الجمعة، أكتوبر 21، 2011

ديمقراطية من غير ديمقراطيين


                                        

لعل أحدا لا يجادل في أن أصل المأزق المصري الراهن يرتبط بما يتبدي من عوائق تحول دون إنجاز التحول الديمقراطي علي نحو سلس هادئ‏.‏ لكن هذا التصور ينطوي علي ما يجعله‏,‏ هو نفسه‏,‏
 مأزقا لابد من التفكير فيه; وأعني من حيث يقوم علي اختزال العوائق في مظهرها الخارجي القابل للمعاينة( والذي يتم تركيزه في القوي المضادة التي يعنيها إعاقة التحول نحو الديمقراطية في مصر).
وينسى أن ثمة ما يفوق هذا النوع من العوائق خطراً وكارثية; وأعني بها العوائق الباطنية الكامنة التي تتخفي في أنظمة التفكير ومنظومات القيم السائدة, والتي تكاد لتخفيها أن تستعصي علي الإمساك والمعاينة.
 ولسوء الحظ, فإن خطر وكارثية هذا النمط من العوائق المتخفية يتفاقم في السياق المصري الراهن, ليس فقط بسبب ما يبدو من غلبة حضوره في ممارسات قطاعات واسعة من النخبة التي تقوم علي إنجاز هذا التحول نحو الديمقراطية, بل- والأهم- بسبب شكل حضوره المراوغ الذي يجعل منه جزءا من بنية ذهنية وقيمية يستبطنها الأفراد داخلهم, فلا يستطيعون الانفصال عنها إلا عبر وعي نقدي ليس ميسورا للكثيرين منهم... وبالطبع فإنه لا معني للطلب من مثل هؤلاء الأفراد- الذين يستبطنون في أعماقهم تلك البنيات الذهنية والقيمية المعيقة للديمقراطية- أن ينتجوا الديمقراطية, إلا أنه الطلب للديمقراطية من غير الديمقراطيين.

ولأنه يغلب علي تشخيص النخبة للعائق( أمام الديمقراطية) أنه براني يقع في الخارج, فإن ما تصفه من العلاج اللازم لتجاوزه, لا يتعدي, بدوره, حدود الحل الخارجي البراني( متمثلا في ضرورة إستيفاء الإجراءات الديمقراطية الشكلية). وفي ذلك, فإنها لا تجاوز- رغم نواياها التي لا غبار علي نبالتها- حدود ما قام به أسلافها, علي مدي القرنين الماضيين- من الحرص علي إستيفاء الجانب الإجرائي الشكلي في الديمقراطية, وذلك من دون الإمساك بجوهرها العميق أبدا. فإن إستيفاء المباني الإجرائية الشكلية للديمقراطية, لا يعني أن المعاني التي تسكن تلك المباني قد حضرت معها, بل إنه قد يكون المقصود من الإلحاح علي قيام مجرد المباني, هو التغطية علي الغياب الفعلي للمعاني التي قامت تلك المباني, في الأصل, من أجل تفعيلها وتحقيقها.

ولعلي أبدأ بالإعتذار لإستخدامي ضمير المتكلم, لأني سأحيل إلي وقائع كنت طرفاً فيها, ومن ممارسة من يفترض أنها النخبة الأرقي; وأعني نخبة الجامعة التي أتشرف بالإنتماء إليها. فقد راحت تحضر الديمقراطية, ولكن كمحض إجراء براني راح يؤول- وللمفارقة- إلي تحصين أكثر القيم إبتعادا عن الديمقراطية ومخاصمة لروحها. ولعل ذلك مما يزيد المأزق الديمقراطي تفاقما; وأعني من حيث ما يتبدي من أن وعي الشرائح التي يجري التعويل عليها في إنتاج الوعي النقدي اللازم لتجاوز هذا المأزق, يكاد أن يكون- هو نفسه- ساحة لإشتغال عوائق الديمقراطية الكامنة المتخفية.

ففي إطار سعيه إلي إعادة تشكيل لجانه النوعية, أرسل المجلس الأعلي للثقافة إلي الأقسام العلمية المختصة بنشاط لجانه في الجامعات المصرية, طالبا ترشيحاتها لمن تراه أهلا من بين أعضائها لشغل عضوية تلك اللجان. في القسم الذي أنتمي إليه إستوفينا الشكل تماما, فقد منح السيد رئيس مجلس القسم لكل واحد منا ورقة فارغة ليدون فيها إختياراته علي نحو سري. لكنه وقبل البدء في تدوين الإختيارات راح أحد الزملاء ينبه الكافة إلي ضرورة أن يتذكروا أساتذتنا الكبار في اختياراتهم. ولعل الزميل, ومن دون أن يدري, كان يستدعي من المخزون المبدأ الآبوي لكي يشتغل في تلك اللحظة الحاسمة, وأبدا لم يخذله الزملاء, ولا المبدأ. فلو أن أحدا تأمل في النتائج التي أسفر عنها هذا الإجراء الديمقراطي( اللطيف) لما وجد إلا أنه قد آل إلي ترسيخ قيم الآبوية والسلطوية والحرص علي المصالح الأنانية, والتي تتناقض جميعا- وعلي نحو لا يقبل المنازعة- مع روح الديمقراطية الحقة.

وهكذا فإن أحدا لم يتساءل عن المهام المنوط بتلك اللجان آداؤها; وذلك علي النحو الذي يتيح له أن يحدد إختياراته علي أسس موضوعية عقلية; بحيث تكون للأصلح والأقدر علي التصدي لتلك المهام, بل اتجه سريعا إلي تفعيل القواعد والمبادئ الحاكمة لممارسته وطريقة إشتغاله; والتي هي لاعقلانية في جوهرها لسوء الحظ. فإذ لا يتأسس إختيار شخص ما لآداء مهمة بعينها علي الوعي( أولا) بطبيعة المهمة التي يتعين عليه القيام بها, ثم بقدرته( ثانيا) علي القيام بأعباء تلك المهة, فإنه لا يكون إختيارا قائما علي العقل. وإذ لا يكون قائما علي العقل, فإنه لا يكون- رغم إستيفائه لمتطلبات الشكل- إختيارا حرا. إنه إختيار يقوم علي أحكام وتحديدات مسبقة تسود الثقافة, ويستبطنها الفرد داخله إلي الحد الذي تصبح معه جزءا من صميم كينونته; وعلي النحو الذي يتعذر معه أن تكون موضوعا لفحص وإختبار نقدي, لأنه لا يقدر علي تحقيق الإنفصال عنها ليفحصها موضوعيا. ومن هنا ما يمكن الحكم به عليها من اللاعقلانية. إن المفارقة تتآتي هنا من أن قسما علميا يفترض فيه أن يقوم علي حراسة العقل( وهو الأعلي لذلك في الرتبة بين أقسام العلوم الإنسانية) يمارس تبعا لمبادئ اللاعقل من الآبوية والسلطوية والمصالح الأنانية.

وحين يضيف المرء إلي ذلك ما يلاحظه, مما يتكشف عنه المشهد المصري الراهن, من سعي بعض القوي السياسية الناشطة علي سطحه إلي تشغيل الإجراء الديمقراطي بكافة مظاهره البرانية( من الترشح والإنتخاب وخلافه) إلي تكريس وترسيخ ما ستكون أكثر أنواع السلطة إطلاقا وشمولا; وذلك من حيث يستحيل إخضاعها للمساءلة والمحاسبة بسبب تخفيها وراء حصانة الدين وقداسته, فإن ذلك يعني أن الإجراء الديمقراطي الذي يستوفي ترتيبات الشكل سوف يكون- وللمفارقة- محض آداة لإنتاج أكثر الديكتاتوريات تسلطا وكليانية. فإنه ليس من شك في أن قوة تقول إنها تبغي السلطة لتطبيق شرع الله وقانونه, سوف تجعل من أي محاسبة أو مساءلة لها- حين يصل بها الإجراء الديمقراطي إلي سدة السلطة- بمثابة مساءلة ومحاسبة لشرع الله الذي تحكم بإسمه, والذي يتعالي علي المساءلة والحساب. وغني عن البيان أن إلغاءا للمساءلة والحساب هو إلغاء للديمقراطية في الجوهر; وعلي النحو الذي تتجلي معه مفارقة الإجراء الديمقراطي( المستوفي لترتيبات الشكل) وهو يعمل ضد حقيقة الديمقراطية علي نحو كامل.
وإنطلاقا مما سبق, فإنه لا ينبغي الظن بأن إستيفاء ترتيبات الشكل( فيما يخص التحول الديمقراطي) سوف يؤدي آليا إلي تحقيق الجوهر والروح; حيث إن هذا الأخير يبقي مشروطا بعمل معرفي يقوم عليه الراسخون في العلم الإنساني, وتكون ساحته الجامعة التي لابد أن معني إستقلالها يتجاوز- في وعي أصحابه- مجرد الدعوة الراهنة لإنتخاب قياداتها, إلي ضرورة تأهيلها لآداء دورها الرئيس في البحث وإنتاج المعرفة, وبناء شروط التأسيس. يحتاج الأمر, إذن, إلي إجتهاد معرفي, يبدو أن ما يشغل النخبة عنه هو ما يبذله نجومها من الجهد الليلي في الثرثرة, أمام الكاميرات, بكل ما يحفظون من قاموس المكرور والمعاد.

لابد, في المقابل, من عمل جدي يتجاوز ثرثرات الليل إلي تعرية البنية العمية التي تقف وراء تلك الممارسة التي تهدد التحول الديمقراطي المصري; وهو عمل ستكون ساحته الثقافة التي تتحصن فيها تلك البنية الكامنة العميقة, والتي تتحقق في شكل قواعد تفكير, ومنظومات قيم, وموجهات سلوك تظل جميعها بمنأي عن هيمنة الوعي عليها. ومن هنا أن تفكير الناس وقيمهم وسلوكهم تصبح ساحات لإعادة إنتاج هذه البنية أبدا. لابد, بالتالي, من سيطرة الوعي علي الأشكال التي تتحقق فيها البنية العتيقة( تفكيرا وقيما وسلوكا), وإلا فإن المأزق سيظل قائما أبدا; وأعني مأزق ديمقراطية يراد منها أن تشتغل في إطار بنية ذات طابع ذهني وقيمي وسلوكي مناقض لجوهرها, فلا تفلح إلا في إستيفاء الشكل من دون الجوهر والروح.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 20 / أكتوبر /2011

الجمعة، أكتوبر 07، 2011

ليـــس من الإســــــــــلام




ثمة كثيرون أحضرتهم الثورة من عالم الصمت والظلال إلي عالم الصخب والإبهار‏.‏ من بين هؤلاء رجل لطيف‏;‏ عصري المظهر واللباس‏,‏ حليق الذقن والشارب‏,‏ وعلي جبهته ينسدل شعره الطويل الناعم‏.‏ وحين يدرك المرء أن هذا الوجيه العصري هو أحد أفراد الفيلق الإعلامي لجماعة الإخوان المسلمين‏,‏
 فإنه قد يندفع إلي الظن بأن الإلحاح علي الظهور الطاغي لهذا الرجل بالذات هو- وبصرف النظر عن مضمون ما يقوله- أمر مقصود بذاته للإيهام بحداثة الجماعة وعصرانيتها.

وإذن فلعله يبدو وكأن الجماعة على وعي بأنها تخوض حرب الصورة في ما يقال أنه عصر الصور; وبحيث راحت تسعي لتثبيت صورة لمنتسبيها في مخيلة الناس تختلف عن تلك التي استقرت لهم قبل ذلك; وهي صورة تستوفي كل مفردات العصر الحداثي الراهن. وللإنصاف فإن الأمر يتجاوز مجرد خلق الإيهام عبر إستخدام الصورة العصرية للرجل إلي ما يبدو من أن مفردات الخطاب الذي تدور به إسطوانته, كل ليلة تقريبا, قد راحت تختلف, بدورها, عن تلك المتداولة في خطاب الجماعة; ولكن مع ملاحظة أن هذا الاختلاف لا يتعدي حدود مجرد الشكل والصورة أيضا.
وإذ يكتفي أقران هذا الرجل العصري وإخوانه, بالتفكير في دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية; وبما يعنيه ذلك من الإقرار الضمني بأن الدولة المدنية قد انبثقت خارج الإسلام, بل والدين علي العموم, ولهذا فإنهم يريدون لها أن تتخذ من الإسلام مرجعا لها, فإن هذا الوجيه العصري يتجاوز ذلك إلي القطع بأن الدولة المدنية, بل وكل مفردات الظاهرة السياسية الحديثة, قد حضرت( فكرة ومضمونا وإجراء) إلي الوجود مع الإسلام وحده. وبالطبع فإن ذلك يجعل الرجل من نوع المسلم الذي لم يجد السيد رشيد رضا- تلميذ محمد عبده ومريده- توصيفا له إلا أنه ما إن يتعرض لظاهرة حديثة( سياسية أو حتي علمية أو غيرها) إلا ويفكر أن هذا من الإسلام. وبحسب هذا النوع من التفكير, فإن الإسلام هو أصل كل شئ ومصدره بالإحداث والإنشاء, وليس بالتأويل والإلحاق; وعلي النحو الذي يبدو معه أن الأمر لا يتعلق بتأويل يقرأ تطورا لاحقا( كالدولة المدنية) في أصل سابق( هو الإسلام), بل بإنشاء الأصل السابق(الإسلام) للتطور اللاحق( الدولة المدنية).

وضمن سياق هذا التمييز, فإنه إذا كان مأزق القول بمرجعية إسلامية للدولة المدنية يتمثل فيما ينتهي إليه- خصوصا مع تصور هذه المرجعية علي أنها المنظومة الفقهية المتحدرة من السلف- من تكريس التمييز( ضد المرأة وغير المسلمين والأدني إجتماعيا وعرقيا), وعلي النحو الذي يتعارض مع جوهر ما تقوم عليه الدولة من إلغاء كل أشكال التمييز, فإن مأزق ما يقول به الوجيه العصري من أن الإسلام كان هو فقط الذي أحضر الدولة المدنية إلي الوجود, يتآتي مما لابد أن يترتب علي هذا القول حتما من أن الإسلام هو أصل الدولة المدنية بالإنشاء والإحداث, وليس بالإضافة والإلحاق. فالسابق, عنده, هو الذي أنشأ اللاحق وأحدثه من العدم. وبالطبع فإنه كان يمكن أن تكون لهذا القول مشروعيته ومنطقيته لو أن هذا التطور اللاحق قد انبثق ضمن سياق التجربة التاريخية للإسلام, أو أن من أحدثوه كانوا ممن ينتمون إليه ويؤمنون به, ولكن المأزق يتأتي من أنه قد تبلور خارج هذه التجربة; فضلا عن أن من أحدثوه كانوا من غير المسلمين فعلا.
يتأتي المأزق, إذن, من أن الإسلام الذي هو السابق, في الترتيب التاريخي, لا يمكن أن يكون- والحال كذلك- أصلا لتطور الدولة المدنية اللاحق إلا بالإضافة والإلحاق; أو- في كلمة واحدة- بالتأويل. وبالطبع فإنه لا سبيل لتجاوز هذا المأزق( في شكليه السابق الإشارة إليهما) إلا عبر الوعي بالأساس التأويلي الذي تقوم عليه العلاقة بين الإسلام, من جهة, والظاهرة السياسية الحديثة متمثلة في الدولة المدنية من جهة أخري.

في أبسط معانيها, فإن التأويلية تعني أن تنفتح الواحدة من منظومتين محددتين( كالإسلام والظاهرة السياسية الحديثة مثلا) علي الأخري, ولكن بكيفية تخلو من التضحية بجوهر إحداهما لحساب الأخري, أو فرض إحداهما علي الأخري علي نحو من الإكراه والتعسف. وبالطبع فإنه لا سبيل إلي هذا الانفتاح بين الواحدة من المنظومتين والأخري إلا عبر الوعي بجوهر ما تقومان عليه في العمق, وفيما وراء مجرد أشكالهما الظاهرة; وبمعني أن يكون الإسلام موضوعا لوعي يتجاوز الشكل الذي تركه عليه القدماء, وذلك بمثل ما تكون الدولة المدنية موضوعا لفهم يتجاوز محض حضورها الإجرائي الشكلي. ولسوء الحظ, فإن فعل الوعي يغيب عن الممارسة الراهنة, ولا يبقي حاضرا إلا فعل الفرض والطمس. فإنه إذا كان أصحاب القول بالدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية يفرضون علي تلك الدولة من المنظومة الفقهية المتوارثة ما يؤدي إلي التضحية بجوهر ما تقوم عليه, فإن صاحب القول بأن الإسلام هو الذي أحضر الدولة المدنية إلي الوجود يتجاوز مجرد الفرض للإسلام علي الظاهرة السياسية الحديثة إلي التضحية بالوجود الذاتي لهذه الظاهرة من الأصل.
وتبعا لذلك, فإن المنظومتين- بحسب هؤلاء- لا تنفتح الواحدة منهما علي الأخري في حوار منتج, توسع فيه الواحدة منهما الأخري وتتسع بها في الآن نفسه, بل تهدد إحداهما الأخري وتضيق بها; وذلك علي النحو الذي يجعل من التعامل الراهن مع الظاهرة السياسية الحديثة في علاقتها مع الإسلام, تعاملا عقيما وفاسدا.
وإذا كان فساد هذا التعامل وعقمه يتأتي من إنكار التأويلية كأساس للعلاقة بين منظومتي الإسلام والظاهرة السياسية الحديثة, فإن ما يثير الاندهاش, حقا, أن سلفا كبيرا, في وزن السيد رشيد رضا الذي يمكن اعتباره رائدا للأستاذ البنا مؤسس جماعة الإخوان, قد كتب- قبل أكثر من مائة عام- ما يشي بفهم أكثر وعيا واستنارة, من ذلك الذي يثرثر به أحفاده المتأخرون, لعلاقة الإسلام بالظاهرة السياسية الحديثة.

فقد كتب الرجل في( المنار) :
 لا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم( الدستوري الحديث) أصل من أصول ديننا, ونحن قد استفدناه من الكتاب المبين ومن سيرة الخلفاء الراشدين, لا من معاشرة الأوروبيين والوقوف علي سيرة الغربيين. 

فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس, لما فكرت أنت وأمثالك أن هذا من الإسلام, ولكان أسبق الناس إلي الدعوة إلي إقامة هذا الركن علماء الدين في الأستانة وفي مصر ومراكش; وهم الذين لا يزال أكثرهم يؤيد حكومة الأفراد الإستبدادية ويعد من أكبر معاونيها, ولما كان أكثر طلاب حكم الشوري المقيد هم الذين عرفوا أوروبا والأوروبيين...ألم تر إلي بلاد مراكش, الجاهلة بحال الأوروبيين, كيف تتخبط في ظلمات استبدادها, ولا تسمع من أحد كلمات شوري مع أن أهلها من أكثر الناس تلاوة لسورة الشوري, ولغيرها من السور التي شرع فيها الأمر بالمشاورة وفوض حكم السياسة إلي جماعة أولي الأمر والرأي....(وإذن) فلولا اختلاطنا بالأوروبيين, لما تنبهنا من حيث نحن أمة أو أمم إلي هذا الأمر العظيم. وهكذا فإنه لولا ما حققه الأوروبيون في مجال الظاهرة السياسية الحديثة وغيرها, لما كان للمسلم- بتعبير رضا- أن يفكر أن هذا من الإسلام أصلا.
وليس من شك في أن فعل التفكير الذي ينسبه رضا إلي المسلم- في هذا السياق- ليس تفكير ابتكار وإبداع, بل تفكير إلحاق واستتباع, علي الطريقة العتيقة للفقهاء; وأعني من حيث ما يبدو من أن فعل التحقيق والإبداع كان مقصورا- في اللحظة التي كتب فيها نصه, ولا يزال علي نفس الحال للآن- علي الأوروبيين وحدهم, وذلك فيما لا يعرف المسلمون إلا فعل الاستتباع والإلحاق. وبالطبع فإنه لو كان للمسلمين أن يمارسوا فعل التحقيق والإبداع, لكان لهم أن يجادلوا بأن إسلامهم السابق هو أصل إبداعهم اللاحق. وأما أن يتركوا للأوروبيين فعل الإبداع ويكتفي المسلمون بفعل الإلحاق, فإنه ليس لهم أن يضيفوا إبداع غيرهم اللاحق إلي أصلهم السابق; أو أن هذه الإضافة هي من قبيل قراءة اللاحق في السابق; التي تظل قراءة تأويلية أبدا.
ولعله ليس من تفسير لهذا التباين بين موقف رشيد رضا وموقف أحفاده المتأخرين إلا أنه فيما كانت المعرفة وتنوير الأذهان- ولو بخصوص هذه المسألة المتعلقة بالإسلام والسياسة الحديثة بالذات- هي شاغل تلميذ الأستاذ الإمام, فإن أحفاده من مؤدلجي الإسلام المتأخرين, قد غرقوا في مستنقع الإيديولوجيا إلي ما بعد أذقانهم. وغني عن البيان أن إنكار التأويلية من جانب هؤلاء المؤدلجين للإسلام إنما يرتبط بأن القصد عندهم ليس تنوير الأذهان بقدر ما هو التجييش وحشد الأتباع. وبالطبع فإنه ليس من سبيل أمامهم لفعل ذلك إلا من خلال نفي التأويلية عن تلفيقاتهم الإيديولوجية للإسلام, ليضفوا عليها قداسة المتعالي الذي يتعدي بها حدود الأفهام إلي محض التلقي والإذعان.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 6 / أكتوبر / 2011


السبت، أكتوبر 01، 2011

‬خطاب النخبة المصرية‮ »‬أعور‮«!!‬



يعمل علي مبروك في هدوء،‮
 ‬يحاول قراءة مسيرة الحداثة العربية وتفكيكها،‮
 ‬للوقوف علي اسباب انتكاساتها،‮
‬وبدون صخب يقرأ الاستاذ المساعد بقسم الفلسفة في آداب القاهرة،‮ ‬
مشاريع‮ »‬الباشا‮« ‬القديم،‮ ‬
و»الجنرال‮« ‬الحديث،‮ ‬
ينزع الاستار المتراكمة عن الامام الشافعي،‮
‬وصولاً إلي ثورة الخامس والعشرين من يناير‮.‬


لا يهدف كاتب لعبة‮
»‬الحداثة بين الجنرال والباشا‮« ‬
عبر دراساته ومقالاته إلي مهاجمة الاشخاص،‮
‬ولكن إلي نقد الخطاب الذي تقدمه تلك الشخصيات كي يصل‮ 
 ‬ـ ليس وحده ولكن مع الآخرين‮  ‬ـ
 إلي سد فجوات الخطاب وإلي تعميقه كي يستطيع قراءة الواقع بطريقة سليمة،‮
 ‬تمكن من بناء مستقبل مختلف،يغاير الماضي،‮
 ‬الذي عمل علي بناء اشكال للحداثة وليس جوهرها،‮ ‬علي حد تعبيره‮.
 ‬ربما يبدو صاحب‮
»‬ما وراء تأسيس الاصول‮: ‬مساهمة في نزع أقنعة التقديس‮« ‬
قاسياً في حديثه عن النخبة ولكن يبقي هدفه استغلال الفرصة التي جاءت مع الخامس والعشرين من يناير
 لتصبح ثورة حقيقية تصل إلي العمق المعرفي للمجتمع المصري‮.‬
مبروك أيضا واحد من أهم زملاء نصر أبو زيد ورفاق رحلته البحثية في‮
»‬الدراسات القرآنية‮« ‬
بالإضافة إلي ذلك فلقد رافقته في رحلته الأخيرة إلي أندونيسيا للبحث في مشروعهما المشترك حول إنشاء المعهد الدولي للدراسات القرآنية‮.‬

دعنا نبدأ من مشاكل النخبة كما تراها قبل الخامس والعشرين من‮ ‬يناير‮ .. ‬خاصة وان جزءا من اعمالك‮ ‬ينصب علي محاولة نقد هذه النخبة؟
طوال الوقت أنا لا اناقش النخبة كأفراد،‮ ‬ولكن خطاب النخبة،‮ ‬
فالمشكلة ليست في افراد،‮ ‬فقد يكون الاشخاص حَسني النوايا ومخلصين جداَ،‮ ‬ويسعون بالفعل إلي الاصلاح،‮ ‬ويدفعون ثمن ذلك،‮ ‬
هذا لا يملك أحد أن يناقشه او أن يجادل فيه‮.‬
لكن المشكلة أن رؤي النخبة،‮ ‬أو الخطاب الذي يقدمونه هو خطاب أعرج،‮ ‬
فالخطاب الذي تقدمه النخبة للاصلاح يقع في براثن الخطاب الذي تواجهه وتريد تغييره وزحزحته‮.‬
وإحدي أزماتنا أن الانشغال لدينا هو انشغال بالاشخاص،‮
 ‬وليس بما يقدمونه،‮
وأنا طوال الوقت مشغول بتوجيه الالتفات إلي الخطابات لا إلي الاشخاص،‮
‬وليس لديّ‮ ‬مشكلة مع أي شخص ولكن لديّ‮ ‬مشكلة مع الخطاب الذي يقدمه ذلك الشخص‮. ‬
خاصة أن معظم الخطابات لدينا هي خطابات عوراء‮.‬
بمعني انها عاجزة عن التأثير الفعال،‮ ‬والمنتج في الواقع،‮ ‬فالخطاب عندما يكون مبنياً‮ ‬علي مفاهيم ملتبسة،‮ ‬وحجج‮ ‬غامضة وتراكيب هشة ورثّة،‮
‬ولا يقوم بعمليات فحص واختبار لتلك المفاهيم،‮ ‬والحجج التي يقوم عليها،‮
‬ويكتفي فقط بالاتساق الظاهري يصبح خطاباً‮ ‬شكلياً‮ ‬وغير قادر علي إحداث تغيير في الواقع،‮ ‬وحتي إن كان يحوز قدراً‮ ‬من الإجماع الجماهيري سيظل من داخله خطاباً‮ ‬مأزوماً‮.‬

وما أبرز الأسس التي تري أن خطاب النخبة‮ »‬الأعور‮« ‬يرتكز عليها؟
عندما اتحدث عن خطاب النخبة فأنا اقصد..
 خطاباً‮ ‬بدأ في التشكل مع بدايات القرن التاسع عشر،‮
‬وتلك البداية لا تعني فقط رفاعة الطهطاوي،‮ ‬
ولكن هناك شخصا اسبق من الطهطاوي وإن كان ما حفظه لنا التاريخ من ذلك الشخص ليس بالكثير وهو المعلم يعقوب،‮
 ‬وتجد في إحدي عباراته التي وصلت الينا ما يمكن اعتباره‮
 »‬العبارة التأسيسية‮« ‬بامتياز،‮
 ‬لخطاب ظل مهيمناً‮ ‬إلي تلك اللحظة حيث يقول ان‮:
 »‬التغيير في مصر لن يكون نتاج انوار العقل،‮ ‬ولا اختمار المذاهب الفلسفية،‮ ‬وانما سيكون تغييرا تصنعه قوة قاهرة علي قوم وديعيين جهلاً«
هذه العبارة بالنسبة لي دالة علي مسيرة التحديث العربي منذ القرن التاسع عشر
 حتي الآن،‮ ‬
التي هي بالفعل محاولات لبناء التحديث بالقوة،‮
 ‬حيث نجد قوة ما تتشكل وتسعي لفرض التحديث علي مجتمعات تقليدية،‮
‬من هنا ظل مشروع الحداثة العربي
 إما مشروع‮ »‬باشا‮« ‬بالمعني السياسي الضيق،‮ ‬
أو مشروع‮ »‬جنرال‮« ‬بمعني حكم العسكر،‮
‬ولم تكن الحداثة في أي وقت من هذا الزمن الممتد حداثة مجتمع،‮ ‬أو جماهير‮.‬
عندما نري تاريخ التعليم في مصر منذ عهد محمد علي
 فسنجد أن التعليم طوال الوقت هو عملية إجرائية الهدف منها إنتاج كوادر
 تخدم مشروع الدولة
،‮ ‬أما مسألة خدمة المجتمع واعادة صياغة عقله فهذا أمر‮ ‬غير موجود.
التعليم لدينا يخلق عقلاً اجترارياً وليس عقلاً نقدياً،‮ 
‬لهذا السبب نجد في الفترة الاخيرة عودة القوي التقليدية



وانها هي الفعالة بشكل اساسي مثل العشيرة والقبيلة


وإلي آخر تلك الأشكال التقليدية،‮


‬واذا نظرنا إلي الصراع الموجود الآن في العالم العربي


سواء في ليبيا او سوريا او اليمن فسنجد أن الأشكال التقليدية القبلية


هي التي تقوم به،‮ ‬فالعالم العربي في السنين الاخيرة اصبح مفرخة للاستبداد والفساد والارهاب،‮


‬ومثل هذه النتيجة لا يمكن أن تخرج من مجتمع تعرض لعملية تنوير‮.‬
ونحن الآن نخاف من سيطرة الاسلاميين او السلفيين علي الحكم في مصر
بعد قرنين من عملية الحداثة المفترض حدوثها منذ وقت محمد علي،‮
 ‬وفي النهاية نجد أن هذه القوي التقليدية هي المؤهلة لأن تكسب الساحة،‮
 ‬وتحظي بقدرة كبيرة علي التأثير في الجماهير،‮
‬وهذا يعني اننا يجب أن ندفع ثمن إهمالنا للمجتمع
‮ 
من‮ »‬نحن‮« ‬هنا؟
نحن هنا بالفعل ضمير ملتبس،‮
‬يشمل الدولة والنخبة بشكل ما،‮
‬فأنا اعتبر نفسي واحداً‮ ‬من الذين سيدفعون الثمن
 على الرغم من كوني ناقداً لهذا الخطاب،‮
 ‬والنخبة المرعوبة الآن يجب أن تدرك أن هذا ثمن سنوات طويلة من عدم الالتفات لعقل المجتمع وحالته،‮
 ‬فالاهتمام بالمجتمع ليس فقط ببناء الكباري أو الطرق الدائرية وإهمال كل ما يتعلق بالعقل‮.‬

ولكن أعضاء التيار الاسلامي بألوانه من الإخوان إلي السلفيين ليسوا نبتاً شيطانياً ولكنهم موجودون ومنتشرون منذ فترة‮.. ‬فلماذا نري تلك الصدمة التي تشعر بها النخبة الآن؟‮ ‬
إذا حاولت تفسير تلك الصدمة بشكل حسن النية فهي بسبب أن الناس تدرك أن أمامها عملاً‮ ‬طويلاً‮ ‬من أجل عدم سرقة المجتمع‮..‬

‬ولكن مرة أخري من هم‮ »‬الناس‮«...
‬بمعني آخر هل بالفعل الجماهير في الشارع تخاف من مجيء الإسلاميين‮..‬
أم أن تلك مخاوف نخبة معزولة؟
بشكل ما الجماهير لا تمتلك نفس مخاوف النخبة من الإسلاميين،‮
 ‬وذلك لأن هذه الجماهير أفزعها فساد مبارك ورجاله،‮ ‬
وأصبح بالنسبة لها الحل في مزيد من الاخلاق،
‮ ‬لأن مبارك ونظامه كانوا بلا أخلاق،‮
 ‬كما أن هذا التيار الذي يتحدث باسم الدين ربما يكون أكثر أخلاقاً‮ ‬من ‮ ‬نظام مبارك،‮ ‬وبالتالي فهم بديل أفضل‮.
‬بالتأكيد الناس معذورة في ذلك الشكل من التفكير،‮ ‬وهذا سيرجعنا مرة أخري إلي أننا بلا مؤسسات،‮ ‬فالمؤسسات التي يمكن أن تقوم بعمليات المراقبة والمحاسبة والمساءلة‮ ‬غير موجودة،‮
 ‬فأصبحنا نعول علي ضمير الشخص وأخلاقه ومدي خوفه من الله،‮ ‬والتي هي في النهاية كلها معايير ذات طبيعة شخصية جدا‮.‬
وهنا إذا رجعنا مرة أخري إلي رفاعة الطهطاوي الذي انبهر بفرنسا
ورأينا كيف يكتب عن الحاكم،‮ ‬فلا نجد أنه يتحدث عن آليات مؤسسية يمكنها مراقبة ومحاسبة ذلك الحاكم،‮ ‬
ولكنه حين يتحدث عن القوة الرادعة للحاكم فهي الحياء،‮ ‬والضمير،‮ ‬ويمكن أن يسدي اليه النصح ولكن بحدود‮. ‬
وهذا يجعلنا نطرح تساؤلاً كبيراً حول مفهوم‮
»‬الدولة الحديثة‮« ‬
الذي يتحدث عنه الكثيرون في العالم العربي الآن،‮ ‬
هل لدينا بالفعل دولة حديثة أم أن حالنا يشبه ما تحدث عنه الشاعر العراقي معروف الرصافي في بداية القرن العشرين‮
»‬علم ودستور ومجلس أمة‮..
 ‬كلٌ عن المعني الصحيح محرف‮ «


 ‬وان كل ما نتحدث عنه باعتباره مؤسسات هي مجرد هياكل صورية أو ادوات تحقق من خلالها الارادة المستبدة للحاكم ولا تشكل اي نوع من انواع الحدود


علي ارادة هذا الحاكم،‮


‬ما يجعل الجمهور الآن‮  ‬يتجه إلي‮ »‬اصحاب الاخلاق‮« ‬


لأن المؤسسات لم تفد بشيء‮.‬

في هذا السياق كيف تري‮ ‬25‮ ‬يناير؟
‮٥٢ ‬يناير فتحت الباب لنا أمام فرصة،‮
‬فإما أن نكون علي مستوي اللحظة والتحدي،‮
 ‬وأن نتفاعل بشكل إيجابي‮  ‬مع تلك اللحظة الهامة،‮
وإما ستدخل مصر والعالم العربي في نفق مظلم يعلم الله مداه‮.‬

مرة ثانية‮... ‬إلي من توجه ضمير المخاطب هنا؟
إلي النخبة التي يجب أن‮  ‬تستشعر حساسية اللحظة الراهنة،‮ ‬
ولكن ما يبدو لي حتي الآن‮  ‬ليس مطمئنا بشكل كبير،‮
 ‬فكي نكون علي مستوي اللحظة يجب أن نعي دلالتها علي مستوي السياق التاريخي،‮ ‬ويجب أن نري من أين جئنا لنصل إلي هذه اللحظة،‮ ‬واين نود الذهاب!!
وما يبدو لي حتي الآن أن ممارسات النخبة لم تتغير،‮
‬واسوأ ما فيها انها حتي الآن‮  ‬غارقة في مستوي التخاصم والتناطح الايديولوجي،‮ ‬وهذه ليست الشروط اللازمة لكي تتحول‮ ‬25‮ ‬يناير إلي ثورة،‮
‬حتي الآن‮  ‬نحن امام مشروع ثورة،‮ ‬والامر لا يتعلق بتغيير رأس السلطة،‮
‬أو باستبدال سلطة محل اخري‮.‬
ولكن السؤال هو‮:
 ‬هل نملك الآن‮  ‬شروط بناء النظام الجديد؟
 ولا اقصد هنا فقط الفهم السياسي لهذه الشروط،‮
 ‬ولكن ما اقصده هو الفهم المعرفي لدلالة ما حدث،‮ ‬وأكتفي فقط بطرح السؤال
والأيام والممارسات ستجيب عليه‮.‬

روج النظام وبعض المثقفين أن أي تحرك جماهيري يمكن أن يحدث سيكون اسلامياً،‮ ‬ولكن يمكن القول بثقة أن‮  ‬أيام التحرير كانت ذات مسحة علمانية،‮ ‬كيف تفسر ذلك ولماذا تبدو تلك الحالة‮ ‬غائبة حالياً؟‮
اللحظة من‮ ‬25 ‬يناير وحتي‮ ‬11‬ فبراير
هي لحظة استثنائية لا يمكن القياس عليها،‮ ‬
وتظل لحظات فارقة في تاريخ حياة الشعوب،‮ ‬
بالتأكيد كانت لحظة فريدة اجتمع فيها كل الناس علي مطلب واحد تريد أن‮  ‬تقبض عليه بأيديها،‮
 ‬وهذا ما شكل تلك اللحظة وليس علمانية الناس أو حداثتهم،‮
 ‬ولكن اتفاقهم علي مطلب واحد وواضح ولا مجال فيه للاختلاف بين كل الناس المحتشدة في كل مدن مصر‮.‬
لكن المشهد اختلف بعذ ذلك لأننا رجعنا إلي السياق العادي،‮
‬وانتهت اللحظة الاستثنائية،‮
‬وعدنا إلي الممارسات التي أتحدث عنها وأريد توضيح أن حديثي عنها لا يعني رفضاً لها ولكنها محاولة لنقدها،‮
 ‬رغبة في مزيد من العمق للحوارت الدائرة‮.‬

ما الذي تقصده بتعميق الحوار‮...‬
أي المناطق تحديداً‮ ‬التي تري أنها تحتاج إلي ذلك التعميق؟
دعني اضرب لك مثلا من الحوار الدائر بين الدينيين والمدنيين حالياً،‮
 ‬والذي لا افهم علي أي ارضية يقف،‮
 ‬فمثلاً
 عندما يدور الحوار بين احد دعاة الدولة المدنية ذات المرجعية الاسلامية
وبين أحد دعاة المشروع العلماني،‮
‬يتحدث الديني عن عدم إمكانية تولي‮ ‬غير المسلمين الولاية العامة،‮
‬فيرد عليه المدني بأن هذا تمييز،‮
‬فيجيب الديني بالموافقة،‮ ‬
أجل هذا تمييز اجمع عليه الفقهاء‮. ‬

وهنا يقف صاحب المشروع العلماني حائرا أمام هذا»الاجماع‮«.‬
وما اقصده بتعميق الحوار هنا،‮ ‬
أن صاحب المشروع الديني هو اما جاهل او مرواغ،‮
 ‬فإذا كان جاهلاً فيجب أن يعرف واذا كان مراوغا فيجب كشف مرواغته،‮ ‬
ففي هذه الحالة يجب علي صاحب المشروع المدني الا يقف امام حائط‮ »‬الاجماع‮« ‬وانما يجب عليه اختراقه بالسؤال عما يعنيه هذا الاجماع،‮
‬بل يرد السؤال إلي مستوي اكثر عمقا بالسؤال عن معني المنظومة الفقهية اصلاً،‮
‬فهل الفقه هو القرآن؟
 أم انها منظومة خلقت بفعل كثير من المحددات التاريخية والمجتمعية والسياسية والاقتصادية لظرف بعينه‮. ‬
فالامام مالك عندما يتحدث عن اصول فقهه فمنها أعراف اهل المدينة،‮ ‬
اذن ما تعارف عليه اهل المدينة اصبح في الفقه له قوة النص القرآني،‮
 ‬لذلك عندما اراد الخليفة ابو جعفر المنصور تعميم كتاب‮
»‬الموطأ‮« ‬للامام مالك
علي جميع البلاد،‮ ‬


رفض مالك لأن عادات اهل العراق تختلف عن عادات اهل المدينة،‮


‬وكل بلد له عادات واعراف مختلفة‮. ‬


فالفقه يحمل من المجتمعي والسياسي الكثير،‮ ‬


ولكن مرواغة صاحب المشروع الديني باستعمال‮ »‬الاجماع‮« ‬تهدف إلي خداع الجمهور عن طريق الخلط بين الفقه والدين‮.‬
وعندما يقف داعية الدولة المدنية امام‮ »‬الاجماع‮« ‬فهذا يعني انه قبل الفرضية التي يطرحها الآخر والتي تساوي بين الفقه والدين،‮
 ‬وبالتالي إذا عارضت الدولة المدنية ما يقول به الفقه فكأنها تعارض الدين‮.‬
هذا ما اعنيه بالأسس التي تعمق الحوار،‮
‬ولكن ما يحدث أن الجميع يصنع تراكيب بالغة الهشاشة ويخوضون بها نقاشا‮ ‬غاية في الضحالة،‮ ‬وهذه اسوأ طريقة في الاشتغال المعرفي‮.‬
فمن يريد إقامة دولة دينية ذات مرجعية دينية قائمة علي التباس بين أن
الفقه هو الدين،‮ ‬
وهكذا نبدو كمن يريد أن يسلم مصر إلي من يبني مشروعاً‮ ‬خاطئاً‮ ‬من اساسه،‮ ‬وبالتالي فان مستقبل البلاد لا يعنيه‮.‬
ونفس المشكلة موجودة في الخطابات الأخري
فالجميع في الهم سواء المدني والديني والحداثي،‮
 ‬والهدف من مثل هذه النقاشات ليس تفنيد خطاب الخصم،‮ ‬
ولكن بالاساس تنبيهه إلي انه لا يوجد خطاب يمكنه بناء واقع مشرق بدون أن‮  ‬يكون مبنياً‮ ‬علي اساس سليم‮. ‬
واتمني ألا تقام تلك النقاشات في برامج التوك شو،‮ ‬ولكن بعيداً عن ماكينة الاعلام،‮ ‬فهناك في كل فريق من هو مهموم بمستقبل البلد وليس فقط ما يمكن الفوز به من الكعكة الحالية‮.‬

كيف تري سبيل الخروج من تلك الدائرة؟
يجب أن نبني الشروط التي تسمح بمصر مختلفة
ولن نصنع ذلك الا اذا انتقلنا من الخطاب القديم،‮
 ‬الذي يعمل فقط علي صناعة توافق شكلي خارجي،‮
‬فيصبح لدينا كل شيء ولكن من الخارج فقط لدينا مؤسسات شكلية،‮ ‬ودولة شكلية،‮ ‬وحتي الدين لدينا شكلي،‮ ‬بينما الجوهر خال تماما‮.
‬لذلك اصبحنا في ذيل الامم بسبب الخواء الفظيع الذي نحيا فيه،‮ ‬
وكما ذكرت فنحن امام فرصة يمكن أن تخرجنا بعيداً‮ ‬عن تلك الدائرة،‮ ‬اذا وعينا بمتطلباتها‮.‬
وأولي تلك الخطوات أن نتجه إلي إنقاذ النخبة،‮
 ‬ومن سيقوم بهذه العملية هم ذلك الجزء من النخبة الذي يمتلك خطابا نقديا يجعله قادراً‮ ‬علي رؤية الفجوات في خطابه قبل رؤية فجوات خطابات الآخرين،
‮ ‬كي نفتح باباً لتجاوز التلفيق والشكلانية الهشة‮. ‬
وهذا التجاوز هو ما يسمح فعليا ببناء دولة المؤسسات،‮ ‬دولة الحق،‮ ‬وهذا ما يسمح بإعادة تشكيل العلاقة‮ ‬بين الدولة وبين المجتمع‮.‬

تم النشر في جريدة أخبار الأدب بتاريخ في 1 اكتوبـــــر 2011
كتب / محمد فرج
لينـــــــك المــوضـــــــوع