الخميس، مايو 31، 2012

عن الديــن والدولة والاجتمــاع المدنـــي




لايتعلق الأمر أبداً بالقصد إلي الانتقاص والحط من شأن أي تشكيل مجتمعي بحسب ما قد يتراءي للصاخبين من مؤدلجي الاسلام‏,‏
 بقدر ما يتعلق بالسعي إلي إنتاج معرفة منضبطة بالشروط التي تترتب ضمنها العلاقة بين الدين والدولة‏.‏

فإنه ليس ثمة من نمط واحد تترتب بحسبه العلاقة بين الدين والدولة, بل إن التجربة البشرية قد عرفت نمطين لترتيب العلاقة بينهما,
بدا أن الدين في أحدهما هو المنتج لما يمثل شرطا لنشأة الدولة, بينما كان يجري في النمط الآخر استيعابه ضمن بنية الدولة القائمة.
ويتأتي الاختلاف بين هذين النمطين من التباين بين تشكيلتين مجتمعيتين فرضت إحداهما حضورا للدين لاحقا علي قيام الدولة, وذلك فيما فرضت الأخري حضوراً للدين سابقاً علي الدولة وشرطاً لها.

 وبالطبع فإنه لا يمكن فرض القواعد الخاصة بأحد النمطين علي الآخر, وبمعني أنه لايمكن فرض نمط العلاقة بين الدين والدولة الخاص بتجمعات الصحراء علي مجتمعات الماء, والعكس, والحق أن الأمر يتجاوز مجرد التباين بين نمطين في العلاقة بين الدين والدولة إلي الاختلاف, بالمعني الحضاري الشامل, بين روحين, صاغت إحداهما طراوة الماء, وذلك فيما حملت الأخري مرارة الصحراء.

 ولسوء الحظ فإن ثمة في مصر( التي هي أحد مجتمعات الماء العتيدة) من لا يقدر علي استيعاب حقيقة هذا التمييز, فيسعي إلي أن يفرض عليها علاقة بين الدين والدولة تخص تجمعات الصحراء.
 إبتداء من ذلك كله, وانطلاقا من حقيقة التباين ـ الذي لا يماري فيه أحد ـ بين الجماعات البشرية فيما يخص العمق التاريخي لتبلورها الحضاري, فإنه يمكن القول إن عرب ما قبل الإسلام لم يكونوا مثل غيرهم من الجماعات ذات التبلور الحضاري الأسبق, التي إمتلكت ـ كالمصريين والفرس والإغريق ـ تقاليد سياسية راسخة قبل أن تعرف الدين.

 ومن هنا أنهم لم يتوفروا علي تراث في النظر( والإشتغال) السياسي يستفيدون منه لغة السياسة ومصطلحها, بل إن ميلاد السياسة( نظرا وإشتغالا) قد تحقق عندهم في قلب الإسلام. ويرتبط ذلك بحقيقة أنه إذا كان تبلور النظر في السياسة يحتاج إلي ممارستها والاشتغال بها أولا,
 فإن مثل هذا الإشتغال يستحيل, بالكلية في حال غياب قواعد الاجتماع المدني أو الأهلي التي يبدو أن شروط الجغرافيا الطبيعية قد حكمت بغيابها عن عوالم عرب ما قبل الإسلام, فالملاحظ أن هذه القواعد ترتبط( وجودا وعدما) بطبيعة الوسط الجغرافي الذي تعيش فيه الجماعة,
 وبمعني أنه إذا كان الشرط الجغرافي قد فرض علي الجماعات التي تعيش في أحواض الأنهار أن تبلور قواعد للتعاون والعيش الأهلي المشترك( للقيام علي شئون ضبط النهر), وبما أتاحه لها ذلك من قيام السلطة المركزية وإمتلاك الدولة
(كتنظيم سياسي)
 قبل أن تعرف الدين
( وذلك بمثل ما جري في مصر وبلاد ما بين النهرين مثلا ),

 فإن شروط الجغرافيا الصحراوية لم تسمح للجماعات التي تعيش فيها
(ومنهم عرب ما قبل الإسلام) ببلورة قواعد للاجتماع المدني علي نحو يسمح لها ببناء السلطة والدولة.
 ولعل ذلك ما يبين عنه التحليل الضافي الذي قدمه إبن خلدون للوضع الذي كان عليه عرب ما قبل الإسلام, والذي يمضي فيه إلي إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين علي الجملة.
 والسبب في ذلك ـ كما يقول ـ إنهم, لخلق التوحش الذي فيهم, أصعب الأمم إنقيادا بعضهم لبعض, للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة, فقلما تجتمع أهواؤهم, ولذلك كانوا أبعد الأمم عن سياسة الملك.
ويربط ابن خلدون ذلك بأنه إذا كانت سياسة الملك والسلطان تقتضي أن يكون السائس حاكما بالقهر, وإلا لم تستقم سياسته, فإن القائم علي رأس كل واحد من تلك التجمعات كان مضطرا إلي عدم مغاضبة أهل عصبيته أو قهرهم, لكيلا يختل عليه شأنهم, فيكون في ذلك هلاكه وهلاكهم. بل إن العرب ـ علي قوله ـ كانوا إذا ملكوا, وهم علي تلك الحال, أمة من الأمم ذات العمران.

 القائمة فإنهم يجعلون غاية ملكهم في الانتفاع بأخذ ما في أيدي أهل تلك الأمة, ويتركون ما سوي ذلك من الاحكام, فتنمو المفاسد, ويقع تخريب العمران.
وتبعاً لذلك,
 فإنه إذا كان الأفراد في مجتمعات الماء قد وجدوا أنفسهم في مواجهة أنهار هائجة, وبحيث أدركوا استحالة التحكم فيها وضبطها إلا عبر وجوب اجتماعهم وتعاونهم, وانقيادهم لسلطة مركزية تسوسهم وتدير شأنهم, فإن التجمعات المبعثرة من قاطني الصحراء قد استغنوا, لاعتيادهم علي الشظف وخشونة العيش عن غيرهم,
 وصعب ـ علي قول إبن خلدون ـ انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتوحش القائم بهم. ولأن هذه التجمعات كان يمكن أن تظل علي نفس الحال التي فرضتها عليها الطبيعة, فإن الدين يظهر فيها للانتقال بها إلي حال الاجتماع المدني المجاوز لنمط الاجتماع الطبيعي المتدني الذي تعيش عليه.


إذا كان الدين بما أذهب من الغلظة والأنفة والتحاسد والتنافس قد ساعد عرب ما قبل الإسلام علي بلوغ حال الاجتماع المدني الذي هو الشرط اللازم لبناء الدولة, فإن ما يلفت الانتباه حقا إلي أن ابن خلدون لم يتطرق أبدا إلي أن الإسلام قد وضع قواعد للدولة ونظام الحكم فيها.
 بل إنه ـ وغيره من المؤرخين السابقين ـ لا يكفون عن التصريح بأن العرب قد استفادوا من القواعد التي أقاموا عليها دولتهم في الإسلام من المجتمعات المفتوحة التي عرفت نظام الدولة قبلهم. وفي كلمة واحدة, فإن ذلك يعني أنه إذا كان الدين قد ساعد العرب علي بلوغ حال الاجتماع الذي ما كان لهم أن يبلغوه لو تركوا وشأنهم, فإنه قد ترك لهم أن يبنوا دولتهم بحسب ما يتيحه لهم زمانهم... فهل يستوعب أهل هذا الزمان تلك الحقيقة؟

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 31 / مايو / 2012


الثلاثاء، مايو 29، 2012

إنـقـــــــــــاذ الثـــورة أولاً


مثقفون:

 الحديث عن وعود مقابل انتخاب مرسى لا جدوى منها



رفض عدد من المثقفين فكرة تكوين ائتلاف رئاسى وطنى عقب ظهور نتيجة الانتخابات بالإعادة بين الدكتور محمد مرسى والفريق أحمد شفيق،
 لافتين إلى أن هذه الفكرة لن تجد لها مكانا فى الوقت الحالى،
 داعين إلى إنقاذ الثورة أولاً،
فطالب البعض من جماعة الإخوان رفض الإعادة قبل تطبيق قانون العزل السياسى على الفريق أحمد شفيق،
 معتبرين أن ذلك هو الانتصار الحقيقى للثورة، وآخرون يرون أن الجماعة نفسها تقول وعود ولا تفى بها وبالتالى لا جدوى من الفكرة.

الروائى الدكتور علاء الأسوانى، قال عبر حسابه الشخصى على "تويتر" :
إن الموقف تجاوز التحالف مع الإخوان لأن التزوير متعمد وواضح وسيستمر،
 داعياً الإخوان إلى رفض خوض جولة الإعادة قبل تنفيذ قانون العزل على شفيق،
 لأنه سينجح بالتزوير،
 مؤكداً أن فكرة تكوين ائتلاف ثورى كانت مرهونة بنزاهة الانتخابات وهناك أدلة دامغة على التزوير رفضتها اللجنة العليا.

فيما قال المفكر الدكتور على مبروك،
 أن مسألة التفكير فى مجلس رئاسى وطنى للانحياز لمرسى هى حق المواطنين
 وهى طمأنة عملية، متسائلاً فى نفس الوقت:
 هل القوى السياسية فى مصر تقبل وعود شفوية، خاصة أن الجماعة من قبل قالت وعوداً ولم تصدق فيها؟.
وأضاف مبروك أنه على الشعب المصرى أن يعى جيداً
 أن الثورة قامت ضد طريقة الحكم وليس ضد أشخاص،
 قائلا ً:
"مرسى ليس هو الاختيار المناسب، إلا إذا قام بحل البرلمان وأصبحت مقاعد الإسلاميين لا تتجاوز 30% والرئيس التوافقى كان الحل الأفضل،
 ولكن قلة نظر الطبقة السياسية هى ما فعلت بنا ذلك،
 مؤكداً أن جماعة الإخوان لن تقبل من سيشاركون فى الفريق الرئاسى الوطنى
 إلا بمنطق التابعين وليس الشراكة"
 مشدداً أنه لا يمكن لنا أن نصدق مجرد نوايا تعلن عنها الجماعة ولو نضمن اتفاقا مكتوبا منهم ويلتزمون بتنفيذه يكون ذلك أفضل.

فيما قال الروائى خالد البرى، عبر حسابه الشخصى على تويتر:
 إنه يرفض الاعتراض على الفكرة ومصادرتها قبل النتيجة النهائية،
مؤكداً أن النزول إلى الميدان تأكيدا على الثورة من حق أى مصرى،
 قائلاً:
 "الاعتراض على النتائج لأ.. الاعتراض "السياسى" قبل النتيجة مش بعدها".

فيما أرجع الشاعر الفلسطينى مريد البرغوثى، الخطأ الواقع حالياً
 عندما لم يرفض كل المرشحين الثوريين خوض الانتخابات وبها شفيق
 قائلاً :
"أخطأ مرسى وحمدين وأبو الفتوح وخالد على جميعاً فى قبول الانتخابات وفيها شفيق،
 فرفض شفيق كان العمل الثوري الوحيد قبل الدخول فى اللعبة"

تم النشر في جريدة اليوم السابع بتاريخ 29 مايـــــــــو 2012
كتبت /ســـــارة عبد المحسن



الثلاثاء، مايو 22، 2012

الدكتور علي مبروك مع مجلـــة ديوان العرب



بداية من هو الدكتور علي مبروك؟
باحث وأستاذ للفلسفة بكلية الآداب (جامعة القاهرة)،
 وانخرط الآن في الإعداد لتدشين المعهد الدولي للدراسات القرآنية، الذي سيكون له مقرٌ في إندونيسيا وآخر في الولايات المتحدة.
 وسوف يتمحور عمل المعهد على إستعادة القرآن كساحة للنقاش والحوار والحضور الإنساني اللافت، وذلك بحسب ما كان عليه الحال مع الجيل الأول من المسلمين الذين تلقوه طازجاً من النبي،
 وقبل أن يتحول- مع السلطة السياسية التي إنتصرت في الصراع الذي إحتدم آنذاك- إلى سلطة لإخضاع الجمهور والسيطرة عليه.
وكلي أملٌ في أن ينفتح العرب، وخصوصاً بعد ثورات ربيعهم، على هذا المشروع الطموح، بدل أن يكون بأيدي غيرهم
(سواء من المسلمين غير العرب أو غير المسلمين)
 من الذين يؤمنون بأن القرآن يملك ما يقدمه للإنسانية بأسرها إذا أمكن تحريره من تصوره كسلطة إخضاع،
 وتحويله إلى ساحة للتواصل والحضور الخلاَّق للبشر.
لي عدة مؤلفات منها:
 "النبوة...من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ"،
 و"عن الإمامة والسياسة، والخطاب التاريخي في علم العقائد"،
 و"لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا"،
و"ما وراء تأسيس الأصول...مساهمة في نزع أقنعة التقديس"،
و"الخطاب السياسي الأشعري...نحو قراءة مغايرة"،
 و"السلطة والمقدس...جدل السياسي والثقافي في الإسلام"،
 وأخيراً "ثورات العرب...خطاب التأسيس"،
وذلك فضلاً عن عشرات الدراسات والمقالات؛ منها مقال منتظم في جريدة الأهرام المصرية؛ أسعى فيه إلى نقل مستوى النقاش حول المفاهيم التي تتداولها النخبة والجمهور من بؤس "الإيديولوجي" إلى رحابة "المعرفي".

باعتباركم من الباحثين في المجال الفلسفي ,مارايكم في المشاريع الفلسفية المطروحة (مشروع الجابري رحمه الله والحنفي وطه عبد الرحمان..؟
واجب الأمانة يقتضي الإقرار بمحدودية معرفتي بمشروع الأستاذ عبدالرحمن
 الذي لا تؤهلني قراءتي لبعض عمله للحديث عن مشروعه الكبير الذي يتميز بالرصانة والجدية.
وأما بخصوص الأستاذين الكبيرين الجابري (رحمه الله)
 وحسن حنفي (أطال الله عمره)،
 فإني قد إتصلت بمشروعيهما منذ وقت مبكر،
وساهمت في الحوار الذي دار بينهما عند أوائل التسعينيات تقريباً، وقيل وقتها أنه بمثابة حوارٍ بين المشرق والمغرب.
 ولعلي أقول أني قد نشأت- وجيلي كله- في رحاب هذين المشروعين، وعلت قاماتنا جميعاً فوق ساحتهما الرحيبة.
ورغم ما ساهما به في الدنو بنا من الإمساك بجوهر الأزمة، وإقتراح السبل للخروج منها، فإن إتصالي النقدي بهما قد أتاح لي إنتاج وعيٍ بما يسكنهما من عوامل القصور والتشوّش التي حالت دون أن تكون إنتاجيتهما كاملة.
فقد بدا لي أن الأستاذ حنفي،
وإبتداءاً من منهجيته الفينومينولوجية، قد أحال ذاته إلى مركز إبتلع كل شيئٍ في جوفه، ولم يعد ثمة من معنى أو دلالة لشيئ (في التراث والحداثة معاً)
 خارج القبضة الصارمة لتلك االذات،
 وضمن هذا السياق فإنه كان لازماً أن يغيب التاريخ ويتوارى السياق، وتتلاشى البنية ويأفل النظام،
ولا يبقى بعد ذلك إلا وجه "الذات" صاحبة السطوة والصولجان،
 تخلع على مسائل التراث والحداثة ما تشاء من المعنى وما تريد من الدلالة، فالأمر كله لها، ولا معقب عليها.
 لقد بدا لي أن كل ما جرى مع حنفي أنه تحول بالإيديولوجيا- التي عانى العرب من بؤسها ولا يزالون- من إيديولوجيا ذات قناعٍ موضوعي أو واقعي
(بحسب أهل اليسار) إلى إيديولوجيا ذات قناعٍ ذاتي أو شعوري.

وبخصوص الأستاذ الجابري (رحمه الله)، فإنه كان متمركزاً حول ذاته أيضاً؛
وإن على نحو أكثر مراوغة وحنكة.
 وأعني من حيث ما بدا وكأنها ذاته المغاربية، وليست الفردية.
 فإذ أشاد الرجل مشروعه على مفعوم "القطيعة المعرفية"
 بين المشرق والمغرب- الذي إستفاده من فضاء الفلسفة الفرنسية المعاصرة-
 فإن هذا المفهوم قد إنخلع معه من ردائه المعرفي، ليتزَّود بحمولة إيديولوجية عاتية.
 فهذه الحمولة الإيديولوجية هي التي جعلت أهل المشرق يصطفون جميعاً
- وعبر ممارسة ضروب من الإكراه والإعتساف-
تحت راية منظومة البيان والعرفان، بغيبيتها ولا علميتها،
وذلك في مقابل أهل المغرب الذين كان لابد من صفهم تحت راية منظومة البرهان، وعبر السكوت والصمت عن كل من لا يمكن إدراجه منهم تحت راية هذه المنظومة بعقلانيتها وعلميتها.
 وهكذا فإن القطيعة المعرفية لم تكن "نتيجة" إنتهى إليها التحليل،
بقدر ما كانت "حكماً مسبقاً" لابد أن ينطق به التحليل.
 كانت الإيديولوجيا التي توجه عمل الأستاذ الجابري هي إيديولوجيا إثبات المركزية والأصالة للمغرب، بعد أن ظل يعاني من التهميش والتغييب لحساب "مشرقٍ" مسكونٍ بالوهم والإدعاء.
 وغنيٌّ عن البيان أن مشروعاً يقوم على إيديولوجيا التمركز حول الذات، سواء كانت ذاتاً فردية (كالحال مع حنفي) أو ذاتاً إقليمية (كالحال مع الجابري)،
لا يمكن أن يكون أساساً لفعل تجاوزٍ حقيقي...ومن هنا لزم النقد!

هل تتفقون مع الذين يقولون بأننا نعاني من أزمة منهج وليس أزمة مشاريع فلسفية؟
لعل ما يمكن قوله بخصوص الأزمة الراهنة أنها أزمة بالمعنى الشامل، ولا يمكن الإكتفاء بإختزالها في أحد مكوناتها أو تجلياتها.
 وإذن فإنها تقع فيما وراء كلٍ من المنهج والمشروع معاً.
إنها أزمة في طريقة التفكير والنظر
 (وبما يؤكد على أنها تقع وراء المنهج والمشروع كنتاجين لطريقة في التفكير والنظر)
 وهي طريقة لا يعرف معها العربي إلا التفكير بأصلٍ أو نموذجٍ جاهز.
 وكمثال على بؤس تلك الطريقة في التفكير والنظر،
 فإنه يمكن القول أن الأصل في إنقسامات النخبة العربية الراهنة، والتي تزايدت حدتها مع ثورات الربيع العربي، إنما يقوم في تحاربها بالنماذج الجاهزة.
 فالبعض يرى المخرج من المأزق العربي القائم في الإسلام كنموذج جاهز فوق التفكير، وآخرون على الضفة الأخرى يرون المخرج في الحداثة كنموذج جاهزٍ، وفوق التفكير والمساءلة أيضاً.
ويقفز الفريقان فوق شروط اللحظة التي يبدو معها أن كلاً من الإسلام والحداثة لابد أن يكونا موضوعين للتفكير والمساءلة والحوار، ليتسنى لهما الإسهام في إخراج الواقع من أزمته، بدل أن يكونا جزءاً من تلك الأزمة بحسب إستدعائهما كنموذجين جاهزين يجري فرضهما قسراً على الواقع.

سدي الكريم بعد الربيع العربي المبارك,ما هو دور الفلسفة اليوم؟
من المعروف عموماً أن الثورات الإنسانية الكبرى قد أنتجتها
- أو أرهصت بها على الأقل- فلسفاتٌ وأفكارٌ كبرى.
 حدث ذلك مع الثورة الفرنسية والروسية والصينية، بل وحتى الثورة الإيرانية التى ربطت نفسها بفكرة كبرى بدأت تتبلور في الفكر الشيعي مع نهايات القرن التاسع عشر؛ وأعني بها فكرة "ولاية الفقيه".
 ولسوء الحظ، فإن الفلسفة عندنا لم تقدم شيئاً من هذا القبيل لثورات الربيع العربي. ولكن ذلك لا يعني أبداً أنه لن يكون لديها ما تقدمه لهذا الربيع.
 بل إني لأجد نفسي مُضطراً للتأكيد - في هذا المقام - على أن إزهار هذا الربيع وإثماره إنما يرتبط بنجاح الفلسفة في صوغ وتقديم "خطاب التأسيس" الذي سيجعل هذا الربيع قادراً على إنجاز وعوده.
فإنه إذا كانت دولة القهر والفساد التي يثور عليها العرب الآن تجد ما يؤسس لوجودها الراسخ في قلب ما يُعرِف بخطاب النهضة العربي؛
 الذي لم يعرف- خضوعاً لمقتضيات الشرط السياسي الذي تبلور داخله-
منذ إبتداء تبلوره مع مطلع القرن التاسع عشر،
 إلا الإنشغال بالبراني (العملي) مع إهمال الجواني (النظري)؛
 وبما يعنيه ذلك من التمركز حول السياسوي (الإجرائي) وتجاهل المعرفي (التأسيسي)؛ وعلى النحو الذي جعل حداثته مجرد قشرة هشة
(تختص بمجرد الإجرائي في السياسة والتقنية)،
 وتطفو على سطح بنية ذهنية تقليدية راكدة.
وهكذا فإنه كان خطاب التغيير كفعلٍ من أفعال "القوة"، وليس "العقل".
 وإذ لم تكن الدولة إلا الآداة المُحققة لفعل "القوة"، فإنه كان محكوماً عليها
- وإبتداءاً من روابطها البنيوية مع هذا الخطاب الإكراهي-
 أن تكون دولة إستبدادٍ وقهر.
وبالطبع فإن لن يكون ممكناً الإنفلات من براثن تلك الدولة القامعة إلا عبر تفكيك الخطاب المؤسس لها بنيوياً، ثم التجاوز- بعد ذلك- إلى تدشين خطابٍ بديل يفتح الباب لدولة الحداثة العقلية والسياسية التي يتطلع إليها العرب.
ولسوف ينقل هذا الخطاب مركز الإشتغال من الإجرائي (في السياسة والتقنية) إلى التأسيسي (في المعرفة والنظر).
وذلك بالطبع ما لا يمكن أن تنجزه إلا الفلسفة التي لابد من التأكيد على أن تكرار النظر إليها، في اللحظة الفارقة التي يمر بها العرب الآن،
 على نفس النحو الذي جرى به النظر إليها مع مطلع القرن التاسع عشر على أنها مجرد "حشوات ضلالية" لن يعني إلا أن يظل العرب يحرثون البحر؛ ويا له من فعل عابث!.

بعد نجاح الثورات العربية في إسقاط الأنظمة الاستبدادية, فهل نحن قادرون على بناء دول ديمقراطية تعددية؟
لعلك توافقني، أولاً، على أن الوقت لم يزل مبكراً للحديث
عن نجاح الثورات العربية.
 نعم لقد نجحت هذه الثورات في إسقاط بعض المستبدين،
ولكن التحدي الحقيقي يتعلق بالخطاب الذي ينتج هؤلاء المستبدين.
 وبالطبع فإن القدرة على بناء الدولة الديمقراطية التعددية إنما يرتبط بالنجاح،
 لا في تفكيك وفضح خطاب الإستبداد والآحادية،
 بل وفي صوغ الخطاب الذي يجعل الحضور الراسخ لدولة الديمقراطية والتعددية المأمولة أمراً ممكناً.
فالأمر فيما يتعلق بتلك الدولة المأمولة يتجاوز مجرد إعلان نوايانا في بنائها،
إلى الشروع الجدي في إمتلاك الشروط (المعرفية والثقافية) التي تجعل إنبثاق ورسوخ تلك الدولة ممكناً.
فقد إنشغل العرب منذ أواسط القرن التاسع عشر، وإلى الآن، بمجرد إستيفاء الجوانب الإجرائية البرانية والشكلية
 (من برلمانات ودساتير وتشكيلات حزبية وصناديق إنتخابات وغيرها)،
 وكان الحصاد في مرارة العلقم، بحسب ما يرى الجميع.
ليس مطلوباً منهم الآن أن يهملوا هذه الجوانب البرانية بالطبع،
 بل إن عليهم أن يلتفتوا إلى الشروط الجوانية
 (المتعلقة بالأبنية الذهنية والعقلية والشعورية، وحتى اللاشعورية)
 التي ستظل الجوانب الإجرائية البرانية، من دون إستيفائها، مجرد إكسسوارات وزخارف فارغة.

في الأخير سيدي الكريم هل دخلنا في طور حضاري جديد؟
لعل كل ما يمكن قوله، في هذا السياق،
 أننا ندخل إلى مرحلة نسعى فيها إلى إمتلاك الشروط التي يمكن أن ينفتح معها الباب لكي نتصالح مع أنفسنا،
 ومع العالم بالتالي،
 وعلى النحو الذي يمكن أن تدخل فيه الإنسانية إلى طور حضاري جديد يتشارك فيه الجميع من موقع الأنداد المتفاعلين،
وليس من موقع الإنقسام بين تابعين ومتبوعين.


تم النشر في ديوان العرب بتاريخ 22 مايـــــــــــو 2012
بقلم /نورالدين علوش


الخميس، مايو 17، 2012

القرآن بين النص والكتاب



علي تعدد وتنوع تسميات القرآن لنفسه‏(‏
كالذكر والبيان والتنزيل والفرقان والكتاب والهدي والبلاغ‏),‏
 فإنه لم يطلق علي نفسه تسمية النص أبدا‏.‏ً
 ولعل موازنة بين تلك التسميات المتنوعة
 تكشف عن ان القرآن قد أراد لنفسه أن يكون كتابا, ولا نصا.
إذ فيما لم ترد ـ مطلقا ـ كلمة نص في أي التنزيل للدلالة علي القرآن أو علي غيره
  (من الكتب الأسبق), فإن كلمة الكتاب قد وردت في تلك الآيات لما يقترب ـ أو يكاد ـ من الثلاثمائة مرة تقريبا, للإشارة الي القرآن نفسه وإلي غيره من صور الوحي التي تنزلت علي الأنبياء السابقين, أو للإشارة إلي أصحاب الأديان السابقة من أهل الكتاب, وللدلالة أيضا علي الكتاب الحاوي للمعرفة الإلهية الأكمل والأشمل, أو اللوح المحفوظ.

وهنا يلزم التنويه بأن تقديم القرآن لنفسه ككتاب, وليس كنص, يرتبط بحقيقة أن النص ـ بحسب تعريفه في العربية ـ هو الواضح البين الذي لا يحتاج إلي تفسير, والذي لا يمكن بالتالي أن يكون موضوعا لقراءة, بل لمجرد الترديد والاستظهار, وذلك علي العكس تماما من الكتاب الذي لا يمكن بحسب طبيعته إلا أن يكون موضوعا للقراءة, وليس التكرار.
 وبالطبع فإن صعوبة أن يكون القرآن نصا تتأتي من استحالة تصوره من قبيل القرآن الظاهر الذي لا يحتاج إلي قراءة وتفسير.
 ففضلا عما ينطوي عليه ذلك من تصور القرآن نصا مغلقا وفي غاية الفقر الدلالي, فإنه ينطوي مع ماأورد الأصوليون أنفسهم من أن النصوص ـ في القرآن ـ عزيزة نادرة.
وهنا ينبثق السؤال:
 كيف تكون النصوص عزيزة, وإلي حد الندرة, في القرأن ـ وإلي حد مايقال من أن جزءا من آية واحدة فقط من آياته هي التي تحتمل, لوضوحها وظهور دلالتها, أن تكون نصا ـ بينما يصار الي أن القرآن بأسره يعد نصا ؟.

والغريب حقاً أن يكون القدماء أيضا لم يشيروا إلي القرآن والحديث باسم النصوص, كما نفعل في اللغة المعاصرة, بل كانوا في العادة يستخدمون دوالا أخرى كالكتاب والتنزيل والقرآن للدلالة علي النص القرآني,
وكانوا يستخدمون دوالا مثل الحديث أو الآثار أو السنة للاشارة الي نصوص الحديث, وكانوا يشيرون إليهما معا باسم الوحي أو النقل.
وكانوا حين يشيرون الي النص, فإنما كانوا يعنون به جزءا ضئيلا من الوحي, أو بعبارة أخري ما لا يحتمل أدني قدر من تعدد المعني بحكم بنائه اللغوي. ولعل يمكن, هكذا, ترجيح القول بأن التكريس الكامل للتعاطي مع القرآن, كنص, قد أعلن عن نفسه, بلا مواربة, مع إطلالة عصور الإنحطاط والتقليد المتأخرة التي توقفت فيها عملية القراءة وانتاج الجديد, ولم يعد ثمة إلا محض الاستظهار والترديد.

ولعله يتفق مع تقديم القرآن لنفسه, ككتاب للفهم, وليس كنص للاستظهار والحفظ, حملته القاسية علي أصحاب الأديان السابقة لأنهم جعلوا كتبهم موضوعا لمجرد الحفظ والاستظهار فحسب.
 ففي تفسيره لآية:
 مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا
 الجمعة 5 ـ
أورد ابن كثير مايلي:
 يقول تعالي ذاما لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها, ثم لم يعملوا مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا, أي كمثل الحمار إذا حمل كتباً لا يدري مافيها, فهو يحمل حملاً حسياً, ولا يدري ماعليه, وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه, حملوه لفظاً, ولم يتفهموه ولا عملوا بمقتضاه, بل أولوه وحرفوه وبدلوه, فهم أسوأ حالاً من الحمير, لأن الحمار لا فهم له, وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها.

والحق أن كتاباً ينعي علي المؤمنين بالكتب السابقة حملهم الحسي لهذه الكتب, أي حمل الحفظ والترديد فقط, لا يمكن أن يقبل من المؤمنين به أن يكتفوا بمجرد الحمل الحسي له.
 بل إن إدانته للحمل الحسي إنما تحيل الي توجيهه إلي نوع آخر من الحمل, هو الحمل المعنوي الذي يستحيل معه القرآن من محمول علي الظهر ـ كظهر علي الحمار ـ الي محمول في العقل, وعلي النحو الذي يصبح معه ساحة لانتاج المعني.

ولعل دلالة الحضور الكثيف للفظة الكتاب في القرآن يرتبط بالقصد الي نقل المخاطبين( وهم عرب الجاهلية) الي المرحلة الكتابية, وبما يعنيه ذلك ـ علي نحو جلي وصريح ـ من أن القرآن ينطوي, في جوهره, علي السعي الي نقل عرب الجاهلية ـ الذين لم يعرفوا إلا نمطا من الثقافة الشفاهية بما يصاحبها من آليات تفكير لا تسمح بأي تطور ـ  إلي وضع حضاري أرقي.
 إذ الحق أن مايرتبط بالكتابية من آليات تفكير وطرائق في انتاج المعرفة تعتمد علي مجرد الحفظ والنقل.

وبالطبع فإنه إذا كانت آليات الحفظ والنقل الملازمة للشفاهية لاتسمح إلا بنوع من التقليد والاتباعية التي إنتقدها القرآن بشدة, إبتداء من إعاقتها لقدرة البشر علي تقبل هدي السماء, فإن آليات التفكر والتعقل التي تلازم الكتابية تنطوي علي فتح الباب امام ثقافة الكشف والابداع, وعلي النحو الذي يسمح بنقل الواقع الي حالة أكثر أرقي إنما يتفق مع التطورات التي كانت تجري في المجتمع المكي الذي كان يعيش سيرورة تحول الي مجتمع تجاري في حاجة الي التعاقدات المكتوبة.
وسوء الحظ فإن مايغلب علي الوعي الراهن للمسلمين من تقليد وإتباعية, وإبتعاد عن التعقل والتدبر, يكشف عن نوع من الارتداد الي مايكاد أن يكون الاسلام قد تنزل لتجاوزه.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 17 /مايو/ 2012