الخميس، أغسطس 08، 2013

سـيد قطـب ومفهـوم الجماعـة الربانيـة





إذا كان القرآن قد تنزَّل بما هو أحد تجليات "المعرفة الإلهية" المتعالية، فإنه يبقى أن كل ما يصدر عنه من معرفة تتمثل فى منظومات (التفسير والفقه والعقائد والأصول وغيرها)، إنما يكون من قبيل (المعرفة الإنسانية) المشروطة تاريخياً ومعرفياً.

وهكذا فإنه لا ينبغى التمويه بحقيقة صدور القرآن عن مشكاة العلم الإلهى غير المحدود، وهى الحقيقة التى لا يمكن أن تكون موضوعاً للشك أبداً، على حقيقة أن ما يصدر عنه من معرفة تبقي، هى نفسها، من قبيل المعرفة الإنسانية التى يستحيل استيعابها خارج إطار التحديدات - بل وحتى الإكراهات - الزمانية والمكانية. ولسوء الحظ، فإن ثمة من يقوم بهذا التمويه، فيضيف ما يتميز به القرآن (بما هو أحد تجليات العلم الإلهى غير المحدود) من الثبات والكمال والقدرة على تجاوز تحديدات الزمان والمكان إلى ما نشأ وتخلَّق حوله من منظومات أنتجها الفهم الإنسانى على النحو الذى يجعل تلك المنظومات الإنسانية فى جوهرها، تكتسب - أو تكاد - كل سمات العلم الإلهى من الثبات والاكتمال وعدم القابلية للتجاوز أبداً. وغنيٌّ عن البيان أن الأمر - ضمن هذا السياق - لا يتجاوز حدود السعى إلى تأبيد تلك المنظومات - وذلك عبر فك روابطها مع تاريخها والتعالى بها إلى فضاء تكتسب فيه حصانة ضد التفكير والمساءلة - للتغطية بها على أنظمة سياسية وأوضاعٍ اجتماعية تريد أن تحقق لنفسها دوام الحضور وثبات الهيمنة.

وكنموذجٍ حديث لهذا النوع من المنظومات المعرفية التى يدَّعى لها أصحابها استنفادها للقرآن على النحو الذى يتعالى بها إلى مقام المنظومة المقدسة، فإنه يمكن الإشارة إلى الإنجاز الذى قدمه الأب المؤسس للحركات الجهادية المعاصرة، الذى هو (سيد قطب). فنصوص الرجل قاطعةً بأن ما يطرحه مما يقول أنه (التصور الإسلامي) ليس نتاجاً لقراءته أو تفسيره الخاص للقرآن، بقدر ما هو التصور (ذاته) الذى جاء به القرآن، وهو يقدم نفسه من خلال الرجل (أى قطب).
فالرجل - فى كتابه (خصائص التصور الإسلامي) - يقرر صريحاً وحاسماً "إنما نحن نحاول تقرير حقائق التصور الإسلامى فى ذاتها كما جاء بها القرآن كاملة شاملة متناسقة".
وهو - فضلاً عن ذلك - يرى أن "من الخطأ المنهجى الأصيل محاولة استعارة أى ميزان، أو منهج من مناهج التفكير المتداولة فى الأرض - فى عالم البشر - للتعامل بها مع هذا التصور الخاص المستقل الأصيل، أو الاقتباس منها والإضافة إلى ذلك التصور الربانى الكامل الشامل الذى جاء به القرآن". وإذن فإنه ليس التصور فقط، بل وكذا منهج التعامل معه، هو من قبيل ما لا ينتمى إلى عالم البشر، وبما يعنيه ذلك من أن قطب يعتبر أن كل ما يقدمه هو التصور الربانى والمنهج الربانى كما جاء بهما القرآن.

وبالطبع فإنه لن يكون غريباً أن الجماعات التى تبنت أو تناسلت من خطاب قطب (وأعنى جماعة الإخوان المسلمين وذريتها من الجماعات الجهادية التى تنمو كالفطريات على جسدها المترهل) قد تعالت بنفسها إلى مقام الجماعات الربانية، بسبب ما يعتقد فيه المنتسبون إليها من سعيها إلى تحقيق ما يقول قطب أنه "التصور الرباني" الذى جاء به القرآن. وبالطبع فإن كون التصور "ربانيا" لا يجعل أمام الواقع من سبيلٍ فى التعامل معه إلا لمجرد التلقى والخضوع. فإن الحركة بين هذا التصور من جهة، وبين الواقع من جهة أخري، تمضى فى اتجاهٍ واحد فقط، وأعنى من التصور إلى الواقع فقط.
 وإذ يعجز هذا التصور الربانى المثالى عن استيعاب حركة الواقع المعقدة، فإنه لا يكون أمام حاملى هذا التصور إلا هجاء الواقع والسعى إلى إدخاله، على نحوٍ قسري، ضمن تحديدات هذا التصور، وعلى النحو الذى يدفع بهم إلى تكفيره والخروج عليه. وهكذا تكون النهاية القصوى لذلك الضرب من المعرفة الذى يدعَّى لنفسه استنفاد القرآن - وبما يترتب على ذلك من التعالى بنفسه إلى مقام المعرفة المقدسة - هى الدخول فى مواجهات عنيفة مع الدولة والمجتمع فى آنٍ معاً. ولعل ومن نافلة القول، التأكيد أن هذا التصور القطبى إنما يتسق مع تأكيد - تلميذه ودارسه الأكبر الباحث الأردنى (صلاح الخالدي) - على انحياز قطب للمعتقد السلفي - الحنبلي، الذى يعرف الكافة أنه يقوم على تصور الوجود الأزلى القديم للقرآن، لا بما هو المعنى القديم القائم بذات الله، بل بما هو الحروف المنطوقة والأصوات المسموعة.

 ويرتبط ذلك بأنه إذا كان الوجود القديم للقرآن بما هو المعنى القديم القائم بذات الله يفتح الباب أمام (مناهج التفكير المتداولة فى عالم البشر) للاشتغال بما يتيح اقتناص هذا المعنى من الألفاظ التى تتضمنه، والتى ليست قديمة مثله، فإن تصور الوجود الأزلى القديم للقرآن، بما هو ألفاظٌ وأصوات على طريقة الحنابلة، يعنى أن المعنى ظاهرٌ فى الألفاظ من دون أدنى حاجةٍ إلى مناهج من تفكير البشر وتأويلاتهم. ومن هنا ما يقرره قطب - فى الظلال - من عدم الميل "إلى المنهج الذى تتخذه مدرسة الإمام محمد عبده فى التفسير، من محاولة تأويل كل أمرٍ غيبى تأويلاً معيناً ينفى الحركة الحسية عن هذه العوالم". 

والحق أن الفرق بين الرجلين هو فرقٌ بين من يستوعب معطيات الواقع فى فهمه للقرآن (وأعنى محمد عبده بخلفيته الإصلاحية)، وبين من لا يرى لمطيات الواقع أى دورٍ فى فهم القرآن، الذى يحضر فيه المعنى مكتملاً، والذى لا يكون للمرء من دورٍ فيه إلا أن يهيئ نفسه لتلقى هذا المعنى المكتمل الجاهز عبر فصل نفسه عن كل ما هو دنيوى وبشري. ولعل الاقتناع بهذه الربانية المُفترضة للجماعة وقادتها هو ما يفسر السلوك الهائج العنيف لفيالق المنتسبين إليها، الذين يتصورون أنفسهم، بما يفعلون فى ميادين وشوارع القاهرة، من المجاهدين المدافعين عن رسالةٍ "ربانية" ولا يخطر ببالهم أنهم مجرد قطعٍ يجرى تحريكها فى ساحات معركة "سياسية". 


تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 8 / أغسطــــــــــــــس / 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق