الخميس، نوفمبر 29، 2012

رشــيد رضــا ومـا يكـتـبه تأسيـسـيو الدستــور



إذا كان المشهد المصري الراهن يطفح بالعديد من مظاهر التردي والبؤس‏,‏
 فإن ما يجوز اعتباره الأكثر بؤسا من بينها يتمثل في ظاهرة الفقر المعرفي
 الذي ترزح تحت وطأته النخبة المتغلبة في مصر.
 وليس من شك في أن هذا الفقر هو ما يؤسس لما تعيشه مصر من التردي والنكوص; الذي تقطع به حقيقة أن ما كان يكتبه المصريون ويفكرون فيه قبل مائة عام,
هو الأرقي, بما لا يقاس, من كثير مما يكتبونه ويفكرون فيه الآن.


لعل مثالاً علي هذا النكوص المزري يمكن أن تقدمه قراءة مقارنة بين ما كتبه
الأستاذ رشيد رضا 

حول مسألة الحكم المقيد (أو الديمقراطي) والشوري,
 وبين ما كتبه تأسيسيو الدستور,
حول المسألة نفسها, بعد ما يربو علي المائة عام تقريبا.
إذ فيما كان السيد رضا حريصا - فيما يخص تلك المسألة - علي بيان الحقيقة,
 ولو كانت صادمة لأوهام الجمهور,
 فإن متغلبي تأسيسية الدستور قد انحازوا إلي أوهامهم, وليس أوهام الجمهور فحسب, علي حساب الحقيقة.
فإذ انشغل السيد رضا بنقد الاستبداد,
 وإلي حد تأكيد إن القوم الذين يرضون أن يستبد بهم حاكم يفعل فيهم ما يشاء ويحكم بما يريد ينبغي أن يعدوا من الدواب الراعية, والأنعام السائمة,
 فإنه قد مضي يقرر ـ في صراحة وحسم ـ أن أعظم فائدة استفادها أهل الشرق من الأوروبيين هي معرفة ما يجب أن تكون عليه الحكومة واصطباغ نفوسهم بها
 حتي اندفعوا إلي استبدال الحكم المقيد(أو الديمقراطي) بالحكم المطلق الموكول إلي إرادة الأفراد,
 فمنهم من نال أمله علي وجه الكمال كأهل اليابان, ومنهم من بدأ بذلك كإيران, ومنهم من يجاهد في سبيل ذلك بالقلم واللسان كمصر وتركيا.

ورغم تصريحه بأن الشرق قد استفاد هذه الفائدة وعرف قيمتها(من الأوروبيين),
فإن ذلك لم يمنعه من تقديرها
 وإلي حد اعتباره لها إسهاماً في الارتقاء(بأهل الشرق) من حضن البهيمية,
 إلي أفق الإنسانية;
 وبما يعنيه ذلك من أن موقفه السياسي والإيديولوجي من الأوروبيين لم يشوش علي وعيه بحقيقة أنهم هم أصحاب الفضل في تثبيت نظام الحكم المقيد.

وإذ يبدو الرجل صريحا في رد الفضل في تثبيت نظام الحكم المقيد إلي الأوروبيين, فإنه قد راح يحتج علي من يردونه إلي غير هذا الأصل,
 قائلا:
 فلا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم( المقيد/الديمقراطي) أصل من أصول ديننا, وأننا قد استفدناه من الكتاب المبين, ومن سيرة الخلفاء الراشدين, لا من معاشرة الأوروبيين والوقوف علي حال الغربيين.

 فإنه لولا الإعتبار بحال هؤلاء الناس (الأوروبيين) لما فكرت أنت وأمثالك
بأن هذا من الإسلام,
ولكان أسبق الناس في الدعوة إلي إقامة هذا الركن علماء الدين في الأستانة وفي مصر ومراكش,
 وهم الذين لا يزال أكثرهم يؤيد حكومات الأفراد الاستبدادية ويعد من أكبر أعوانها, ولما كان أكثر طلاب حكم الشوري المقيد هم الذين عرفوا أوروبا والأوروبيين.
ألم تر إلي بلاد مراكش الجاهلة بحال الأوروبيين كيف تتخبط في ظلمات استبدادها ولا تسمع من أحد كلمة شوري, مع أن أهلها من أكثر الناس تلاوة لسورة الشوري ولغيرها من السور التي شرع فيها( الله) الأمر بالمشاورة, وفوض حكم السياسة إلي جماعة أولي الأمر والرأي.
وهكذا لا يتورع الرجل
- وهو من لا يمكن إنكار تأثيره المباشر علي الأستاذ حسن البنا نفسه -
عن القطع باستحالة أن تكون الشوري أصلا للحكم الديمقراطي المقيد.

وإذا كان أكثر ما يلفت النظر في كل ما مضي إليه الرجل هو وعيه الحاسم بما يئول إليه الاستبداد من التنزل بالبشر إلي حال البهيمية,
 وإطلاعه علي ما يجري في العالم من السعي الدءوب لمحاصرة
هذا الاستبداد والقضاء عليه,
وذلك فضلا عن إقراره باستفادة الشرق لنظام الحكم المقيد من الأوروبيين,
وليس من الإسلام كما يجري الإيهام,
فإنه يمكن القول بأن الرجل يلتزم خطاً في التفكير,
 يكاد معه المرء أن يتصور أنه لو قرأ ما يسعي مؤدلجو الإسلام الحاليين إلي تضمينه في دستور ما بعد الثورة في مصر, لوجه إليهم الاتهام بالتدليس والتضليل, علي حساب الحقيقة.
ولسوف تكون حجته في هذا الاتهام أنهم يقلبون الحقائق عن قصد أو عن جهل; وفي الحالين فإنهم يكونون غير مؤتمنين علي مصائر بلد في حجم مصر.

 ولعل المرء يدرك مصداقية ما يوجهه السيد رضا إلي هؤلاء من الاتهام بالتدليس, حين يضع ما أوردوه في مسودة الدستور من أن النظام الديمقراطي يقوم علي مبدأ الشوري;
 وبما تعنيه هذه الصياغة من أن الشوري هي أساس النظام الديمقراطي وأصله
(وذلك باعتبار أن ما يقوم عليه الشيء يكون هو أساسه وأصله),
 في مقابل احتجاجات السيد رشيد رضا المفحمة- وغير القابلة للرد -
علي استحالة أن تكون الشوري هي أصل نظام الحكم المقيد (الديمقراطي) وأساسه; وهي الاحتجاجات التي تستمد قوتها من ارتكانها إلي منطق الواقع القائم
الذي يتعذر دحضه, 
وليس إلي مجرد السرد الوعظي المتخيل.

فعلي مدي التاريخ, لم يتوقف المسلمون- علي قول رضا - عن تلاوة سورة الشوري وغيرها من الآيات التي شرع فيها( الله) الأمر بالمشاورة, وظلوا - مع ذلك - يتخبطون في ظلمات استبدادهم;
وبما يعنيه ذلك من أنها(أي الشوري) لم تكن ناقضة للاستبداد أو هادمة له.

 وفقط فإن معرفتهم بأوروبا والأوروبيين, ووقوفهم علي حال الغربيين هي التي جعلتهم يتعرفون ويطلبون نظام الحكم المقيد,
 بوصفه السبيل للخلاص من الاستبداد الجاثم.
إن ذلك يعني أن الرجل لا يحمل وهم قراءة الديمقراطية(كفرع) بالشوري( كأصل), بمثل ما يفعل تأسيسيو الدستور الحاليين, بل يلح علي ضرورة قراءة الشوري بنظام الحكم( الديمقراطي) المقيد.
ولعله يلزم التأكيد أن التباين بين هذين الضربين من الفهم,
ليس من قبيل ما يمكن التهوين من شأنه,
بل إنه يؤشر علي مدي جدية التعامل مع معضلة الاستبداد.
 ففي حين أن الفهم المستقر للشوري- في أدبيات الفقه السياسي- لا يتجاوز بها حدود تولية الحاكم ومناصحته فقط,
 فإن هذا الفهم لا يقدم ما يمكن به تجاوز معضلة الاستبداد, بل لعله يئول إلي تكريسه. فإن وقوف مبدأ الشوري عند مجرد التولية والمناصحة يجعله أساسا لعلاقة مع الحاكم تغيب عنها, وعلي نحو كامل, آليات مراقبته ومساءلته ومحاسبته; وبما يعنيه ذلك من ترسيخ استبداده.
 وإذ يحيل ذلك إلي محدودية مفهوم الشوري, وعدم فاعليته في مواجهة الاستبداد, وذلك في مقابل رحابة المبدأ الديمقراطي, وفاعليته
( وأعني من حيث اتساعه لآليات الرقابة والمساءلة والمحاسبة...إلخ),
 فإنه يعني أن قراءة رضا للشوري( كفرع) بالديمقراطية( كأصل)
 تبقي هي الأرقي والأكثر معرفية من تلك القراءة الطافحة بالإيديولوجيا التي يقدمها تأسيسيو الدستور الآن .

جريدة الأهرام بتاريخ 29 /نوفمبر/2010


الخميس، نوفمبر 15، 2012

معركة الشريعة بين الأحكام والمبادئ



تدير جماعات الإسلام السياسي معركتها بخصوص
ما ورد في الوثيقة الأولية للدستور من النص
 علي أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع, علي ضرورة استبدال لفظ أحكام بلفظة مبادئ; أو ــ علي الأقل ــ تعرية الشريعة من النص علي المبادئ والأحكام.
 وهنا فإنه يلزم الوقوف علي ما تحتج به هذه الجماعات من وجوب هذا التحويل لدلالة الشريعة من المبادئ إلي الأحكام, ثم تفكيك هذه الحجج علي نحو يكشف عما يسكنها من الخلل والعوار.



يستند التبرير السلفي لوجوب حذف لفظة مبادئ من مادة الشريعة في الدستور إلي أن استخدام اللفظة يقصر الشريعة ــ حسب قول أحدهم ــ علي القواعد العامة من الحق والخير والعدل, التي يتوافق فيها الإسلام مع البوذية;
 وبما يعنيه ذلك من أن الرجل لا يريد بالشريعة ما يربط الإسلام بغيره من أديان أهل الأرض التي تتوافق جميعا علي الأمور الكلية المشتركة, ويريد بها ما يفصله عن غيره من الأديان, من الأمور والأحكام التفصيلية الجزئية.

 وللمفارقة, فإن هذا الفهم ينتهك ما ينزع إليه القرآن الكريم من نسبة فعل التشريع
(ومنه الشريعة) إلي الله وحده,
مع صرف دلالته - بحسب المفسرين الثقاة ــ إلي الأصول الكلية المتوافق عليها بين الأنبياء وأهل الأديان جميعا; وهو ما جعل الإمام الشاطبي يؤكد, في الموافقات في أصول الشريعة, أن هذه الأصول مراعاة في كل ملة.
وإذ يمضي مطلب جعل الشريعة أداة فصل بين الناس في اتجاه معاكس للقرآن, فإنه لا يبقي إلا أن يكون تعبيرا عن بناء عقلي ونفسي لا يري في العالم إلا ساحة للانقسام والتمايز.

ومن حسن الحظ, أنه إذا كان القرآن قد جعل ما يشرعه الله مخصوصاً بما يجمع بين بني البشر من الكليات,
 فإنه قد جعل ما يفاصل بينهم من الأحكام التفصيلية الخاصة من فعل الفقه الذي اختصه بالإنسان.
 ولعل ذلك ما يكشف عنه التداول القرآني للجذرين شرع, وفقه; وأعني من حيث يجعل فعل تشريع الدين مختصا بالله وحده
(في قوله: شرع لكم من الدين- الشوري,13),
وذلك فيما يجعل فعل التفقه في الدين مردودا إلي البشر
(في قوله: منهم طائفة ليتفقهوا في الدين- التوبة,122).

والحق أن داعية السلفية لا يرفض لفظة مبادئ في مادة الشريعة,
لتعلقها ــ فحسب ــ بالكليات المشتركة التي تصل الإسلام بغيره من الأديان, بل لكون هذه المبادئ تؤشر فقط علي ما هو قطعي الثبوت والدلالة;
 وبما يعنيه ذلك ــ وعلي قول أحدهم ــ من أن ما هو ظني الثبوت والدلالة
ــ والذي يمثل علي قوله القدر الأعظم مما يقول إنها الشريعة ــ
سوف يوضع خارجها.
 ولهذا فإنه يريد تعرية الشريعة عن لفظة المبادئ,
 ليتسني له إلحاق هذا الظني بها.

وحين يدرك المرء أن الظني هو ما يتميز بانفتاح دلالته وحركيتها,
وعدم قطعيتها,
 فإنه سيتحقق من أن الله قد أراد له أن يكون ظنياً ليصبح موضوعا لفعل التفقه في الدين الذي ينسبه القرآن الكريم إلي البشر;
 بحيث يكون متروكا لهم تحديد دلالته, بحسب ما يناسب طبيعة وعيهم وواقعهم, وتفعيلا لمبدأ رفع الحرج.
وبالطبع فإن الناتج عن فعل تفقه البشر( في هذا الظني الدلالة)
لابد أن يكون عاكساً لواقع تاريخهم;
وعلى النحو الذي يمكن معه القول إن السعي الملحاح من جانب دعاة السلفية إلي نقله من مجال الفقه( ذي الطابع الإنساني)
إلي الشريعة( ذات الأصل الإلهي),
 إنما يقدم الدليل العملي الواضح علي ممارستهم الأثيرة في تحويل التاريخ إلي دين. 

وليس من شك في أن فرض هذا التاريخ السابق علي الناس,
 كدين واجب الاتباع,
 سوف يضع الناس في الحرج الذي ينطق القرآن الكريم صريحاً بأن الله لا يريده أبداً للبشر,
 وذلك في قوله:
 وما جعل عليكم في الدين من حرج.
 ويرتبط هذا الوضع للناس في الحرج بحقيقة أن ما يكون به الصلاح في وقت بعينه, قد لا يستجلب الصلاح نفسه في غير هذا الوقت; وبما يعنيه ذلك من أن صلاح الشئ مرتبط بوقته, وليس أمرا مطلقا أبدا.
ولأن أحداً قد يحتج بأن الفقه هو وضع إلهي,
 وبالتالي فإن صلاحيته مطلقة خارج الوقت; فإنه يلزم التأكيد ــ من جهة ــ
إلا أن الفقه, بما هو نتاج فعل التفقه في الدين, مردود حسب القرآن نفسه إلي الناس, وليس إلي الله, وذلك فضلا عما بدا من استحالة تفسير تعدد الوحي, وهو فعل الله حقا, لا مجازا, إلا عبر قاعدة ربط الصلاح بالوقت.
فقد بدا أن تفسير التعدد الحاصل في فعل الوحي هو مما يستحيل تماما إلا عبر ربط الصلاح بالوقت;
 وإلا فإنه ستتم نسبة النقص إلي الله( جل شأنه),
 فإنه لو قيل:
 إن الوحي الثاني أصلح من الأول(من دون ربط هذا الصلاح بوقته),
لكان( هذا الوحي) الأول ناقص الصلاح; فكيف يأمر الله به( وهو الناقص)؟,
 قلنا ــ والقول للرازي في مفاتيح الغيب ــ
إن( الوحي) الأول أصلح من( الوحي) الثاني بالنسبة إلي الوقت الأول,
والثاني بالعكس منه.

 وهكذا لا يتورع من هو في وزن الرازي عن التعامل مع الوحي( وهو فعل إلهي), بحسب قاعدة ربط الصلاح بالوقت, لكيلا يصار إلي نسبة النقص إلي الله ..
 فهل يجوز ربط الصلاح بالوقت في حال الوحي( وهو فعل الله لا محالة), بينما لا يكون ذلك جائزا في حال الفقه( وهو فعل الناس بامتياز)؟.

إن ذلك يعني أنه, وعلي فرض أن الفقه هو وضع إلهي, فإن ذلك لا ينبغي ألا يحول دون ربط صلاحه بالوقت, قياساً علي ربط صلاح الوحي ــ وهو فعل الله الصريح ــ بالوقت,
 وإذ يحيل ذلك إلي اعتبار الله(جل شأنه) للسياق الإنساني المتغير, وذلك فيما يصر هؤلاء- عن عمد أو جهل - علي إهدار هذا السياق بالكلية,
 فإنه لا يمكن قبول ما يزعمون من أن هذا الإهدار هو من أجل إعلاء كلمة الدين; وذلك إلا أن يكون دين سلاطين الاستبداد, وليس أبدا دين الله الذي هو أكثر رحمة بالعباد!.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 15/نوفمبر/2012


الخميس، نوفمبر 01، 2012

عن الدستور والشريعة والعقل والجمهور



تتصاعد في الفضاء المصري الراهن بشائر حرب طاحنة‏,‏
 تدور رحاها بين الفرقاء المتناحرين حول مادة الشريعة في الدستور
 الذي تجري كتابته الآن,
 في ظل استقطابات وتجاذبات يسعي البعض ضمنها لحسم الأمر لمصلحته عبر التهديد باستدعاء الجمهور المتحمس, 
إلي ساحات الصدام والمواجهة.

وإذا كان التهديد بالجمهور يصدر- بالأساس- عن جماعات الإسلام السياسي, فإن ذلك لا يرتبط, فحسب, بقدرتها علي تحشيد الجمهور الملتزم التابع, بقدر ما يرتبط
- فضلا عن ذلك -
بتعارض ما تطرحه من آراء مع منطق العقل;
وعلي النحو الذي يبدو معه أنها لا تجد ما تجابه به منطق العقل,
إلا حماس الجمهور.

 وهكذا فإن الجمهور الذي يجري التهديد به
 هو أقرب ما يكون إلي قوة القمع منه إلي شاهد العدل,
 لأنه يحضر إلي الساحة, لا كأفراد يمتلكون إرادة حرة, ويقدرون علي التفكير المستقل,
فإن هذا الجمهور لا يصدر في اختياراته عن العقل, بل يصدر فيها عن انفعالاته
- أو حتي غرائزه- الأولية;
حتي وإن تعلق الأمر بما لا يمكن أن يكون موضوعا للانفعال والغريزة,
 كالشريعة.

 ولسوء الحظ,
 فإنه إذا كانت جماعات الإسلام السياسي لا تجد ما تحسم به معركة الشريعة إلا هذا الجمهور
( الذي يبدو أن أحدا لا يريد له أن يغادر موقع الضحية),
فإن ذلك يكشف عن مفارقة التوافق بين نظام مبارك وبين هذه الجماعات الوارثة له; وأعني من حيث لا يريدان لهذا الجمهور أن يغادر موقع من يمارس الاختيار
(علي فرض أنه اختيار) بمنطق الغريزة والانفعال.

ولكن فيما كان نظام مبارك يخاطب غرائز وانفعالات جمهوره بالفن الردئ وكرة القدم بالذات, فإن ورثته من جماعات الإسلام السياسي يخاطبون غرائز جمهورهم وانفعالاته بالدين.
وبالطبع فإن الجمهور مستعد للتجاوب معهم, ولو حتي علي سبيل التكفير عما يراه خطايا انغماسه في رذائله السابقة, من دون أن يدري أن إرتقاءه الحقيقي سوف يتحقق, فقط, بتوقفه عن التفكير بالغريزة والانفعال, وليس بمجرد جعل الدين موضوعا لهذا النوع من التفكير الأولي.
 والمؤسف أنه إذا كان لا يقدر بذلك علي الارتقاء بنفسه, فإنه يتنزل بالدين إلي حيث يجعل منه ساحة للانحيازات والتعصبات الذميمة.

فإنه إذا كان البعض- ولأسباب سياسية ظرفية خالصة -
يتعامل مع ما يقول إنها إرادة الجمهور علي أنها البقرة المقدسة التي ينبغي السجود لها, فإنه يلزم التنويه بأن هذه الإرادة لا يمكن أن تكون موضوعا للقبول أبدا.
 بل إنها كثيرا ما تكون موضوعا للإدانة والوصم.
 فليس من شك في أن منتجي الفن الغرائزي الهابط كانوا- وسيظلون-
 يتخفون وراء ما يقولون إنها إرادة الجمهور لتبرير ما يقدمون من نتاجات رديئة. 

ليست إرادة الجمهور مرادفا للحق والصواب,
 إذن, بل إنها قد تكون غطاء للرداءة والانحطاط.
وبالطبع فإنه يستحيل الاحتجاج بأن تعلق إرادة الجمهور بالدين
(بعد أن كانت تتعلق- قبلا- بالفن الهابط),
 قد ارتقي وتسامي بها; إذ الحق أنها هي التي تحيل الدين- بل وأحالته بالفعل- إلي ساحة لانكشاف كل ما يرتبط بالغريزة والانفعال من التعصب والنزوع لتحقيق السيادة والهيمنة وسحق الآخرين.
 ومن هنا غرابة تخفي جماعات الإسلام السياسي وراء هذه الإرادة
(التي كانت موضوعا لإدانتهم, لا شك, حين تعلقت بالفن المنحط),
 لتضمين الدستور المقترح كل ما يتدني به إلي حيث لا يمكن أن يكون الوثيقة المحددة لملامح المسار المصري في القرن الحادي والعشرين.

ولابد, هنا, من تأكيد أن هذا التدني لا يرتبط أبدا بالشريعة, بل بفهم القطاع الصاخب, علي الأقل, من هذه الجماعات للشريعة; وأعني القوي السلفية بالذات.
 ولسوء الحظ,
فإن التطابق يبدو كاملا بين كل من
نوعي الجمهور والشريعة اللذين تستدعيهما هذه القوي الصاخبة.

 فإنه إذا كان قد بدا أن الجمهور الذي تهدد هذه القوي باستدعائه,
هو الجمهور كقوة تعمل خارج منطق العقل,
فإنها لا تكتفي بإستدعاء مفهوم للشريعة يتعارض مع منطق العقل, بل يعاكس
- وهو الأخطر- المجال الدلالي للمفهوم في القرآن;
وبما يومئ به ذلك من أن الخروج علي مقتضي العقل يؤول إلي الانحراف عن مقصد القرآن. وإذا كان خروجهم بالمفهوم عن مقتضي العقل يتأتي من تصورهم له كبناء مكتمل ومغلق; وبما يخرج به منطق العقل الذي يعادي الأبنية المغلقة علي العموم, فإن إخراجه عن مقصد القرآن يبين جليا في مقصد السلفيين تحويل دلالته من المبادئ الكلية إلي الأحكام التفصيلية الجزئية.

 والحق أن الصراع الراهن, في مصر, هو في جوهره
 صراع حول هذا التحويل الدلالي, وليس أبداً حول وجود الشريعة, أو عدمه, في الدستور.
 فإنه ليس في مصر من يصارع من أجل عدم تضمين الشريعة في الدستور, بل هي المواجهة مع التحويل الدلالي لها من المبدأ الكلي إلي الحكم الجزئي;
 وهو التحويل الذي تريد القوي السلفية فرضه علي الكافة,
رغم ما يبدو من تعارضه الصريح مع دلالة القرآن.

فقد مضي الفخر الرازي في مفاتيح الغيب إلي أن المقصود
من الآية: (شرع لكم من الدين),
 ديناً تطابقت الأنبياء علي صحته,
وأقول يجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئاً مغايرا للتكاليف والأحكام,
 وذلك لأنها مختلفة متفاوتة;
وبما يعنيه ذلك من أن دلالة الجذر شرع (ومنه الشريعة) تنصرف إلي المبادئ الكلية المشتركة التي توافق عليها جميع الأنبياء.
 وحتي إذا جاز إمكان التمييز- والقول للرازي- بين قسمين من الشرائع بحسب هذه الآية;
منها ما يمتنع دخول النسخ عليه والتغيير فيه,
 بل يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان, كالقول بحسن الصدق والعدل والإحسان, والقول بقبح الظلم والإيذاء,
 ومنها ما يتغير ويختلف مما اقتضت المصلحة وأوجبت الحكمة وضعه في الأزمنة (المختلفة) علي الأمم, بحسب قول القرطبي,
فإن الرازي يقطع بأن الآية دلت علي أن سعي الشرع(أو القرآن)
في تقرير النوع الأول
 (المتعلق بالمبادئ الكلية)
أقوي من سعيه في تقرير النوع الثاني
(المتعلق بالأحكام الجزئية).

إن ذلك يعني أن القرآن- علي قول الرازي - يصرف دلالة الشريعة إلي القواعد العامة كالصدق والعدل والإحسان, التي يتوافق فيها الإسلام مع غيره, وهو ما بدا أن داعية السلف يرفضه علي نحو كامل.

وإذ يحيل ذلك إلي أن المعني الذي يقول به داعية السلف للشريعة,
لا يمكن رده إلي القرآن, فإنه لا يبقي إلا أن يكون الأصل فيه هو التاريخ.
 وإذن فإنه الإبدال السلفي للدلالة التي يصنعها التاريخ, بتلك التي يتداولها القرآن; وبما يؤول إلي تأكيد الفرضية القاضية بأن الوعي السلفي لا يفعل إلا أن يجعل من التاريخ دينا, أو أنه يتعبد تاريخا يظنه ديناً.
والمهم أن ذلك يعني أن السلفي يحارب معركته حول مفهوم للشريعة يتعارض مع دلالة القرآن والعقل معا, وبجمهور وضعته ظروفه في موضع الخارج عن مقتضي العقل أيضا; 
وبما يعنيه ذلك من أنها معركة اللاعقل, بل وحتي اللاقرآن.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 1/ نوفمبر /2012