الخميس، يوليو 11، 2013

هل تتصالح الديمقراطية مع خطاب الإسلام السياسى؟





تقوم ظاهرة الإسلام السياسي - وتحتل موقع القلب فيها جماعة الإخوان المسلمين - على ضروبٍ من الالتباس التى يجرى إخفاؤها، وعن عمد، لتكون بمنأى عن الوعى المنضبط بها، وعلى النحو الذى يهبها الديمومة واستمرار البقاء. كما يرتبط ذلك بالسعى إلى تصوير الجماعات المكونة لظاهرة الإسلام السياسي، على أنها جماعاتٌ "طهورية"، لا انشغال لها بما يجاوز حدود "المقدس" الديني، وبما يعنيه ذلك من تعمُّد إخفاء طابعها السياسي. ومن هنا وجوب فض الالتباسات المتعلقة بموقف هذه الجماعات من الحداثة، والعلاقة بين الدين والسياسة، والعقل والتقليد والطاعة وغيرها. 
وفيما يخص الالتباس المتعلق بالموقف من الحداثة، فإن الأصل فيه يأتى من أن أحداً لم يلتفت - بما يكفي - إلى استقصاء السياق الفكرى والمعرفى الذى تبلور فيه خطاب جماعة الإخوان المسلمين، وتيار الإسلام السياسى على العموم، وذلك على الرغم من غزارة الالتفات إلى السياق السياسى والتاريخى الذى أدى إلى ظهور كلٍ منهما، والذى يتمثل فى إعلان سقوط الخلافة فى العام 1924، بالذات. ولعل المدخل إلى الوعى بهذا السياق المُهمل، ينطلق من الإقرار بأن تيار الإسلام السياسي - وضمنه جماعة الإخوان - هو جزءٌ من صميم ما يُعرف بظاهرة الحداثة العربية، وإلى حد إمكان القطع بأنه لو أمكن تصور غياب ظاهرة "الحداثة" على العموم - والنمط العربى منها على الخصوص - لما كان لتيار الإسلام السياسى أن يتبلور من الأساس. ويعنى ذلك أنه يستحيل استيعاب ظاهرة الإسلام السياسى خارج القوانين والمحددات التى حكمت انبثاق وتطور ظاهرة التحديث فى العالم العربى منذ العقود الأولى فى القرن التاسع عشر. وبالطبع فإنه لا يؤثر فى ذلك ما يجرى الإيهام به من أن الإسلام السياسى يبغى استبدال الإسلام - كمنظومة حياة - بالحداثة، من أجل استرداد ماضيه الذهبى السابق عليها، حيث الأمر لا يتجاوز مجرد استخدام الإسلام والحداثة معاً من أجل بناء وتثبيت أيديولوجيا سياسية، لا تختلف عن غيرها من أيديولوجيات مناوئة إلا من حيث نوع القناع التى تتخفى خلفه. 

من صاغوا خطاب التغيير فى العالم العربى قد قاموا بالتمييز فى الحداثة الأوروبية - ومنذ البدء - بين المكون "التقنى الإجرائي" لها، والذى اعتبروه من "النفيس" المقبول الواجب نقله إلى ديار المسلمين، وبين مكونها "العقلى النقدي"، الذى اعتبروه من "الخسيس" المرذول الذى لا يجوز تعاطيه أو نقله إلى ديارهم. وبالطبع فإن ما يجرى الآن فى العالم العربي، لم يقطع بأن هذه الأطروحة التى استقر عليها الجميع على مدى القرنين الفائتين، قد حافظت للجمهور على وضع "الجاهل" الذى يشهد ما يحصل الآن بأنه لم يغادره، وفقط فإن هذا الجمهور قد اختار - مع تراخى قبضة الدولة - أن يتخلى عما فرضته عليه من "الوداعة".

ورغم ما بدا من بؤس هذا الضرب من التغيير فى الواقع الخارجي، مع الإهمال شبه الكامل للشرط العقلى اللازم لأى تغييرٍ حقيقي، فإن ذلك قد حدد طريقة عمل الفرقاء العاملين تحت مظلة الخطاب العربى الحديث، والتى تتمثل فى وجوب الإمساك بأدوات القوة التى تفرض التغيير من أعلى، والتى تتمثل فى الدولة بالأساس.

وضمن هذا السعى إلى الإمساك بالدولة، فإن دعاة الإسلام السياسى لا يختلفون - من جهتهم - عن غيرهم من الذين عملوا، من جهة أخرى، تحت رايات الأيديولوجيات التحديثية (الليبرالية والقومية والاشتراكية وغيرها). وأعنى من حيث إنهم جميعاً يراوحون تحت مظلة ذات الأطروحة التى لا ترى للتغيير سبيلاً إلا بتسكين الجوانب التقنية الإجرائية من الحداثة فوق ذات البنيات التقليدية المتوارثة للوعى التى تحتفظ للجمهور بوداعته وهدوئه وطاعته. وفقط فإن الاختلاف بينهما يأتى من نوع المفردات التى يستخدمها كل فريق فى سعيه إلى الهيمنة على المجال العام.

 إذ فيما ظل دعاة الأيديولوجيات الحداثوية يستخدمون المفردات المتداولة فى إطار الأيديولوجيات التى يبشرون بها (من قبيل الحرية والديمقراطية والدستور والاشتراكية والطبقة العاملة والقومية وغيرها)، والتى لم يقدروا على السيطرة بها على المجال العام لعدم امتلاك الجمهور - المقصود التأثير عليه بها - للتراث المعرفى والتاريخى الذى تقف عليه هذه المفردات، فإن دعاة الإسلام السياسى يستخدمون مفردات تنتمى للرأسمال الرمزى الدينى للجمهور للسيطرة على المجال العام (من قبيل الشريعة والحكم بما أنزل الله وتطبيق الحدود وغيرها)، وبما سيجعل من دولة الإسلام السياسي، "الدولة التنين" فعلاً. حيث ستحضر الدولة، كقوة قابضة ليس فقط بكل أدوات قمعها الحديثة، بل وكذا على الرأسمال الرمزى المقدس الذى سيجعل من الخروج عليها هرطقةً وكفراً.
 وهكذا فإنه، وبدلاً من تجاوز أطروحة مركزية الدولة فى التغيير، عبر نقد أطروحة التغيير البرانى الذى تفرضه الدولة من أعلى على المجتمع الوديع المستكين فى الأدنى، وفتح الباب أمام ضرورة امتلاك الشروط العقلية والمعرفية للدخول إلى عصر الحداثة الحقة، فإن الإسلام السياسى لا يملك ما يقدمه إلا المزيد من "مركزة" الدولة من جهة، و"إخضاع" الجمهور من جهة أخرى، وبما يعنيه ذلك من أنه لا يقدر على تقديم ما يمكن أن يساعد مصر على بلوغ عتبة تطورها الديمقراطي، بل إنه يمثل العائق الأهم أمام مثل هذا التطور. لذا لزم التنويه وخصوصاً مع تزايد الدعاوى لاحتواء جماعات الإسلام السياسى فى العملية السياسية.

 ولعله يلزم تأكيد ضرورة أن يكون إدماج الأفراد، من المنتمين لهذا التيار، بعد تأهيلهم على نحو يبرأون منه من فيروس هذا الخطاب المرعب. 


تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 11 / يونيــــــــــــو /2013


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق