حكايــــــة الحداثـــة الشـــكلية
كتب / وائل فتحي
تاريخ جلب الحداثة أو قطف الثمرة،
هذا أول استنتاج سيصل له القارئ عند قراءة
"ثورات العرب..خطاب التأسيس"
للدكتور علي مبروك.
كيف حاولنا جلب الحداثة لوادينا الطيب منذ اعتلاء محمد علي ولاية مصر، وحتي الآن!؟
هذا هو سؤال الكتاب.
بداية يطرح المؤلف مناقشة حول مشروع الحداثة التركية،
ذلك الذي خاضه كمال أتاتورك ضد الدين،
معتبرا أن هذا الطرح خاطئ،
مثلما كان الطرح الخاص بالدولة الحديثة لمحمد علي باشتراط الحداثة بما يتفق مع التراث كذلك، حيث استمرت هيمنة خطاب القوة في التجربتين،
لهذا يقدم الأستاذ المساعد بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة للقارئ نصيحة مفداها
أن السبيل الوحيد للتحرر في بلاد العرب يكمن في :
التخلي عن خطاب القوة مقابل خطاب المعرفة..هكذا تستقيم الحداثة.
ولنتأمل سويا هذا التصور:
الدولة
كيف جلبت الحداثة المشروطة بــ"تخليص" رفاعة رافع الطهطاوي،
وما الموانع التي منعت النقل الكامل؟
مثلاً ينقل أول ناقل للحداثة الأوروبية الطهطاوي
في تلخيصه لهذه الحداثة فيما يخص توزيع وتقسيم السلطات
"إن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف، وإن السياسة الفرنساوية هي قانون مقيد"
(كما جاء في الكتاب العُمدة: تخليص الأبريز في تلخيص بايز)،
ولكن الطهطاوي ما يلبس أن يتناسي تماماً عقد مقارنة بين ملك في فرنسا وباشا في مصر، ليورد المقارنة بشكل يدمر تماماً حس المقارنة حينما يتكلم عن الدولة المصرية، في الكتاب نفسه،
حيث يكتب عنها وفقاً لقاموس "السياسة الشرعية" حيث يري،
فيما يخص الدولة المصرية الجديدة
"إن للملوك في ممالكهم حقوقا تسمي بالمزايا، وعليهم واجبات في حق الراعايا.
فمن مزايا الملك أنه خليفة الله في أرضه، وأن حسابه علي ربه،
فليس عليه في فعله مسئولية لأحد من رعاياه، وإنما يذكر للحكم والحكمة من طرف أرباب الشرعيات أو السياسات برفق ولين،
لإخطاره بما عسي أن يكون قد غفل عنه، مع حسن الظن به"..
هكذا ينتهي رفاعة إلي أن مصدر سلطة الباشا ليس الأمة، وإنما الله،
والذي يلح الطهطاوي طوال »تخليصه«
أن الله سبحانه وتعالي هو الذي ولاه حكم مصر،
وذلك يتعارض مع الواقع التاريخي الذي يقطع بأن تولية الباشا كانت من جماهير الشعب ونخبته التي استمسكت به في مواجهة الإرادة السلطانية العلوية،
كل هذا يكشف، حسبما يري الباحث ومؤلف الكتاب،
عن أزمة مثقف يجد نفسه مضطرا لأن يكون بوقاً لسلطة القوة علي حساب سلطة الحقيقة. لنتقدم بالزمن سريعاً، لنجد إنعكاسا لهذه الفكرة في وقتنا الراهن،
حيث أعاد إنتاج أنصار "مبارك" هذه الفكرة،
حيث رفع أحد المؤيدين لافتة كتب عليها:
من اختاره الله لا يسقطه الخونة والعملاء!
لكل هذا فالكتاب يعد تأريخاً لفكرة صراع بين قوتين:
السلطة، والمعرفة،
رغم ذلك لا يعكس الكتاب صراعا بين القوة والقوة الناعمة، مثلاً،
بل يسجل تاريخاً من سطوة الأولي وقلة حيلة الثانية.
كان مشروع النهضة قائماً علي دعم القوة،
بمعني أن نأخذ من الحداثة ما يجعلنا أقوياء، أن تكون الدولة صلبة،
دون أن ننقل تجارب الحداثة، رفاعة الطهطاوي كانت له عبارة اعتراف أن مشروع النهضة كان يهدف لقطف الثمرة،
وليس لتقليب التربة.
الثمرة هي ثمرة الحداثة، ليس هذا أوان الحديث عن رفاعة ومشروعه المعرفي،
لكن الإشارة تكشف للقارئ ملامح خطاب التأسيس العربي أي
"ثورات العرب..خطاب التأسيس"،
حيث يري الباحث أن ثورات العرب كانت مجرد مدخل
ليعود مبروك إلي نشأة مشروع النهضة العربي،
أي مشروع الدولة الحديثة، لهذا يتجول بين النشأة المعرفية التي أرساها رفاعة الطهطاوي.
يكشف الكتاب أن مشروع النهضة العربي كان قائماً علي استجلاب مظاهرة القوة فقط، ومظاهر الحداثة أيضاً،
بينما كان عماد الدولة التي أسسها محمد علي الجيش،
إلا أن بقية المظاهر لم تهدف لتأسيس دولة قوية، بل أن تبدو دولة قوية فحسب.
الجامعة
تعطيل متعمد للنهضة بسبب السياسة،
حينما كان الحضور للسياسي طاغياً علي حساب المعرفي، كان ذلك في نهايات القرن التاسع عشر،مما أسس لأزمة شاملة، فكان الحل المطروح هو الجامعة.
خلال هذه الفترة لم تستطع جامعة الأزهر أن تلعب الدور الوسطي بين سيطرة
السلطة/ القوة/ الجيش،
ورغبة المجتمع في والتقدم بعد ذلك.
حيث انشغلت المؤسسة الأزهرية بالحداثة المشروطة باسم الحفاظ علي التراث،
حتي أن المؤلف يتوقف عند تجربة تأسيس كلية دار العلوم،
لتعيد إنتاج خلطة تناسب مجتمعنا بين الدين والعلم، لكنها لم تحقق شيئا حسب استشهاد الكتاب برأي دكتور طه حسين.
لكن كل ذلك لم يعنِ نهاية دور مؤسسة القوة الصلبة،
بل استمرت الغلبة لها، وكان تغليب السياسي، علي المعرفي، أمراً مستمراً.
لنترك النشأة،
وننتقل لتأسيس خطاب المعرفة،
وبالتحديد النقد المعرفي حيث يتوقف الباحث عند جدل ولدته الأفكار النقدية
بين عابد الجابري وجورج طرابيشي،
يتوقف "الفيلسوف" المغربي الراحل و"المفكر" واللبناني عند مفهوم الأصالة بين الشرق والغرب العربيين، بينما يشيد الجابري بالمشروع النهضوي المغاربي،
الذي صنعه العقل المغاربي الذي يتسم بتفكير منطقي يبحث عن البرهان،
كنتاج لتأثره بالمعرفة الإغريقية،
بينما يحصر الجابري-أيضا- العقل الشرقيّ في دور العقل الصوفي البياني،
في حين أن جورج طرابيشي يعيد أصول المعرفة اليونانية للحضارة الفينيقية،
هكذا يكشف لنا الباحث أن النقد المعرفي قد ارتد بالعرب إلي الماضي السحيق
أي إلي التفاخر بالقبائل،
بما يستتبع ذلك بجدارة الأكثر أصالة، من أصحاب التصورين، بالإمساك بمقاليد السلطة والقيادة!
هنا يمكننا القول أن وظيفة النقد لم تعد تحرير الأفهام،
بقدر ما باتت تثبيت الأوهام..أوهام الأصالة، وجدارة الصدارة والقيادة،
وبالطبع لن يستطيع النقد إنتاج معرفة بالواقع،
لهذا يكتب د.مبروك:
"أعني من حيث لم يتجاوز الأمر حدود استبدال أصالة بأصالة ومركز بآخر،
وعلي نحو يكشف عن هيمنة منطق الإبدال والإحلال
الذي هيمن علي مجمل ما ساد فضاء الخطاب العربي
من الاختزال الأيديولوجي للواقع."
تم النشر في أخبار الأدب بتاريخ 3 مـــــــــارس 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق