تتجلي الآلية الأصرح,
التي يشتغل بها خطاب تديين السياسة- الذي يتعالي مده في عالم ما بعد الثورات العربية- فيما يقوم به المشتغلون, في حقل هذا الخطاب, من استدعاء ما ينسبونه إلي الدين من القواعد والمحددات,
لتقييد مجال الممارسة السياسية بها.
ورغم ما يبدو من الفاعلية شبه المطلقة لهذه القواعد والمحددات بسبب رسوخها في المخزون الحي الغائر في الذاكرة الجمعية للجمهور الذي يتعامل معها- تبعا لذلك - بما هي من المسلمات غير القابلة للسؤال, فإنه يلزم التنويه بما يعرفه المشتغلون في مجال الدرس الإسلامي
(علي النحو الاستقصائي العلمي, وليس الإنشائي الوعظي),
من أن الكثير من هذه القواعد المنسوبة إلي الدين
(وخصوصا في مجالي الممارسة السياسية والاجتماعية بالذات),
هي محض تحديدات فرضتها مقتضيات الضبط السياسي والإجتماعي, ثم راح يجري إخفاءؤها وراء قداسة الدين لإكسابها الديمومة والرسوخ.
ولعل ذلك يستلزم طريقة في التعامل مع مثل هذه القواعد, علي النحو الذي يفتح الباب أمام تحرير مجال الممارسة من سطوتها; وهو الأمر الذي لن يكون ممكناً إلا عبر تحرير الدين, نفسه, من قبضتها أولاً;
وأعني من حيث يجري توظيفه كقناع لإضفاء القداسة علي ما ليس منه في الحقيقة.
ولعله ليس من سبيل إلي ذلك كله إلا عبر السعي إلي نزع القشور والرقائق الدينية التي تحيط بالنواة الصلبة للقاعدة موضوع التحليل, علي نحو تنكشف معه طبيعتها المتخفية, مع ما يصاحب ذلك من بيان المراوغات التي أمكن عبرها مراكمة تلك الرقائق الدينية التي استحالت إلي أقعنة كثيفة تتواري خلفها الطبيعة السياسية أو الاجتماعية للقاعدة.
ولأن نقطة البدء في مسار مراكمة تلك الرقائق الدينية حول القواعد ذات الطبيعة السياسية والاجتماعية, تتبدي في سعي المشتغل تحت مظلة هذا الخطاب إلي التأسيس النصي لتلك القواعد من القرآن, فإنه يلزم التنويه بأن هذا الفعل التأسيسي ينطوي علي ضروب من التوجيه( عبر الانطاق والإسكات للقرآن)
علي النحو الذي ينتهي إلي تثبيت القاعدة المرادة بوصفها ديناً يكون مطلوباً من الناس أن يتعبدوا به الله.
ولعل ذلك ما يؤكده الاشتغال علي القاعدة المستقرة الخاصة بعدم جواز ولاية غير المسلمين التي يكشف التحليل عن مراوغات توجيه القرآن باتجاه تثبيتها, كقاعدة تعمل علي نحو مطلق; وبصرف النظر عن تحديدات السياق وشروطه.
وهكذا فإنه, وعلي الرغم من أن الإنسانية قد انتقلت من سياق كان فيه الدين هو الأصل المحدد لهوية الفرد والجماعة( وبما يترتب علي هذا التحديد من إخلاء المركز لصاحب الدين/السيد, وإقصاء أتباع الديانات الأخري إلي الهامش), إلي سياق التحديد السياسي لتلك الهوية( بما يفرضه هذا التحديد من الحقوق والواجبات المتساوية), فإن فاعلية تلك القاعدة تظل مستعصية علي التحدي للآن; وإلي حد ما جري من التلويح المباشر بها, من جانب القوي السياسية السلفية, في مواجهة ما تردد من الاتجاه إلي تعيين نائب قبطي لرئيس الجمهورية.
ولسوء الحظ, فإن هذا التشغيل للقاعدة علي نحو مطلق,
وبصرف النظر عن شروط السياق وتحديداته, لم يتحقق إلا عبر ضروب من ضغوط الإكراه والإسكات التي مورست علي القرآن بنعومة, ولكن بلا هوادة.
وعلي الرغم من أن هذه الضغوط ذات أصل سياسي واجتماعي بالأساس,
فإنها قد راحت تحقق نفسها في شكل مبادئ وقواعد للفهم والترجيح التي قيل باستحالة أي مقاربة للقرآن إلا من خلالها, وفقط. فإن الاجتماعي والسياسي يسعي, علي الدوام, إلي إخفاء تحيزاته الذاتية الغليظة وراء رهافة المعرفي وما تبدو أنها موضوعيته.
وهكذا فإنه إذا كان القصد هو تثبيت واقع سياسي واجتماعي بعينه, فإن هذا القصد لا يحقق نفسه مباشرة, بل إنه يتخفي وراء مقاربة معرفية للقرآن تقوم علي إهدار السياق بما هو السبيل الوحيد لإطلاق الدلالة وتثبيتها علي نحو نهائي. وضمن هذه المقاربة المعرفية, فإن هذا الإهدار للسياق سوف يؤسس نفسه علي قواعد ومفاهيم من قبيل الناسخ والمنسوخ والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, وغيرها.
وبالرغم من عدم إمكان المجادلة في أن هذه القواعد والمفاهيم,
المشار إليها وغيرها,
إنما ترتبط بالأفق العقلي والمعرفي والسياسي والاجتماعي الذي تبلور فيه وعي مبدعيها, فإنها قد استحالت إلي ما يشبه الأقانيم المقدسة التي يستحيل إلا التسليم بها, وممارسة الفهم من خلالها وحدها,
وعدم التعرض لها بالمساءلة والمحاورة.
ولعله يلزم التنويه, هنا, بأنها قد اكتسبت هذا الوضع الذي تعالي بها إلي خارج حدود المساءلة, في عصور الجمود والعجز عن الإبداع; حيث تكشف القرون الأولي من تاريخ الإسلام عن نوع من الحوار المنفتح- الذي تحفظه بطون دواوين التفسير- مع تلك القواعد والمفاهيم.
ولعله يلزم التأكيد, هنا, علي أن هذا التوجيه للقرآن إلي إنتاج دلالة آحادية مطلقة- عبر وساطة تلك القواعد والمفاهيم التي أحالتها عصور الجمود المتأخرة إلي أقانيم مقدسة- إنما يرتبط بتصوره كسلطة يراد توظيفها من أجل تسييد وتثبيت موقف سياسي واجتماعي بعينه.
فإنه إذا كان الإطلاق والأحادية يشكلان جوهر السلطة في الإسلام, منذ وقت مبكر نسبياً; وذلك من حيث ما تكشف عنه كتب الفقه السياسي من إنبناء صورة السلطان بالتمثيل علي صورة الله
(حيث الحضرة الإلهية لاتفهم-علي قول الغزالي-إلا بالتمثيل علي الحضرة السلطانية)
, فإن ذات الإطلاق والأحادية كانا لابد أن يحددا عالم الدلالة في القرآن. ويرتبط ذلك بأن حراسة سلطة ذات طابع أحادي وإطلاقي (في المجالين الاجتماعي والسياسي), سوف تكون أمرا ميسورا إذا ما تم تقييد الدلالة في القرآن لتصبح مطلقة وأحادية, بدورها.
إذ يهدد عالم الدلالات المفتوحة المتنوعة أحادية السلطة وإطلاقيتها, بما يحيل إليه من إمكانات تعدد الأفهام وتباين الرؤي.
وعلي النقيض من ذلك, فإن التعامل مع القرآن باعتباره فضاء مفتوحا لفيوض من الدلالات المتنوعة( أو حتي المتباينة), إنما يرتبط بتصوره كساحة رحيبة يتواصل فوقها البشر في سعيهم إلي بناء عالم يتسع لهم جميعا, من دون إزاحة أو إقصاء بسبب الاختلاف في الدين أو اللغة أو العرق.
وإذن فإنه الصراع, في الجوهر, بين القرآن كقناع لسلطة( أحادية ومطلقة) تسحق الناس جميعا( مسلمين وغير مسلمين), وبينه كساحة يؤكدون عليها التنوع الذي أراده الله لهم.
ولسوء الحظ, فإن كل هذه الإكراهات, السابق بيانها, قد اشتغلت جميعا,
وعلي نحو مثالي وصريح, في سياق توجيه القرآن إلي النطق بقاعدة عدم جواز الولاية السياسية لغير المسلمين.
وأعني من حيث إنه إذا كانت السلطة تحضر, في إطار هذه القاعدة, أحادية ومطلقة, فإن الدلالة تحضر علي هذا النحو أيضا; وبما يفرضه هذا الحضور (الأحادي والإطلاقي لها) من القواعد والمفاهيم التي تتضافر في تثبيتها. وهنا يشار, بالذات, إلي قاعدتي النسخ والإجماع, اللتين لعبتا الدور الأبرز في ضروب الإكراه التي مورست علي القرآن;
وكل ذلك مما يحتاج إلي بيان, سوف يكون موضوعا لمقال قادم.
تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 6 / سبتمبر /2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق