الخميس، نوفمبر 15، 2012

معركة الشريعة بين الأحكام والمبادئ



تدير جماعات الإسلام السياسي معركتها بخصوص
ما ورد في الوثيقة الأولية للدستور من النص
 علي أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع, علي ضرورة استبدال لفظ أحكام بلفظة مبادئ; أو ــ علي الأقل ــ تعرية الشريعة من النص علي المبادئ والأحكام.
 وهنا فإنه يلزم الوقوف علي ما تحتج به هذه الجماعات من وجوب هذا التحويل لدلالة الشريعة من المبادئ إلي الأحكام, ثم تفكيك هذه الحجج علي نحو يكشف عما يسكنها من الخلل والعوار.



يستند التبرير السلفي لوجوب حذف لفظة مبادئ من مادة الشريعة في الدستور إلي أن استخدام اللفظة يقصر الشريعة ــ حسب قول أحدهم ــ علي القواعد العامة من الحق والخير والعدل, التي يتوافق فيها الإسلام مع البوذية;
 وبما يعنيه ذلك من أن الرجل لا يريد بالشريعة ما يربط الإسلام بغيره من أديان أهل الأرض التي تتوافق جميعا علي الأمور الكلية المشتركة, ويريد بها ما يفصله عن غيره من الأديان, من الأمور والأحكام التفصيلية الجزئية.

 وللمفارقة, فإن هذا الفهم ينتهك ما ينزع إليه القرآن الكريم من نسبة فعل التشريع
(ومنه الشريعة) إلي الله وحده,
مع صرف دلالته - بحسب المفسرين الثقاة ــ إلي الأصول الكلية المتوافق عليها بين الأنبياء وأهل الأديان جميعا; وهو ما جعل الإمام الشاطبي يؤكد, في الموافقات في أصول الشريعة, أن هذه الأصول مراعاة في كل ملة.
وإذ يمضي مطلب جعل الشريعة أداة فصل بين الناس في اتجاه معاكس للقرآن, فإنه لا يبقي إلا أن يكون تعبيرا عن بناء عقلي ونفسي لا يري في العالم إلا ساحة للانقسام والتمايز.

ومن حسن الحظ, أنه إذا كان القرآن قد جعل ما يشرعه الله مخصوصاً بما يجمع بين بني البشر من الكليات,
 فإنه قد جعل ما يفاصل بينهم من الأحكام التفصيلية الخاصة من فعل الفقه الذي اختصه بالإنسان.
 ولعل ذلك ما يكشف عنه التداول القرآني للجذرين شرع, وفقه; وأعني من حيث يجعل فعل تشريع الدين مختصا بالله وحده
(في قوله: شرع لكم من الدين- الشوري,13),
وذلك فيما يجعل فعل التفقه في الدين مردودا إلي البشر
(في قوله: منهم طائفة ليتفقهوا في الدين- التوبة,122).

والحق أن داعية السلفية لا يرفض لفظة مبادئ في مادة الشريعة,
لتعلقها ــ فحسب ــ بالكليات المشتركة التي تصل الإسلام بغيره من الأديان, بل لكون هذه المبادئ تؤشر فقط علي ما هو قطعي الثبوت والدلالة;
 وبما يعنيه ذلك ــ وعلي قول أحدهم ــ من أن ما هو ظني الثبوت والدلالة
ــ والذي يمثل علي قوله القدر الأعظم مما يقول إنها الشريعة ــ
سوف يوضع خارجها.
 ولهذا فإنه يريد تعرية الشريعة عن لفظة المبادئ,
 ليتسني له إلحاق هذا الظني بها.

وحين يدرك المرء أن الظني هو ما يتميز بانفتاح دلالته وحركيتها,
وعدم قطعيتها,
 فإنه سيتحقق من أن الله قد أراد له أن يكون ظنياً ليصبح موضوعا لفعل التفقه في الدين الذي ينسبه القرآن الكريم إلي البشر;
 بحيث يكون متروكا لهم تحديد دلالته, بحسب ما يناسب طبيعة وعيهم وواقعهم, وتفعيلا لمبدأ رفع الحرج.
وبالطبع فإن الناتج عن فعل تفقه البشر( في هذا الظني الدلالة)
لابد أن يكون عاكساً لواقع تاريخهم;
وعلى النحو الذي يمكن معه القول إن السعي الملحاح من جانب دعاة السلفية إلي نقله من مجال الفقه( ذي الطابع الإنساني)
إلي الشريعة( ذات الأصل الإلهي),
 إنما يقدم الدليل العملي الواضح علي ممارستهم الأثيرة في تحويل التاريخ إلي دين. 

وليس من شك في أن فرض هذا التاريخ السابق علي الناس,
 كدين واجب الاتباع,
 سوف يضع الناس في الحرج الذي ينطق القرآن الكريم صريحاً بأن الله لا يريده أبداً للبشر,
 وذلك في قوله:
 وما جعل عليكم في الدين من حرج.
 ويرتبط هذا الوضع للناس في الحرج بحقيقة أن ما يكون به الصلاح في وقت بعينه, قد لا يستجلب الصلاح نفسه في غير هذا الوقت; وبما يعنيه ذلك من أن صلاح الشئ مرتبط بوقته, وليس أمرا مطلقا أبدا.
ولأن أحداً قد يحتج بأن الفقه هو وضع إلهي,
 وبالتالي فإن صلاحيته مطلقة خارج الوقت; فإنه يلزم التأكيد ــ من جهة ــ
إلا أن الفقه, بما هو نتاج فعل التفقه في الدين, مردود حسب القرآن نفسه إلي الناس, وليس إلي الله, وذلك فضلا عما بدا من استحالة تفسير تعدد الوحي, وهو فعل الله حقا, لا مجازا, إلا عبر قاعدة ربط الصلاح بالوقت.
فقد بدا أن تفسير التعدد الحاصل في فعل الوحي هو مما يستحيل تماما إلا عبر ربط الصلاح بالوقت;
 وإلا فإنه ستتم نسبة النقص إلي الله( جل شأنه),
 فإنه لو قيل:
 إن الوحي الثاني أصلح من الأول(من دون ربط هذا الصلاح بوقته),
لكان( هذا الوحي) الأول ناقص الصلاح; فكيف يأمر الله به( وهو الناقص)؟,
 قلنا ــ والقول للرازي في مفاتيح الغيب ــ
إن( الوحي) الأول أصلح من( الوحي) الثاني بالنسبة إلي الوقت الأول,
والثاني بالعكس منه.

 وهكذا لا يتورع من هو في وزن الرازي عن التعامل مع الوحي( وهو فعل إلهي), بحسب قاعدة ربط الصلاح بالوقت, لكيلا يصار إلي نسبة النقص إلي الله ..
 فهل يجوز ربط الصلاح بالوقت في حال الوحي( وهو فعل الله لا محالة), بينما لا يكون ذلك جائزا في حال الفقه( وهو فعل الناس بامتياز)؟.

إن ذلك يعني أنه, وعلي فرض أن الفقه هو وضع إلهي, فإن ذلك لا ينبغي ألا يحول دون ربط صلاحه بالوقت, قياساً علي ربط صلاح الوحي ــ وهو فعل الله الصريح ــ بالوقت,
 وإذ يحيل ذلك إلي اعتبار الله(جل شأنه) للسياق الإنساني المتغير, وذلك فيما يصر هؤلاء- عن عمد أو جهل - علي إهدار هذا السياق بالكلية,
 فإنه لا يمكن قبول ما يزعمون من أن هذا الإهدار هو من أجل إعلاء كلمة الدين; وذلك إلا أن يكون دين سلاطين الاستبداد, وليس أبدا دين الله الذي هو أكثر رحمة بالعباد!.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 15/نوفمبر/2012


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق