخبوي المصري - عبر توجهات النخب المختلفة – واصفا إياه بالضحالة البالغة في علاقته بالمفاهيم التي تحتاجها مصر في اللحظة الراهنة. ورأى أن التوجه الإسلامي يخلط الشريعة بالمدونة الفقهية. كما رأى التيار العلماني يعتبر الدين عدو للدولة المدنية بإطلاق من دون التفريق بين الدين كدين وبين الدين كدوجما تعمل على تحويل الاجتهاد الفقهي لمطلق رباني.
وفي الجزء الثاني،
 يتحدث عن مفهوم المواطنة ويقيم الأطروحات التجديدية فيه؛ والتي اعتبرها تقدم إشكالية جديدة. ويطور رؤية لمصدر إشكال الوضع الراهن في الحالة الإسلامية تتعلق بالفكر الاجتهادي الإسلامي المعاصر وطبيعة الثورة التي يقدمها على الإسلام التاريخي بدون تقديم قراءة في النصوص.
وفي هذا الجزء 
يتحدث د. علي مبروك عن إرادة الاستقطاب كنتيجة لسيادة نمط التفكير الأيديولوجي وليس نمط التفكير المعرفي.
وفيما يلي نص الجزء الثالث من الحوار:

** التوجهات اليسارية والليبرالية اليوم.. لماذا ترى أنها يجانبها الصواب فيما يتعلق بالنظر إلى قضية مدنية الدولة؟
د. علي مبروك:
 المشكلة طبعا في عدم ضبط المفهوم مفهوم الدولة المدنية. فهذا في حد ذاته مشكلة؛ لأنه يؤدي بهم إلى أن يضعوا أنفسهم في عباءات وفي مواقف استقطابية حدية. فعندما أقول أن الدولة المدنية هي الدولة اللا دينية أو غير الدينية هذا الكلام يؤدي لمشكلات استقطاب حادة كالتي شهدها المجتمع المصر عقب الثورة.
لا بد أن نحدد إنه إذا ما أحل الدين نفسه - على الأقل الجانب المتعلق بالدولة- إذا ما فهمناه على إنه نفسه بنية مدنية فلن تكون عندنا أي مشكلة.

** كيف – برأيك – يمكن إدارة النقاش حول دور الدين بما يعزز من فهم وضعه في الإطار المدني؟
د. علي مبروك:
 لا بد من طرح سؤال الدين.

** بمعنى؟
د. علي مبروك:
بمعنى أن نسأل ما هو الدين؟ وهو الكلام الذي ربما أشرت إليه في بداية الحوار بيننا عندما تتحدث عنه نعني به، ماذا يعني الإسلام؟ الدين بالفعل مدني رغم مصدره الإلهي. المشكلة في أن المصدر المطلق للدين يجعل الناس أيضا تصف الدين بأنه مطلق، فتجربة الوحي إذا تأملت فيها من مبتداها لمنتهاها ستجد نفسك مضطرا إلى الإجابة على سؤال ما هو المبدأ وراء التغير في الوحي إلى الحد الذي يجعل المصادر الإسلامية الكلاسيكية تتحدث عن عدد أنبياء وصلوا إلى 124 ألف نبي مقابل 313 رسول يحملون رسالات ووحي من السماء وشرائع إلى البشر؟ وعندما تسأل مثل هذا السؤال يرد عليك القرطبي في تفسيره لآية "ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها" (البقرة: 106)؛ حيث يقول: إن الله يسلك مسلك الطبيب الذي يراعي حال مرضاه: بمعنى إنه بحسب مصالحهم الدينية والدنيوية يكون الخطاب، وبالتالي يصل الرجل في تفسيره لهذه الآية إلى أن الله علمه مطلق لا يتغير ولا يتبدل ولكن خطاباته تتبدل، ومن طبيعي أن نسأل: لماذا يتبدل الخطاب؟ إذا كان الله راعى أنه يخاطب بشرا تتغير أوضاعهم وتتباين ظروفهم وبالتالي راعى ذلك في خطابه مع البشر لماذا لا نسير نحن على هذا الدرب؟
وهناك ما هو أكثر؛ فلو قرأنا في سورة الكهف، ذلك الحوار العظيم بين موسى – عليه السلام – والخضر؛ عندما اسمع هذا الحوار واقرأه أقول إننا أمام إله يريد أن يقول للبشر "يا بشر افهموا اعرفوا أن الخطابات لا تفهم خارج السياق".
هذا يعني أنك بإزاء حالة تتغير وتتبدل باختلاف أوضاع البشر وتباين ظروفهم. وهذه هي المدنية. لقد مارس الله معنا هذه الطريقة؛ فلماذا لا نمارسها مع أنفسنا فاهمين وقارئين؟ فنرى كيف كانت المنظومات القديمة تتأسس وعلام؟ وكيف أنه من الممكن أن نغاير التأسيس؟ أم سيظل ثقل المنظومة القديمة يفرض نفسه؟ وأنا أخشى من الكلام المتعلق بأن الأوضاع الواقعية تغيرت، وبالتالي يجب أن نغير الأوضاع الفقهية ونقول ذلك ويتهيأ لنا إن هذا القول وحده كاف لحل المشكلة. هذا لا يكفي لحل المشكلة بسبب بسيط جدا: هو أن المنظومة القديمة تخلق بنيات ذهنية وعقلية تخلق بدورها طرقا في التفكير، وتظل هذه الطرق تعيد إنتاج نفسها حتى لو غاب شرطها الاجتماعي التاريخي: بمعنى أن الشرط الاجتماعي التاريخي قد غاب، ومع ذلك؛ فكثير من المحللين يرى مثلا أن آليات التفكير العقلية العربية المهيمنة والحاكمة لهذا العقل في معظمها حتى الآن آليات البداوة وآليات القبيلة الحاكمة في آليات اشتغاله. فالعقل لديه ميكانيزمات يعمل بها، ولديه طرق في التفكير يتمايز بها؛ بحيث تستطيع أن تمايز بها عقل جماعة حضارية ما عن عقل جماعة حضارية أخرى.
فبرغم أن القبيلة سقطت كبناء اجتماعي في معظم العالم الإسلامي؛ إلا أن غيابها من الفضاء الاجتماعي وحتى السياسي لم يحل دون استمرار اشتغالها على الصعيد العقلي ويجب أن نكون واعيين بذلك. المشكلة ليست في الدين، وإنما هي في ثقل منظومة قديمة فهمت الدين وتعاملت معه في هذا الاتجاه، وفهمت منتجها في سياق إطلاقي، وعلينا الآن أن نعيد الفهم مرة أخرى إلى السياق الإنساني المتجدد.

** إذا تحدثنا عن إن الأزمة التي تحدثت عنها بخصوص العقل العربي، والتي أدت في داخل المساحة الإسلامية إلى صراع حاد ما بين قلة مجددين وكثرة كثيرة تفتقر إلى هذا النزوع التجديدي، وهو الوجه الآخر من حدث الاستقطاب الذي تشهده مصر الآن ما الذي أنتجته هذه الأزمة؟
د. علي مبروك:
 قبل أن أتحدث عما أنتجته هذه الأزمة دعني أولا أتحدث عن مسألة القلة المجددة في مواجهة الكثرة الغالبة التي هي ضد التجديد؛ لأن هذا يجرنا إلى مراوغات كثيرة يجب أن نضع أيدينا عليها، ونكون واعين بها. ونحن لا نفعل ذلك أيضا في أوقات كثيرة.
المشكلة إننا رأينا في الإسلام - في لحظة من لحظاته المزدهرة اللامعة - إمكانيات هائلة للتعدد والاختلاف وتباين الأنظار. رأينا هذا كله، لكن لم نسأل ماذا حدث بعد ذلك؟ ونظل نستدعي هذه اللحظة وكأن مجرد استدعائنا لها يمكن يؤدي إلى إنتاجها؛ دون أن نسأل: ماذا حدث؟ ما الذي وأد التعددية؟ ما الذي وأد حق الاختلاف؟ ما الذي أدى إلى هذا الاختناق؟ هذا الوضع الذي يكاد يختنق به العالم الإسلامي.
ودعنا لا ننسى مفهوما مهما جدا علينا أن نشتغل عليه، وهو مفهوم النسق المهيمن، وعلينا كذلك العمل على حقيقة الهيمنة، فهذا النسق الذي هيمن ابتداء منذ هذه المسألة باعتباره أنه الوسط، لكن علينا أن  نفهم كيف تتحدد آليات الهيمنة وآليات السيطرة لنسق مع إقصاء واستبعاد أنساق أخرى. ولا يكفي وأنا جالس في هذه اللحظة في القرن الواحد والعشرين أن أقول أن في القرن الرابع الهجري كان عندي أو في القرن الثالث الهجري كان عندي كذا وكذا، وكأن استدعائي أو حديثي عن هذه اللحظة كفيل بإنتاجها في واقعي، فهذا يعني أنني لا زلت من أنصار العقلية السحرية التي ترى أنه بمجرد الكلام عن شئ فإن حديثي يؤدي إلى امتلاك وحدوث هذا الذي أتحدث عنه، وهذا لا يحدث بالتأكيد.
في مصر إلى الآن، لا أستطيع أن أتحدث عن إن هناك اجتهادات جدية مع كل تقديري واحترامي. لكن سيظل تقييمي كباحث وكدارس أن كل هذه الاجتهادات تصب في الاجتهاد العملي الإجرائي ولا تغامر بمساءلة الكلي في المسألة.
وفي هذا الغطار، ومع استمرار الحوار، وأنا أرجو أن ينفتح الجميع على الحوار، فما نفعله أنا وأنت نسميه تحاورا، وأنا أعرف إن موقعك مختلف عن موقعي الفكري، ومع ذلك هناك إمكانية لأن تتوسع رؤيتي وأن أوسع رؤيتك؛ فيتم توسيع الآفاق وتوسيع الرؤى. أنا أتصور أن هذه هي قيمة اللحظة وقيمة الحدث الذي جرى في مصر، ولهذا السبب فأنا أتصور إنه على النخبة أن تلتقط هذه الفرصة.

** لماذا برأيك تم استبدال الحاجة للحوار بإرادة الاستقطاب؟
د. علي مبروك:
 وسيظل يتم لسبب بسيط لأننا لا زلنا نتعاطى مع المسائل بالطريقة الإيديولوجية وليس بالطريقة المعرفية. الحوار يحتاج إلى معرفة. فضبط المفاهيم الذي بدأنا منه يحتاج إلى معرفة، ويحتاج إلى حفر ودأب. الناس التي يقال لها رموز مصرية تجدهم الآن على إحدى القنوات الفضائية، وبعد ساعة تجده على قناة أخرى؛ يتنقل من قناة إلى قناة في مدينة إنتاج إعلامي واحدة. فهل مثل هذا لديه وقت للحوار أم عنده وقت ليظل يكرر منظومة الشعارات التي حفظناها ومللناها. هذا أخطر ما يتهدد اللحظة في مصر الآن وهو طغيان هذه النزعة الإيديولوجية في التعامل مع مفاهيم ينبغي أن تخضع لمعارفنا وحوار معارفنا.
فالشرط المهم جدا للحوار الذي سيفتح الباب لنا الآن هو نقد التعاطي الإيديولوجي، وكشف كيف أن الأيديولوجيا حاضرة باستمرار في ما تتداوله النخبة، وإنها تجعلنا نخسر الكثير وستجلنا نخسر أكتر.
لا نريد أن يطل علينا دعاة. نريد علماء يفكرون بطريقة منهجية، ويتجاوزوا الأيديولوجيا لتقديم اجتهاد حقيقي. لا نريد أن يأتينا أحد ولديه كل الأجوبة جاهزة، نريد التعاطي بعقلية الباحث الذي يطرح الأسئلة التي تحتاجها البلد.

تم النشر في موقع أون اسلام بتاريخ 19 يوليـــــــــــو 2011
حوار / وسام فـــــؤاد


قراءة في أزمة النخبة الفكرية المصرية بعد الثورة (3-3)



في الجزء الأول من الحوار،
 تحدث د. علي مبروك عن الخطاب النخبوي المصري - عبر توجهات النخب المختلفة – واصفا إياه بالضحالة البالغة في علاقته بالمفاهيم التي تحتاجها مصر في اللحظة الراهنة. ورأى أن التوجه الإسلامي يخلط الشريعة بالمدونة الفقهية. كما رأى التيار العلماني يعتبر الدين عدو للدولة المدنية بإطلاق من دون التفريق بين الدين كدين وبين الدين كدوجما تعمل على تحويل الاجتهاد الفقهي لمطلق رباني.
وفي الجزء الثاني،
 يتحدث عن مفهوم المواطنة ويقيم الأطروحات التجديدية فيه؛ والتي اعتبرها تقدم إشكالية جديدة. ويطور رؤية لمصدر إشكال الوضع الراهن في الحالة الإسلامية تتعلق بالفكر الاجتهادي الإسلامي المعاصر وطبيعة الثورة التي يقدمها على الإسلام التاريخي بدون تقديم قراءة في النصوص.
وفي هذا الجزء
يتحدث د. علي مبروك عن إرادة الاستقطاب كنتيجة لسيادة نمط التفكير الأيديولوجي وليس نمط التفكير المعرفي.
وفيما يلي نص الجزء الثالث من الحوار:
** التوجهات اليسارية والليبرالية اليوم.. لماذا ترى أنها يجانبها الصواب فيما يتعلق بالنظر إلى قضية مدنية الدولة؟
د. علي مبروك:
 المشكلة طبعا في عدم ضبط المفهوم مفهوم الدولة المدنية. فهذا في حد ذاته مشكلة؛ لأنه يؤدي بهم إلى أن يضعوا أنفسهم في عباءات وفي مواقف استقطابية حدية. فعندما أقول أن الدولة المدنية هي الدولة اللا دينية أو غير الدينية هذا الكلام يؤدي لمشكلات استقطاب حادة كالتي شهدها المجتمع المصر عقب الثورة.
لا بد أن نحدد إنه إذا ما أحل الدين نفسه - على الأقل الجانب المتعلق بالدولة- إذا ما فهمناه على إنه نفسه بنية مدنية فلن تكون عندنا أي مشكلة.

** كيف – برأيك – يمكن إدارة النقاش حول دور الدين بما يعزز من فهم وضعه في الإطار المدني؟
د. علي مبروك: 
لا بد من طرح سؤال الدين.

** بمعنى؟
د. علي مبروك:
 بمعنى أن نسأل ما هو الدين؟ وهو الكلام الذي ربما أشرت إليه في بداية الحوار بيننا عندما تتحدث عنه نعني به، ماذا يعني الإسلام؟ الدين بالفعل مدني رغم مصدره الإلهي. المشكلة في أن المصدر المطلق للدين يجعل الناس أيضا تصف الدين بأنه مطلق، فتجربة الوحي إذا تأملت فيها من مبتداها لمنتهاها ستجد نفسك مضطرا إلى الإجابة على سؤال ما هو المبدأ وراء التغير في الوحي إلى الحد الذي يجعل المصادر الإسلامية الكلاسيكية تتحدث عن عدد أنبياء وصلوا إلى 124 ألف نبي مقابل 313 رسول يحملون رسالات ووحي من السماء وشرائع إلى البشر؟ وعندما تسأل مثل هذا السؤال يرد عليك القرطبي في تفسيره لآية "ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها" (البقرة: 106)؛ حيث يقول: إن الله يسلك مسلك الطبيب الذي يراعي حال مرضاه: بمعنى إنه بحسب مصالحهم الدينية والدنيوية يكون الخطاب، وبالتالي يصل الرجل في تفسيره لهذه الآية إلى أن الله علمه مطلق لا يتغير ولا يتبدل ولكن خطاباته تتبدل، ومن طبيعي أن نسأل: لماذا يتبدل الخطاب؟ إذا كان الله راعى أنه يخاطب بشرا تتغير أوضاعهم وتتباين ظروفهم وبالتالي راعى ذلك في خطابه مع البشر لماذا لا نسير نحن على هذا الدرب؟
وهناك ما هو أكثر؛ فلو قرأنا في سورة الكهف، ذلك الحوار العظيم بين موسى – عليه السلام – والخضر؛ عندما اسمع هذا الحوار واقرأه أقول إننا أمام إله يريد أن يقول للبشر "يا بشر افهموا اعرفوا أن الخطابات لا تفهم خارج السياق".
هذا يعني أنك بإزاء حالة تتغير وتتبدل باختلاف أوضاع البشر وتباين ظروفهم. وهذه هي المدنية. لقد مارس الله معنا هذه الطريقة؛ فلماذا لا نمارسها مع أنفسنا فاهمين وقارئين؟ فنرى كيف كانت المنظومات القديمة تتأسس وعلام؟ وكيف أنه من الممكن أن نغاير التأسيس؟ أم سيظل ثقل المنظومة القديمة يفرض نفسه؟ وأنا أخشى من الكلام المتعلق بأن الأوضاع الواقعية تغيرت، وبالتالي يجب أن نغير الأوضاع الفقهية ونقول ذلك ويتهيأ لنا إن هذا القول وحده كاف لحل المشكلة. هذا لا يكفي لحل المشكلة بسبب بسيط جدا: هو أن المنظومة القديمة تخلق بنيات ذهنية وعقلية تخلق بدورها طرقا في التفكير، وتظل هذه الطرق تعيد إنتاج نفسها حتى لو غاب شرطها الاجتماعي التاريخي: بمعنى أن الشرط الاجتماعي التاريخي قد غاب، ومع ذلك؛ فكثير من المحللين يرى مثلا أن آليات التفكير العقلية العربية المهيمنة والحاكمة لهذا العقل في معظمها حتى الآن آليات البداوة وآليات القبيلة الحاكمة في آليات اشتغاله. فالعقل لديه ميكانيزمات يعمل بها، ولديه طرق في التفكير يتمايز بها؛ بحيث تستطيع أن تمايز بها عقل جماعة حضارية ما عن عقل جماعة حضارية أخرى.
فبرغم أن القبيلة سقطت كبناء اجتماعي في معظم العالم الإسلامي؛ إلا أن غيابها من الفضاء الاجتماعي وحتى السياسي لم يحل دون استمرار اشتغالها على الصعيد العقلي ويجب أن نكون واعيين بذلك. المشكلة ليست في الدين، وإنما هي في ثقل منظومة قديمة فهمت الدين وتعاملت معه في هذا الاتجاه، وفهمت منتجها في سياق إطلاقي، وعلينا الآن أن نعيد الفهم مرة أخرى إلى السياق الإنساني المتجدد.

** إذا تحدثنا عن إن الأزمة التي تحدثت عنها بخصوص العقل العربي، والتي أدت في داخل المساحة الإسلامية إلى صراع حاد ما بين قلة مجددين وكثرة كثيرة تفتقر إلى هذا النزوع التجديدي، وهو الوجه الآخر من حدث الاستقطاب الذي تشهده مصر الآن ما الذي أنتجته هذه الأزمة؟
د. علي مبروك:
 قبل أن أتحدث عما أنتجته هذه الأزمة دعني أولا أتحدث عن مسألة القلة المجددة في مواجهة الكثرة الغالبة التي هي ضد التجديد؛ لأن هذا يجرنا إلى مراوغات كثيرة يجب أن نضع أيدينا عليها، ونكون واعين بها. ونحن لا نفعل ذلك أيضا في أوقات كثيرة.
المشكلة إننا رأينا في الإسلام - في لحظة من لحظاته المزدهرة اللامعة - إمكانيات هائلة للتعدد والاختلاف وتباين الأنظار. رأينا هذا كله، لكن لم نسأل ماذا حدث بعد ذلك؟ ونظل نستدعي هذه اللحظة وكأن مجرد استدعائنا لها يمكن يؤدي إلى إنتاجها؛ دون أن نسأل: ماذا حدث؟ ما الذي وأد التعددية؟ ما الذي وأد حق الاختلاف؟ ما الذي أدى إلى هذا الاختناق؟ هذا الوضع الذي يكاد يختنق به العالم الإسلامي.
ودعنا لا ننسى مفهوما مهما جدا علينا أن نشتغل عليه، وهو مفهوم النسق المهيمن، وعلينا كذلك العمل على حقيقة الهيمنة، فهذا النسق الذي هيمن ابتداء منذ هذه المسألة باعتباره أنه الوسط، لكن علينا أن  نفهم كيف تتحدد آليات الهيمنة وآليات السيطرة لنسق مع إقصاء واستبعاد أنساق أخرى. ولا يكفي وأنا جالس في هذه اللحظة في القرن الواحد والعشرين أن أقول أن في القرن الرابع الهجري كان عندي أو في القرن الثالث الهجري كان عندي كذا وكذا، وكأن استدعائي أو حديثي عن هذه اللحظة كفيل بإنتاجها في واقعي، فهذا يعني أنني لا زلت من أنصار العقلية السحرية التي ترى أنه بمجرد الكلام عن شئ فإن حديثي يؤدي إلى امتلاك وحدوث هذا الذي أتحدث عنه، وهذا لا يحدث بالتأكيد.
في مصر إلى الآن، لا أستطيع أن أتحدث عن إن هناك اجتهادات جدية مع كل تقديري واحترامي. لكن سيظل تقييمي كباحث وكدارس أن كل هذه الاجتهادات تصب في الاجتهاد العملي الإجرائي ولا تغامر بمساءلة الكلي في المسألة.
وفي هذا الغطار، ومع استمرار الحوار، وأنا أرجو أن ينفتح الجميع على الحوار، فما نفعله أنا وأنت نسميه تحاورا، وأنا أعرف إن موقعك مختلف عن موقعي الفكري، ومع ذلك هناك إمكانية لأن تتوسع رؤيتي وأن أوسع رؤيتك؛ فيتم توسيع الآفاق وتوسيع الرؤى. أنا أتصور أن هذه هي قيمة اللحظة وقيمة الحدث الذي جرى في مصر، ولهذا السبب فأنا أتصور إنه على النخبة أن تلتقط هذه الفرصة.

** لماذا برأيك تم استبدال الحاجة للحوار بإرادة الاستقطاب؟
د. علي مبروك:
 وسيظل يتم لسبب بسيط لأننا لا زلنا نتعاطى مع المسائل بالطريقة الإيديولوجية وليس بالطريقة المعرفية. الحوار يحتاج إلى معرفة. فضبط المفاهيم الذي بدأنا منه يحتاج إلى معرفة، ويحتاج إلى حفر ودأب. الناس التي يقال لها رموز مصرية تجدهم الآن على إحدى القنوات الفضائية، وبعد ساعة تجده على قناة أخرى؛ يتنقل من قناة إلى قناة في مدينة إنتاج إعلامي واحدة. فهل مثل هذا لديه وقت للحوار أم عنده وقت ليظل يكرر منظومة الشعارات التي حفظناها ومللناها. هذا أخطر ما يتهدد اللحظة في مصر الآن وهو طغيان هذه النزعة الإيديولوجية في التعامل مع مفاهيم ينبغي أن تخضع لمعارفنا وحوار معارفنا.
فالشرط المهم جدا للحوار الذي سيفتح الباب لنا الآن هو نقد التعاطي الإيديولوجي، وكشف كيف أن الأيديولوجيا حاضرة باستمرار في ما تتداوله النخبة، وإنها تجعلنا نخسر الكثير وستجلنا نخسر أكتر.
لا نريد أن يطل علينا دعاة. نريد علماء يفكرون بطريقة منهجية، ويتجاوزوا الأيديولوجيا لتقديم اجتهاد حقيقي. لا نريد أن يأتينا أحد ولديه كل الأجوبة جاهزة، نريد التعاطي بعقلية الباحث الذي يطرح الأسئلة التي تحتاجها البلد.

تم النشر في موقع أون اسلام بتاريخ 19 يوليــــــــــــــو 2011
حوار/ وسام فـــــــــــــؤاد



الاثنين، يوليو 18، 2011

قراءة في أزمة النخبة الفكرية المصرية بعد الثورة (2-3)



في الجزء الأول من الحوار، تحدث د. علي مبروك عن الخطاب النخبوي المصري - عبر توجهات النخب المختلفة – واصفا إياه بالضحالة البالغة في علاقته بالمفاهيم التي تحتاجها مصر في اللحظة الراهنة.
ورأى أن التوجه الإسلامي يخلط الشريعة بالمدونة الفقهية. كما رأى التيار العلماني يعتبر الدين عدو للدولة المدنية بإطلاق من دون التفريق بين الدين كدين وبين الدين كدوجما تعمل على تحويل الاجتهاد الفقهي لمطلق رباني.
وفي هذا الجزء، يتحدث عن مفهوم المواطنة ويقيم الأطروحات التجديدية فيه؛ والتي اعتبرها تقدم إشكالية جديدة. ويطور رؤية لمصدر إشكال الوضع الراهن في الحالة الإسلامية تتعلق بالفكر الاجتهادي الإسلامي المعاصر وطبيعة الثورة التي يقدمها على الإسلام التاريخي بدون تقديم قراءة في النصوص.
وإليكم نص الجزء الثاني من الحوار:
** في سياق نقدك لوضع غير المسلمين في التصورات الإسلامية؛ كيف تقييم أطروحات المواطنة التي طور تكييفها القانوني الدكتور محمد سليم العوا والتي قال فيها أن مفهوم الذمة بصورة تاريخية كانت مرتبطة بطبيعة إمبراطورية، وأنه بطبيعة التطور التاريخي آل الأمر إلى الدولة القومية التي أعادت النظر في تقييم الشركاء في بناء مفهوم الدولة القومية، والذي تساوى فيه الجميع ومن ثم كان مفهوم المواطنة هو المفهوم المقابل لتساوي الجميع في إنشاء الدولة والنضال لأجلها؟
د. علي مبروك:
 قديما كان هناك وضعية قانونية لغير المسلم مغايرة للوضعية القانونية للمسلم في نفس الموقف – تاريخيا وليس شرعيا. فعندما يقال أن وضع الدولة القومية الحديثة يفرض منظور آخر للنظر لوضع غير المسلم مغاير باعتبار أن كلنا شركاء؛ فأنا أتصور بأن الأمر في حاجة أيضا إلى التعامل مع الموقف القديم، أنا معك في إن التاريخ لعب دورا مهما في توجيه النصوص، لكن يظل هناك أيضا حد أدنى من النصوص التي تتحدث عن دفع الجزية وما إلى ذلك، فكيف سنتعامل معها؟
كل الأمور تردنا في النهاية للأصول. لذا من المهم أن نعرف كيف نتعامل مع هذه الأصول؛ إذ أنه لا يكفي التعامل مع الإسلام التاريخي فقط.

** مفهوم المواطنة بحكم تكييفه وبنائه يبدو مفهوما نسبيا، مبني على قراءة الأصول. وهكذا تعامل معه الدكتور محمد سليم العوا. ولعلك تذكر تصريح الراحل مصطفى مشهور في عام 1997 عندما قال أن غير المسلمين يدفعون الجزية لأنهم لا يدخلون الجيش! فإذا ما تحدثنا عن التساوي في المراكز القانونية، وفي الحقوق والواجبات، وفي طريقة النظر إلى جميع الأطراف بدون وجه تمييز فيما بينهم؛ فإن هذه الحالة تدفع بصورة آلية نحو اعتبار كامل للتساوي في المراكز القانونية بين المختلفين. ما رأيك؟
د. علي مبروك:
 أنت تتحدث عن وضع قديم. أنا أقول إن ما فعله الدكتور العوا عن مسالة الجزية والذمة هو نقد ميراث تاريخي ومرتبط بأوضاع تاريخية معينة، ويمكن التعامل معه ضمن أفق الإسلام التاريخي، وبالتالي فتغير الأوضاع واختلافها والانتقال من الدولة بشكلها القديم إلى دولة أخرى يعني ذهاب علة الحكم القديم، وأصبحنا في إطار وضع جديد يفتح الباب أمام أحكام جديدة مختلفة. أنا أرى أن مشكلة هذا الطرح إنه يتجنب طوال الوقت التعامل مع الإسلام النصي. فالإسلام النصي لا بد أن يُقرأ أيضا. ولكن المشكلة أن ثقل الإسلام التاريخي خلق بنيات وعي وبنيات ذهنية، ورتب ما يبدو وكأنه أوضاع ومراكز قانونية ثابتة لا تتزحزح، ولا أظن أنه حتى في إطار الدولة الحديثة تساوت المراكز القانونية.
لكن الوضع القديم مستند على قراءة ما وتوجيه ما للنصوص. ونحن بإزاء وضع جديد، وهو يحتاج أيضا هذا التوجيه وهذه القراءة للنصوص. ولكن أنا أخشى أن الاجتهاد الذي يتم تقديمه ويتم طرحه الآن فيما يتعلق بالآليات الجديدة والطرائق الجدية في التعامل مع النصوص ليس على المستوى المطلوب.

** القضية في التعامل مع النص ليست فقط استنطاق للنص. فمبدأ الاستحسان ذلك المبدأ الفقهي الذي استنبطه الإمام أبو حنيفة من قلب الشريعة، هذا المبدأ هو نوع من أنواع العدول بمسألة ما من المسائل الفقهية عن حكم نظائرها في الشريعة الإسلامية إلى حكم آخر لوجود وجه يقتضي هذا العدول. أنا أتصور أنه إذا ما صعدنا إلى درجة أعلى من درجات النضج للكليات الموجودة في بنية الأصول المتاحة لدينا، لن يصبح هذا الاجتهاد من باب التملص من الرؤية التاريخية وتجنب البحث في الأصول إلى حد كبير، فهناك مجموعة من المبادئ الكلية القوية التي أدت إلى حدوث توافق عام حول ماهية الإسلام وكلياته، بما يعني إنه في هذا الإطار الأحكام صغيرة التي تنظم الأوضاع عرضة للتغيير؟
د. علي مبروك:
 ما أمسكت أنت به الآن هو قلب المشكلة، وهو التمييز بين أن هناك كليات وهناك أحكام صغيرة. وهذا هو المدخل المهم لتقديم اجتهاد حقيقي وجدي. ولكن السؤال يظل كيف ترتب العلاقة بين الكلي والجزئي؟ المنظومة القديمة قامت على اعتبار كبير للجزئي وأحيانا انتقاص للكلي. وهذه مسألة تشير إلى آية أسسوا عليها موضوع التعارف الحضاري وهي آية: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" (الحجرات: 13)، وأنا أحب أن أشير في هذا الحوار إلى تفسير ابن كثير لهذه الآية فعندما قرأت تفسير ابن كثير لهذه الآية أنا شخصيا أدركت إدراكا هاما جدا يتمثل في ماذا؟
ابن كثير يرى هذه مرتبطة بالآية التي تسبقها الآية "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم..." (الحجرات: 12)، فيقول إن الآية تشير إلى مفهوم التسوية بين البشر، وهذا المبدأ الذي يشير إليه ابن كثير اعتمد عليه علماء في الاعتراض على مبدأ الكفاءة في النكاح؛ لأن مبدأ اشتراط الكفاءة في النكاح يعني أن البشر ليسوا سواسية: أي أن هناك تراتبية اجتماعية تسمح لولي المرأة أحيانا أن يتجه إلى القاضي طالبا فسخ العقد لأن الزواج قائم على عدم الكفاءة، لكن هناك أدلة كثيرة بسطها علماء في كتب الفقه من مصادر أخرى على ضرورة الكفاءة في النكاح، وهنا تجد نفسك مباشرة بإزاء مثال نموذجي على ما نتحدث فيه، وكيف أن القيمة الكلية: قيمة المساواة بين البشر يتم إهدارها من خلال قاعدة قانونية جزئية يمكن أن يحكم بها القاضي.
هذه هي المشكلة في الحقيقة. هل المسلمون في الوضع الراهن الحالي قادرون على إنهم يواجهوا هذا السؤال؟ أم سيظل هناك ثقل كبير للمنظومة الفقهية؟ وهو ثقل لا تستمده من قوتها المعرفية، وإنما تستمده من توظيفها الإيديولوجي؛ مما يترتب عليه خلق وضعيات قانونية، وخلق امتيازات معينة لأطراف بعينهم. هل المسلمون مستعدون الآن لمواجهة هذا السؤال؟ هذا هو ما أعنيه. وهذا هو التحدي الذي يواجهه المسلمون الآن.

** لكن لو نظرنا في هذا الإطار للمدارس الفقهية المعاصرة مثلما نجد العوا ومحمد كمال إمام في جانب نجد غيرهم كثيرون في جانب آخر، ومثلما نجد مثلا في جماعة الإخوان المسلمين محمد جمال حشمت وعبد المنعم أبو الفتوح في جانب ونجد محمد مرسي وعصام العريان في جانب آخر.. وهذه الاجتهادات أظنك تعلمها.. ولا تكاد تجد من يتحاور معها بصورة قوية.
د. علي مبروك:
 لكني أخشى أن هذه الخلافات التي تشير إليها هي خلافات فروع ليست أصول.

** لا أظن إن ثمة خلافات في الأصول داخل هذه المدارس، الخلافات في الأصول في مذاهب كلية مثل السنة والشيعة إذا كانوا أضافوا أصل الإمامة أو غيره. لكن لا خلاف في الأصول داخل المذهب الواحد.
د. علي مبروك:
 أنا لا أقصد الخلاف بهذا المعنى، ولكني قلت إني استعير اللغة القديمة: بمعني أنها ليست خلافات في كليات كبيرة تبعد الأطراف المختلفة كل منها عن الآخر.
طالما أننا نتحدث عن حالة مدنية الدولة، فالقصد في هذا الإطار أنه إذا كان هناك ظرف تاريخي معين أدى إلى حيازة اجتهاد ما قبول مجموعة من الناس لسبب أو لآخر، فأنا أظن إن تغير هذا الظرف التاريخي يقتضي تقديم قراءة جديدة في الأصول. وهذا ينطبق على الحالة الفقهية المعاصرة بقدر ما انطبق أو ما دون تاريخيا عن عدول الشافعي عن بعض الأحكام الفرعية، ولكن يظل تشكيل الشافعي للأصول هو نفسه، ولم يختلف في طرقه في الاستدلال ومواقفه من المسائل الكبيرة في الشريعة، فهذه لم تتغير.

** كيف ترى التيارات الفكرية التجديدية الجديدة مثل أون إسلام ويقظة، ودورها في إطار المراجعة؟ والتي بلغت في ثورتها على الأطروحات المتكلسة ثورة تنظيمية أيضا.. ولهذا تجد يقظة فكر خرجت من عباءة الإخوان تجد شباب الإخوان خرجوا من عباءة الإخوان تجد عبد المنعم أبو الفتوح ومدرسته وقد خرجوا؟
د. علي مبروك:
أنا أرى أن هذه مؤشرات كلها جيدة وطيبة، ولا بد من دعمها؛ لكن لا بد أن يكون الهدف أيضا محدد؛ لأننا سنصل في وقت ما إلى السؤال الكبير أو إلى أسئلة كبيرة، وعلينا أن نكون مستعدين للتعاطي والتعامل معها.

تم النشر في موقع أون اسلام بتاريخ 18 يوليـــــــــــــو 2011
حــــــــوار / وسام فـــؤاد


الأحد، يوليو 17، 2011

قراءة في أزمة النخبة الفكرية المصرية بعد الثورة (1-3)




"الخطاب النخبوي المصري - عبر توجهات النخب المختلفة - يتسم بالضحالة البالغة في علاقته بالمفاهيم التي تحتاجها مصر في اللحظة الراهنة".
 هكذا بدأ د. علي مبروك مدرس الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة في حديثه مع أون إسلام.نت عن ملامح الاستقطاب وسمات خطاب النخبة في مصر الآن، وتحليله للموقف جعله يستشعر أن النخبة المصرية بسبيلها لخذلان الشعب المصري مرة أخرى. ورأى أن التوجه الإسلامي يخلط الشريعة بالمدونة الفقهية كما رأى التيار العلماني يعتبر الدين عدو للدولة المدنية بإطلاق من دون التفريق بين الدين كدين وبين الدين كدوجما تعمل على تحويل الاجتهاد الفقهي لمطلق رباني.
وفيما يلي نص الجزء الأول من هذا الحوار:

** كيف ترى وكيف تقيم مشهد الاستقطاب المصري الحادث الآن على الساحة السياسية؟
د. علي مبروك:
 أريد أن ابدأ من النقطة التي أشرت إليها قبل بدء الحوار؛ والمتعلقة بملاحظة عن عدم نضج خطاب النخبة. وأنا أرى أن هذا التوصيف به قدر كبير من التسامح؛ لأن منطق معظم النخبة في نظري يتسم بالضحالة البالغة؛ مما يجعلني أظن أن النخبة المصرية ستخذل شعبها مجددا.
كنت أرى قبل أن تشتعل الثورة في مصر أن السبب الأهم في عدم حدوث تغيير هو النخبة وليس المجتمع، والدليل على ضحالة خطاب النخبة هو ما نلاحظه الآن من سيولة وعدم انضباط كامل في التعامل مع مفاهيم اللحظة؛ التي يكاد أن يكون المصريون جميعا منشغلون بها. فالمطالع يستشعر مما يكتب حولها ومما يقال في تعامل هذه النخبة - بكافة شرائحها - تستشعر أن هناك قدرا من الغياب الكامل للضبط، وأخشى أن أقول أيضا الغياب الكامل للفهم لهذه المفاهيم التي ينبغي التعامل.
ومن ذلك ما نراه من الشد والجذب القائم بين المدني والديني فيما يخص الدولة. فعندما تسمع المتحاورين حول هذه المسألة تتأكد تماما أن هناك غياب كامل للوعي؛ ليس فقط بمضمون المفاهيم، ولكن بما يؤسس للمفاهيم، وبما يجعل هذه المفاهيم مفاهيم منتجة في الواقع. تسمع مثلا – في إطار الاستقطاب - عن اتجاه يحتشد في فريق كبير يسمي نفسه (الإسلاميين)، وفريق آخر يحتشد في فريق دعنا نسميه (أنصار التفكير المدني)، تكتشف أن ما يفهمه أصحاب الاتجاه المدني من المدنية غير منضبط تماما، وما يتحدث به الإخوة المحتشدين في الاتجاه المضاد، تجد نفسك لا تفهم ما يقال بخصوص الدولة الإسلامية أو الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية، وفي النهاية لا تستطيع أن تفهم تماما ما يقال من هنا أو هناك، أو تستشعر كما أستشعر أنا أن هناك عدم وعي كامل للمفهوم.
مثال على ذلك: كنت قد كتبت مقالا عن مسألة الديني والمدني وأي من المفهومين يمثل مرجعية للآخر، وهذا كان شكلا من أشكال الحوار ليس للنقد ولا النقض، كان شكلا من أشكال الحوار حول ما تطرحه جماعة الإخوان المسلمين في مصر في هذه الأيام من التفكير في دولة مدنية بمرجعية دينية، عندما تسأل عن أي دين يكون هو المرجع لهذه الدولة؟ وما هذا الدين الذي تتحدث عنه؟ هل الدين الذي تتحدث عنه شيء واحد؟ فالقول بالمرجعية الدينية مقولة كلية مصمتة مغلقة يتم التعاطي معها بطريقة فيها قدر كبير من الإطلاق ومن الانسياب. فلابد من تحديد ماذا نعني بـ"الدين".
ففكرة الإخوان المسلمين أن المدني إنساني متغير، بينما الديني هو الإلهي الثابت.. إلى آخره، وبالتالي فلا بد أن تكون هناك مرجعية ذات مصدر إلهي تتصف بقدر من الثبات تمثل أساسا نرجع إليه عندما يكون هناك اختلاف بيننا حول هذه الدولة التي نأمل أو نفكر فيها.
ولو سألت سؤال آخر: هل الدين بالفعل كله هو الجانب الإلهي الثابت؟ هل الدين لا ينطوي على أية متغيرات؟ هل الحكم الذي يمكن أن نطلقه على الدين واحد ولا يمكن أن يتعدد بتعدد الأنحاء التي ننظر من خلالها إلى الدين؟ عندما تتعامل مع الدين باعتباره عقيدة مثلا، هل الحكم الذي يصدر عن العقيدة حكم واحد؟ هل الإسلام يتعامل مع الدين كعقيدة باعتبارها شيئا واحدا أم تنطوي على بعد متغير؟ عندما نتحدث عن الإسلام كشريعة.. هل نتحدث عنها باعتبارها بعدا واحدا ثابتا أم نتحدث عنها باعتبارها تنطوي على بعد متغير؟ عندما نتحدث عن الدين كمرجعية للدولة مثلا هل تتحدث عن الدين كعقيدة أم تتحدث عن الدين كشريعة؟ إذا كنت تتحدث عن الدين العقائد فكيف يكون العقيدي بشكل عام ينظر إليه على أنه ينظم علاقة الإنسان بربه فكيف تستعير هذا المفهوم لتنظم به علاقات تتعلق بالمجموع. وعلى ذلك، فالمعنى الذي يرمى إليه الإسلاميون قد يكون الجانب التشريعي من الدين ليصبح هو المرجع لهذه الدولة. هذا الجانب التشريعي لا يمكن النظر إليه باعتباره جانبا ثابتا، بل هو جانب متغير، ليس فقط من دين إلى دين، وإنما أيضا داخل الدين الواحد؛ مما يوحي في النهاية بأن الدين الذي تفكر فيه كمرجعية للمدني هو أيضا فيه هذا التغير، وهو عندما يتغير فمرجعيته هو المدني، فالمدني هو الذي يؤدي إلى التغير في الدين بشكل متجدد.
فكأن ذلك يضعنا أمام مفارقة أن المدني هو الذي يمثل مرجعية للدين وليس العكس، فأي جانب تشريعي تتحدثون عنه الآن؟

** تحدثت عن الإسلاميين ومشكلة خطاهم.. فماذا عن الشركاء الآخرين بالوطن؟
د. علي مبروك:
 أصحاب الاتجاه المواجه الذين يتحدثون عن الدولة المدنية، تسألهم أحيانا ما هي الدولة المدنية يقولون الدولة المدنية هي الدولة التي لا يحكمها العسكر ولا يحكمها رجال الدين، هذا في نظري تسطيح للمسألة إلى حد كبير، وهذا الكلام يتردد بين كثيرين، نريد دولة لا يكون رأسها لا عسكري ولا رجل دين .

** هذا هو التعريف الكلاسيكي لمفهوم المدني.. إذا أين المشكلة في هذا الطرح؟
د. علي مبروك:
 المشكلة في هذا التعريف أن الدولة هنا تكتسب سمتها أو تكتسب ما تتميز به مما يمكن القول عنه بلغة ابن خلدون مثلا أنه صاحب الدولة، فلا بد أن تكون هناك خصائص بنيوية تجعل هذه الدولة مدنية.
الدولة بطبيعتها مدنية. فعندما يقول أحد أن الدولة مدنية فهذا في تصوري كمن يقول أن الماء هو الماء. الدولة مدنية طوال الوقت، لأنها تركيب من التراكيب التي انتقل الإنسان من خلالها من ممارسة وجوده ضمن تكوينات ضيقة تتحكم فيها روابط معينة إلى تكوين أعلى تتحكم فيه روابط من نوع آخر. فبدلا مما كانت الرابطة القائمة بين الناس أو التي تنظم العلاقات بينهم هي الرابطة الطبيعية المتمثلة في وحدة القبيلة أو وحدة العائلة وما إلى ذلك، انتقل الإنسان إلى تكوين أرقى تنتظم العلاقات فيه على أساس قاعدة أخرى غير القاعدة الطبيعية مما ينشئ الرابطة السياسية.
القاعدة الأساسية التي تحكم العلاقات بين البشر هي قاعدة الحق. فالعلاقات بين الناس قائمة على مفهوم الحق. إذا الدولة المدنية هي دولة الحق بشكل أساسي. الخطورة فيما يقوله من يتكلمون عن الدولة المدنية باعتبارها الدولة التي ليست دينية وليست عسكرية ينسى أن الخطر الواقع على الدولة لا يأتيها من الدين ولا من حكامها ولا من النزعة العسكرية، وإنما مصدر الخطر والتهديد الحقيقي لهذه الدولة يتمثل في نزعة فكرية أسميها "النزعة الإطلاقية".
الدين ليس عدوا للدولة المدنية في الحقيقة؛ إذا تعامل معه تعاملا معرفيا دقيقا منضبطا. ويصبح الدين مشكلة للدولة عندما يتحول إلى دوجما.

** تقصد عندما يتجاهل الفقيه وضع اجتهاده كحالة نسبية ويعتبر هذا الاجتهاد امتدادا للنص القرآني؟
د. علي مبروك:
 بالضبط. فعندما يحاول أن يضفي المجتهد قداسة على اجتهاده؛ فيحيله إلى مطلق خارج دائرة المسائلة وخارج دائرة النقد، والأطلقة لا تصيب الفكر الديني وحده، فهي تصيب الفكر الإنساني، وإلا فهل نستطيع التحدث حول الحركات النازية والفاشية إلا باعتبارها حركات أطلقة؟ والحركات المطلقة هي التي تسعى إلى حد كبير جدا لإخفاء الأصل الإنساني للأشياء. ففي إطار النزعات النازية والفاشية مثلا يختفي الفرد "الإنسان" لحساب فكرة مطلقة أو لحساب الدولة باعتبارها كينونة مطلقة تتعدى الأفراد. إذا فدعاة المدنية ينسون أحيانا أنه حتى الفكر الإنساني وليس الدين وحده يتم معه عمليات الأطلقة. فالفكر الإنساني إذا فقد طابعه الإنساني وإذا تحول إلى مطلق من المطلقات فهو يمثل أيضا تهديد للدولة؛ رأيناه وعانت منه الإنسانية ودفعت ثمنا باهظا له، وهو بهذه الصورة يمثل أيضا تهديدا لما يمكن أن يقال أنه الدولة المدنية.
النقاش الدائر في مصر في هذه الأيام تغيب عنه كل هذه الملاحظات أيا كان رأينا في هذه الملاحظات، الآن تستشعر أن هناك جملة شعارات تطرح وشعارات تصلح لتعبئة الناس وحشدهم وإذا ظللنا نتعامل بمنطق التعبئة والحشد فنحن متجهون إلى كارثة كبرى.

** دعني أغوص معك قليلا.. إذا احتكمنا بأن ما يهدد قضيتنا الكبرى: مستقبل مصر، وما يهدد الدولة في طبيعتها المدنية هي مسألة التحول نحو الإطلاق والكُليانية، فهناك فريق يمكن أن نقول أنه بأكمله يقع في دائرة تسويغ وتسويق الإطلاق للمجتمع وهم السلفية، لكن أنا أظن أن الطرح الأزهري ثم طرح التيارات الإسلامية الجديدة ومنها خطاب "أون إسلام.نت" نفسه باعتبارها ضمن الخطابات الجديدة التجديدية، ثم أخيرا قطاع من الطرح الإخواني، هذه الخطابات لا تقع في إشكالية صياغة الأمر في صورة إطلاقية، حيث تصوغ الأمر باعتباره اجتهادا، وكمثال: ففكرة المدنية ننقلها إلى دائرة القانون والاحتكام إليه، وإلى المواطنة وتبعاتها.. كيف ترى هذا الاقتراب؟
د. علي مبروك:
 أتمنى أن يكون الأمر كما تقول، لكن للأسف يبدو لي أنه ليس كما تقول، والدليل على ذلك على سبيل المثال في الطرح الذي يطرحه الإخوان المسلمين باعتبارهم أكبر قطاع أو الصوت المنظم الذي عنده طرح يستحق أن تتحاور معه، المشكلة فيما يطرحوه حتى بالمعنى السياسي برأيي أن لديهم تحفظا فيما يتعلق بالولاية العامة أو ما يقال أنه منصب الرئاسة بخصوص ولاية النساء وولاية غير المسلم، وعندما نقول لهم لماذ؟ وإلام تستندون فيما تقولون؟ وتفاجأ أن ما يقدم إليك هو "إجماع الفقهاء".

** ألم يتم تجاوز هذا الطرح منذ فترة؟ فالمستشار طارق البشري، وهو أحد رموز التيار الإسلامي، ما يقدمه من اجتهاد يمثل جناح من الأجنحة الاجتهاد بالنسبة للإخوان، يرى أن الولاية صارت للهيئات وليست للأفراد، ومن ثم يمكن للولاية أن تكون لامرأة وقد تكون لقبطي لأنها ولاية جمعية للهيئات وليس للأفراد، يتشارك فيها الجميع بما فيهم القبطي والمرأة والرجل، بهذا المنطق فهناك مستويات مختلفة من الولاية تبدأ بمستويات صغيرة مثل منظمة الشهر العقاري المستديمة على سلوك البائع والمشتري؛ وصولا إلى فكرة المجلس الرئاسي المطروحة من جانب قطاع من الثوريين المصريين؛ يمكن أن تكون عضويته لسيدة أو لقبطي. وهناك اتجاه ثان براجماتي يرى فيه الإخوان ألا مشكلة في ولاية القبطي والمرأة باستناد إلى أن الشارع هو مصدر السلطة، وفي النهاية الأغلبية فيه ستحكم إلى من تؤول الولاية. فكيف ترى هذه الاجتهادات؟
د. علي مبروك:
 مع تقديري لأستاذنا طارق البشري أو ما تقوله من إن الإخوان يطرحون طرحا براجماتيا مستعدون فيه لأن يصل الأمر إلى حد قبول ولاية غير المسلم إذا كان هذا هو ما يقرره الشعب، وأنت وصفت طبعا الطرح الإخواني بأنه طرح براجماتي، ومعنى البراجماتية أنه طرح غير مؤسس نظريا؛ أي ليس له أساس، وأنه سيظل في الإطار العملي والإجرائي، وبالتالي سنتجاوز هذا الطرح لأنه ما زال يمثل عاملا من عوامل القلق.
أما فيما يتعلق بالطرح الآخر للمستشار البشري الخاص بأن الولاية للهيئات وليست للأفراد، أنا أتصور أنه هروب من مواجهة المسألة. المسألة في حاجة إلى اجتهاد، وبهذا الطرح نسد المنافذ أمام محاولات الخروج من الأزمة، لكي تحكم على الحل كله بإنه حل لا بد من نبذه، فالأمر يحتاج إلى اجتهاد من نوع آخر بخصوص المسألتين الأساسيتين المتعلقة بموقع غير المسلمين وموقع المرأة من الولاية، الأمر في حاجة إلى اجتهاد ولا بد أن نملك الجرأة لكي نقوم بهذا الاجتهاد، هذا هو ما أقصده.
في نظري، لابد من التعامل مع الإشكالات التي تمثل تحديا حقيقيا، وعلينا أن نواجهها جميعا حتى لا تكون خيارات الفرد مع دينه: إما إن يكون مضطرا لأن يترك دينه أو يتعامل معه بحيادية أو يضطر لتجاهل قيم أصبحت الإنسانية تتعامل بها الآن. نحن نعيش وسط حالة تطور إنساني يجب أن نتعامل مع قيمه المطروحة.
أما عن فكرة العودة إلى القدماء بالقول أن هذا إجماع الفقهاء فمثلا محمد مرسي رئيس حزب الحرية والعدالة عندما كان يتحاور مع علاء الأسواني في التليفزيون، محمد مرسي في الحقيقة عندما وصل النقاش إلى هذه المسائل وإنه هذه المسائل مما يتعارض مع طبيعة الدولة المدنية القائمة على عدم التمييز إلى آخره، محمد مرسي لجأ إلى الموقف المشهور بأن هذا إجماع الفقهاء. هنا أصبحت المدونة الفقهية المرجع في كل ما يقال. والمثير في هذه المسألة هو التعامل مع المدونة على أنها الدين. المسألة المتعلقة بوضع غير المسلمين والمسألة المتعلقة بالمرأة، هما بالفعل التحدي الذي يواجه المسلمين ككل وليس الإخوان وحدهم. ففي أي نقاش مع الغرب، يكون الإسلام في موضع المتهم من ناحيتين النقطة الأولى نقطة غير المسلمين والنقطة الثانية هي المتعلقة بالمرأة ووضعها.
إذا الأمر لا يتعلق فقط بالتعامل مع المشكلة السياسية في مصر وحدها بقدر ما هو متعلق بمشكلة أكبر في العالم الإسلامي وبين الغرب؛ لأن العالم الإسلامي متهم دائما من قِبَل الغرب بأنه فيما يتعلق بهاتين المسألتين لا يراعي المعايير الحديثة التي بلغتها الإنسانية. فالمطلوب أن نحلل هذه المدونة الفقهية، ونرى ما يؤسس لهذه المدونة، ونحدد الأفكار الأساسية التي تقوم عليها.

تم النشر في موقع أون اسلام بتاريخ 17 يوليــــو 2011
حوار / اســــــــــلام فؤاد


الخميس، يوليو 14، 2011

دكتور على مبروك في حوار مع جريدة الاهرم


علي مبروك: 
أجزم بأن دعاة الإسلام السياسي لم يقرأوا كتب الفقه

قال د. علي مبروك، مدرس الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة: 

إنه يجزم بأن دعاة الإسلام السياسي في مصر لم يقرأوا كتب الفقه التي يدعون الحديث باسمها، وأن كل ما لديهم هو مجموعة من التلفيقات والقوالب الجاهزة التي يتحدثون من خلالها ويحاولون إقناع الناس بها على أنها هي الدين والقرآن علي خلاف الحقيقية.

 وأوضح مبروك: 

أن الادعاء بأن الشرع قال وأن الفقه قال مساو للقول بأن القرآن قال أو الله قال هو أمر غير صحيح، ولكن من يقولون بذلك يحاولون إستخدام الدين في خدمة تلفيقاتهم وحججهم الواهية،

 وقال مبروك أن هذا يتجسد الآن في الواقع المصري حين يحتج الإخوان أو غيرهم من التيارات السياسية علي تولي غير المسلم أو السيدة لمنصب رئيس الجمهورية مثلاً علي أن هذا مخالف للإجماع الفقهي متناسين أن الفقه ليس هو الدين. 

وجاء ذلك خلال الندوة التي عقدها ملتقي دروب الفكري
 واستضاف فيها د. علي مبروك أستاذ الفلسفة الإسلامية
بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة ،
وتنصب اهتماماته الأكاديمية والفكرية بالدرجة الأولى على خلخلة الأصول التى يقوم عليها الفكر الإسلامى ومحاولة تجديده،
 ومن أهم كتبه "ما وراء تأسيس الأصول: مساهمة فى نزع أقنعة التقديس"
و"لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا". 

وكشف مبروك عن أن القدماء أنفسهم كان لديهم إحساس مستمر بأنه الفقه يتضمن أحياناً إنحرافات عن القرآن ويبتعد عنه،
 واستشهد مبروك بتفسير ابن كثير للآية الكريمة "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"
والتي ترسي مبدأ التسوية بين البشر
 بينما يحتوي الفقة علي قاعدة مخالفة وهو مبدأ الكفاءة في النكاح والتي تبيح فسخ عقد زواج المرأة في حال وجود خلل في المكانة الإجتماعية بين الرجل والمرأة.
إذن يحترم الفقة مبدأ التراتبية الإجتماعية
 وهو مبدأ مناقض لمبدأ السوية بين البشر والذي يرسيه القرآن. 

وقال مبروك:
 أن الفقه كان يستخدم المرأة لصياغة أوضاع ومراكز عجيبة حيث ساوي الفقه بين ولي المرأة في الزواج وبين أولي الحل والعقد الذي بيدهم تولية الحاكم فهم يملكون العقد ولا يملكون الحل ملثهم في ذلك مثل ولي المرأة
 فهم يملكون تولية الحاكم ولا يملكون خلعه. 
ورأي مبروك :
أن هذا البنية الفقهية لا يمكن التعامل معها إلا من حيث كونها تعبيراً عن علاقة لنا مع القرآن، رسمت علي أن تكون علاقة سلطة. 

ويستدرك مبروك بالقول :
إن القرآن لم يكن كذلك فهو لم يقدم لنا نفسه علي أنه سلطة ولكن علي أنه ساحة للفهم والنقاش والتدبر فلم يقل القرآن في أي من مواضعه لعلكم تطيعون القرآن ولكنه قال لعلكم تتفكرون، لعلكم تعلمون، لعلكم تتدبرون. 
ويرجع مبروك تحول القرآن من كتاب للتعلم إلي:
 كتاب أمر بالسيف إلي معاوية ابن أبي سفيان حين أمر جنوده لرفع المصاحف علي أسنة الرماح في مواجهة علي بن أبي طالب رضي الله عنه،
ويقول مبروك أن المواجهة بين علي ومعاوية لم تكن مواجهة بين جيشين فقط وإنما كانت مواجهة بين طريقتين لفهم القرآن
 الأولي تعاملت معه كسلطة،
 والثانية تعاملت معه كساحة للفهم وانهزمت فيها الطريقة الثانية. 

واستطرد:
" كانت تلك هي معركة نصر حامد أبو زيد التي حاول فيها كسر تلك العلاقة التي تعتبر القرآن سلطة إخضاع وتم تحريف كلامه عبر جملتين شهيرتين
 الأولي :
"التحرر من سلطة النصوص" والتي تحولت علي يد أعدائه لتكون التحرر من النصوص ومن سلطان الله عبر قراءة سيئة النية،
والعبارة الأخري :
"القرآن هو منتج ثقافي" و"تاريخية القرآن"، والتي اعتبرالبعض أنها تعني أن القرآن تنزل في لحظة معينة لا يفهم إلا من خلالها وتنتهي فعاليته بإنتهائها وهي مالم يقصده نصر بحال من الأحوال". 

ويذهب مبروك إلي القول :
بأن تاريخية القرآن لم تكن تعني أن القرآن تنتهي وظيفته بإنتهاء اللحظة التي نزل فيها ولكن تعني أن القرآن هو خطابات إلهية موجهة لبشر تتبدل طبيعتهم وتتغير أحوالهم عبر التاريخ
 ومن ثم يتغير التأويل وهذا كلام قاله الإمام السيوطي والزركشي من قبل وأئمة تقليديين كبار. 
ورأي صاحب "النبوة من علم العقائد إلي علم التاريخ" أن الأزمة الراهنة في مصر الآن هي أن مصر لازالت تعيش في التحيزات والإنتماءات الدينية والمذهبية،
وهذه هي الأزمة الحقيقية التي نحياها الآن. 
وأضاف مبروك أن كل المسارات في مصر الآن مأزومة
ولن تنتج سوي مزيد من الأزمات ،
وأن الحل يكمن في الخروج من التحيزات الدينية إلي المجال المعرفي.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 14 يوليو 2011
بقلم / محمد ســعـــــــد