تحولت الدعوة إلي عودة اليهود المصريين إلي مصر, إلي مادة للاحتراب السياسي( بل وحتي الهزلي) بين شرائح النخبة المصرية المتنابذة.
وإذا كان الباب قد انفتح- رغم كل شيء- أمام بعض الكتابات الرصينة
التي سعت إلي التحاور مع هذه الدعوة, بالجدية الواجبة, فإن هذه الكتابات قد ركزت,
في معظمها, علي الجوانب التاريخية المتعلقة بخروج اليهود( الثاني) من مصر, وأهملت
السياق الفكري الذي تحقق ضمنه هذا الخروج.
وإذا كانت المسألة
اليهودية- التي شغلت الفكر الأوروبي الحديث- هي السياق الفكري
للخروج اليهودي
الحديث, علي العموم, فإن حديثاً في الشأن اليهودي, من دون الوعي بها, يبقي ثرثرة من
غير طائل.
فقد فرضت جملة عوامل معقدة علي اليهود أن يكونوا إحدي مشكلات عصر الحداثة;
وأعني من حيث بلغوا هذا العصر, وهم يحملون علي ظهورهم تاريخا طويلا حدد لهم وضع
الجماعة التي وجدت نفسها تقوم- في إطار النظام الإقطاعي الوسيط-
بوظائف وأدوار
يستنكف غيرها عن القيام بها, ولكنها تبقي وظائف ضرورية,
ولا يمكن للمجتمع الإقطاعي
الاستغناء عنها.
وبالطبع فإن التاريخ الطويل من الاختصاص بممارسة تلك الوظائف كان
لابد أن يؤدي- لا محالة- إلي أن تستبطن هذه الجماعة منظومة القيم والعادات
الثقافية التي تقترن بهذه الوظائف;
وإلي الحد الذي تكاد معه تصبح محددات لطرائقها
في التفكير والتعبير والسلوك.
فالإنسان- فردا أو جماعة- لا يتشكل تفكيرا وسلوكا في
الفراغ,
بل ضمن سياق يفرض عليه شكل حضوره.
وبالطبع فإن ذلك يعني سقوط الفكرة التي
تقول إن ثمة طبيعة خاصة لجماعة ما هي التي تحدد لها شكل حضورها في العالم; حيث إن
السياق التاريخي الشامل الذي يتطور وجود الجماعة داخله هو المحدد لشكل حضورها.
ولأسباب ترتبط بطبيعة
الظهور التاريخي المبكر للجماعة اليهودية,
فإن الأنشطة التجارية والربوية كانت هي
الأنشطة التي برزت فيها تلك الجماعة,
ومن دون أن يعني ذلك أن اليهود لم يمارسوا
غيرها علي مدي التاريخ.
وفقط فإن تركيز اليهود علي ممارسة تلك الأنشطة بالذات هو
الذي يقف وراء ظهور ما يسمي بالمسألة اليهودية, بكل ما أثارته- ومازالت- علي صعيد
الفكر والسياسة.
إذ يبدو أن الظهور المبكر لليهود, علي مسرح التاريخ, كجماعة من
البدو العبرانيين الرحل هو الذي يقف اختصاصهم, أكثر من غيرهم, بالأنشطة التجارية
والربوية التي تعتمد, وبشكل أساسي, علي التنقل والتجوال. والحق أن الجماعات ذات
الأصل الرعوي المترحل تبقي الأكثر استعدادا للانهماك في النشاط التجاري.
ولعل الأمر لا يقف, فحسب, عند مجرد سياق التشكل المبكر لليهود كجماعة من البدو العبرانيين الرحل,
ولعل الأمر لا يقف, فحسب, عند مجرد سياق التشكل المبكر لليهود كجماعة من البدو العبرانيين الرحل,
بل
ويرتبط بما لاحظه بعض علماء الاجتماع الديني( المتأثرين بأفكار الألماني ماكس
فيبر) من أن الدين اليهودي ذاته قد ساهم في جعل اليهود أقلية تعمل بالتجارة
والربا;
وذلك من حيث لا يركز هذا الدين علي العالم الآخر, ولا يركز علي الزهد في
الدنيا,
كما أن الدارس للتلمود يكتشف أنه يتحدث عن التجارة باعتبارها أشرف المهن,
وعن الإقراض باعتباره هدية من الله لليهود.
وبالطبع فإن ذلك كان لابد أن يؤدي إلي
تثبيت صورة اليهودي المرابي في المجتمعات التي عاش فيها اليهود; وهي صورة سلبية
مرذولة, تجر علي صاحبها الكراهية والاضطهاد.
ولقد ترتب علي ذلك أن أخذ اليهود وضع الجماعة الطفيلية التي تتعلق علي جسد المجتمع, ولكنها تبقي غريبة عن روحه, وقد أعطي ذلك لليهودي وضع من يسكن في المجتمع بجسده, ولكنه لا ينتمي إليه بروحه, فبدا أشبه بالإنسان المعلق في الهواء, فلا يندمج في المجتمع, ولا ينفصل عنه, بل يحيا في منطقة المابين, أو في المنزلة بين المنزلتين.
ولقد ترتب علي ذلك أن أخذ اليهود وضع الجماعة الطفيلية التي تتعلق علي جسد المجتمع, ولكنها تبقي غريبة عن روحه, وقد أعطي ذلك لليهودي وضع من يسكن في المجتمع بجسده, ولكنه لا ينتمي إليه بروحه, فبدا أشبه بالإنسان المعلق في الهواء, فلا يندمج في المجتمع, ولا ينفصل عنه, بل يحيا في منطقة المابين, أو في المنزلة بين المنزلتين.
وحتي كساكن بجسده في
المجتمع, فإنه قد اختار الإقامة في معازل الجيتو, ليؤكد انفصاله وعزلته.
وهكذا
فإنه قد ظل يعيش بإحساس أجداده الغابرين; وأعني إحساس العابر( اللامنتمي), أو غير
المقيم. وإذا كان الرب( إله العهد القديم) قد وهب أجداده أرضا يستقرون عليها,
فإنه- ورغم تنائي الزمان والمكان- قد ظل يحمل ولاء غامضا لهذه الأرض البعيدة; وهو
ما فاقم من عزلته عن محيطه. ولقد كان ذلك كله- وبالتضافر مع حقيقة أن مسيحية
المجتمعات, التي عاش اليهود بين ظهرانيها, قد جعلتها تحمل عداء تقليديا لهم, بسبب ما
تنسبه إليهم من تلوث أيديهم بدم المسيح- هو الأصل في كل التوترات التي أدت إلي
ظهور المسألة اليهودية, التي كانت عنوانا علي أن اليهود, في المجتمعات الأوروبية,
قد أصبحوا مشكلة لابد من حل لها.
ولقد تبلور التفكير في حلول للمسألة اليهودية في اتجاهين;
ولقد تبلور التفكير في حلول للمسألة اليهودية في اتجاهين;
مضي( أولهما)- وهو الحل التنويري- نحو إخراج
اليهود من العصور الوسطي, عبر تخليص اليهودية من إرثها الأسطوري المتعلق بالعودة
إلي أرض الميعاد, وتحويلها إلي ديانة أخلاقية روحية, ونبذ أي جانب يتعارض مع العقل
منها, وفصل الدين اليهودي عما يسمي بالقومية اليهودية, ودعوة اليهود إلي الاندماج
في المجتمعات التي يعيشون فيها, وأن يكون ولاؤهم لبلدانهم, وليس لقوميتهم الدينية
المتخيلة.
ولقد استقرت السيادة لهذا الطرح علي مدي أكثر من قرن, حتي نهايات القرن
التاسع عشر التي شهدت تبلور الحل الصهيوني للمسألة اليهودية, الذي تستقر له
السيادة حتي الآن, رغم وفائه لتقاليد العصور الوسطي. حيث ينبني علي تحفيز المواريث
الأسطورية في اليهودية, وربط الدين اليهودي بالقومية والأرض, ودعوة اليهود للعودة
إلي جبل صهيون,
وإلي أن يكون ولاؤهم للأرض الموعودة القديمة, وليس للبلدان التي
يعيشون فيها.
وباختصار, فإنه يقوم علي أن تجاوز المأزق اليهودي لن يكون إلا
بالعودة إلي الماضي ما قبل
الحديث; وذلك فيما يقوم الحل التنويري علي ضرورة أن
يكون اليهود جزءا من الحداثة الحاضرة. ورغم معاداته لروحها- وذلك من حيث يقوم علي
استدعاء حلول الماضي, وإدارة الشأن السياسي والاجتماعي لليهود بالدين, فإن الحداثة
الأوروبية قد انحازت للحل
الصهيوني لما يقدمه من خدمة لسياساتها الاستعمارية في
الشرق الأوسط.
لكن الغريب, حقا, ألا
يدرك دعاة الإسلام السياسي أنهم- وببنائهم لخطابهم علي استدعاء
حلول الماضي,
وإدارة الشأن السياسي بالدين- إنما يدعمون استمرار الحل الصهيوني, علي
نحو لا
يملكون معه القدرة علي وضع نهاية له.... لذا لزم التنويه.
تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 24 / ينايـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر / 2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق