الخميس، نوفمبر 17، 2011

الحـدود هـي الحــــــــــــل





إذا كانت نظرة علي المشهد المصري الراهن تكشف للمراقب عن أن السعي إلي إدخال الدين‏(‏ أو الإسلام في الغالب‏)‏ إلي المجال العام‏,‏ يتحقق تحت ثلاثة عناوين عريضة هي‏;‏ 
*الدين كمرجعية للدولة أو الحزب‏,
* وتطبيق الشريعة أو جعل الدولة تطابق الأحكام الشرعية علي قول أحدهم,
* وأخيرا إنفاذ الحدود وتطبيقها,
فإن قراءة للكيفية التي تجري بها مقاربة تلك الدعاوي الثلاث من جانب الداعين لها تبين عن ضروب من الفقر المعرفي الذي يجعل منها جميعاً عنواناً علي مشكلة, بدلاً أن تكون حلاً - أو حتي جزءا من هذا الحل- لها.
 لكنه يبقي أن بؤس الدعوة الأخيرة إلي إنفاذ الحدود وتطبيقها, كسبيل لإخراج مصر من مأزقها, يتجاوز ما تنطوي عليه تلك الدعوة من فقر معرفي- يتجلي زاعقاً في إختزالها للإسلام في مجرد المنظومة العقابية التي جري ربطه بها- إلي ما تقوم عليه من تصور أكثر فقرا لطبيعة المأزق المصري الراهن, والسبيل إلي الخروج منه.
فحين لا يجد البعض حلاً لأزمة جماعة ما إلا في تفعيل منظومة عقاب, فإن ذلك يكشف عن تصور كامن لغلبة الطابع الإجرامي علي تلك الجماعة; وعلي النحو الذي يعني أن لا سبيل إلي صلاحها إلا بالعقاب.
 وهكذا فإن مصر ليست- بحسب حاملي هذا التصور- إلا أشتاتاً من جماعات مجرمة, لا صلاح لها إلا بما تقدمه السماء من العقاب الفعال الزاجر.
 وإذا كانت خلاصة هذا التصور هي:
 إن الشعب المصري في حاجة إلي الزجر, فإن ذلك لا يعني إلا أنه السعي- من جديد- إلي إعادة إنتاج نظام مبارك الذي تنقل عنه السيدة كوندوليزا رايس قوله لها في لقاء خاص:
 إن شعبي يحتاج إلي يد قوية.
وإذ لا خلاف بين الزجر بقوة اليد وبين الزجر بسلطة الحد, فإنه ليس من فارق بين مبارك, وبين أولئك الساعين إلي وراثته من دعاة الحدود, إلا من حيث ما يبدو من إن الياء في كلمة شعبي هي ياء إمتلاك مبارك للشعب بالأصالة, وذلك فيما سيتواضع الآخرون ويجعلون أنفسهم ملاكاً للشعب بالوكالة; وأعني كوكلاء عن الله الذي هو المالك الأصيل الذي إنتدبهم للحكم في ملكه.

ولسوء الحظ, فإن الأمر لا يقف عند مجرد هذا الإفتراض الفاسد لجنوح المصريين نحو الجريمة, بل ويتعدي إلي ما يبدو من تعارض تصور الحدود هي الحل, مع منطق الشريعة ذاته; وأعني من حيث ينبني هذا المنطق علي أن إنفاذ حدودها, ينبغي أن يكون مسبوقا ببذل الجهد, أولا, في تحقيق مقاصدها.
وفي كلمة واحدة, فإن إنفاذ العقاب لا يمكن- بحسب منطق الشرع ذاته- أن يكون سبيلا لتحقيق المقاصد, بل إن تحقيق هذه الأخيرة يبقي هو شرط إنفاذ العقاب. 

ولعل ذلك ما جعل من هو في وزن عمر يعلق إنفاذ الحدود, حين يتأكد من عدم تحقق ما تقصد إليه الشريعة من رفع حالة الإكراه والضرورة التي يزول معها عن الناس الحرج, فيكون مسموحا لهم بخرق قواعد الضبط والسلوك القويم. وبالطبع فإن رفع حالة الإكراه والضرورة عن الناس الذي تقصد إليه الشريعة, لا يعني إلا تحريرهم من كل شروط العوز المادي والعقلي والروحي. وأما من دون تحريرهم من ذلك كله أولا, فإن إنفاذ الحدود لن يكون إلا قناعا لأعتي أشكال الإستبداد وأكثرها قسوة ودموية. وإذا جاز التمثيل, فإن عربة الحدود مشدودة إلي حصان المقاصد, ولا يمكن أن تأتي العربة, أبدا, في وضع تكون فيه سابقة علي الحصان.
ولعل الأمر لا يقف عند حد عدم الوعي بمكانة الحدود في بناء نظرية الشريعة, بل ويتجاوز إلي عدم الوعي بطبيعة الحدود كنظام للعقاب يخضع للديناميات الإجتماعية.
 وهكذا فإنه, وحتي فيما يخص الحدود الثابتة بنص القرآن( وهي ثلاثة من سبعة حدود), فإن الفقهاء قد توسعوا في تفصيل الشروط التي لابد من توافرها لإنفاذ الحدود, وأكثروا الموانع التي تحول دون هذا الإنفاذ, وأفاضوا في درئها بالشبهات;
 حتي لقد قال عمر: لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات.
 وضمن هذا السياق, فإنه إذا كان ما قيل إنها شبهة المحل قد تآدت بالفقهاء إلي أنه لا قطع( لليد) علي من سرق من بيت مال المسلمين, ولا علي الشريك إذا سرق من مال الشركة..., وأن الإختلاس ليس بسرقة, فإن ذلك يعني أنه لا عقاب- بحسب هذا الفهم- علي نهب المال العام; والذي هو المظهر الأهم لما تعانيه المجتمعات المعاصرة من الفساد الذي آل إلي خراب البلاد والعباد. وغني عن البيان أن عدم شمول هذه الأفعال بالعقاب, إنما يعني أنها ليست معدودة من الجرائم التي تعاقب عليها الشريعة بالحدود.
إن ذلك يعني أن دعاة تطبيق الحدود, الساعين إلي وراثة مبارك, سوف يعيدون إنتاج نظامه البائس, وبنفس جناحيه اللذين أسقطاه تقريبا; وأعني بهما الإستبداد( حيث لن يترك الشعب, مع مالكيه الجدد, وضعيته كمجرد مملوك لا رأي له; ومع ملاحظة أن ملكيتهم له سوف تكون مؤبدة, لأنهم يمارسونها بالوكالة عن الله) والفساد( حيث لا عقاب علي إنتهاب المال العام, لأنه غير معدود من الجرائم التي تعاقب عليها الشريعة).
ولعل ذلك يعني أن منظومة الحدود, علي حالها المتوارث, ستئول- وللمفارقة- إلي تكريس ما تتخبط فيه مصر من فساد هو, وقرينه الإستبداد, الأصل في كل مأزقها الراهن, وذلك بدل أن تكون مخرجا منه. والحق أن إستدعاء تلك المنظومة للإشتغال في غير السياق الذي تبلورت فيه, يستلزم إعادة التفكير فيها, بما يجعلها تتجاوب مع ما عرفته المجتمعات المعاصرة من تعقد أشكال الجريمة من جهة, وتطور مؤسسات العقاب, من جهة أخري. ولكن ذلك ما لا يقدر علي التفكير فيه, أولئك الداعون إلي إستدعائها كحل جاهز للمأزق الحاضر. ولعله يلزم التأكيد, هنا, علي أن الأزمة لا تكمن أبدا في تلك المنظومات القديمة التي تكشف قراءتها عن تجاوبها- علي نحو مدهش- مع شروط المجتمعات التي إشتغلت فيها, بقدر ما تقوم في وعي بليد لا يعرف أصحابه إلا مجرد السعي إلي فرضها, جاهزة, علي الحاضر.
والحق أن ما تسجله مصادر أهل السنة المعتبرة- مثل فتح الباري لإبن حجر, والإتقان في علوم القرآن للسيوطي وغيرهما- من إرتباك الصحابة أنفسهم حول بعض الحدود( ومنها حد الرجم بالذات) لمما يؤكد ضرورة إعادة التفكير في باب الحدود بأسره. فقد أورد إبن حجر- في فتح الباري- أتي علي( بن أبي طالب) بإمرأة فجرت( من الفجور), وفي لفظ وهي حبلي فضربها مائة ثم رجمها, وفي رواية أخري, أنه أمر بها, فحبست, فلما وضعت أخرجها يوم الخميس فجلدها مائة, ثم ردها إلي الحبس, فلما كان يوم الجمعة حفر لها ورجمها. وفي تفسير إنفاذه لحدي الجلد والرجم معا,
 فإن إبن حجر يورد قوله:
 أجلدها بالقرآن وأرجمها بالسنة; وبما يعنيه ذلك من رده الرجم إلي السنة, وليس إلي القرآن.
 وبالطبع فإن جمعه بين الحدين, في الفعلة الواحدة, يكشف عن أن( الرجم المردود إلي السنة) لا ينسخ( الجلد الثابت بالقرآن); حيث السنة لا تكون ناسخة للقرآن. وبالرغم من أن هذا الجمع يضعه خارج إجماع الجمهور علي أنه لا يجمع بين الحدين, فإنه يبقي أنه لم يقع في ورطة رد( الرجم) إلي القرآن; الأمر الذي ساعده علي تجنب الإرباكات التي تعرض لها من ردوه إلي ما قيل إنه القرآن المنسوخة تلاوته.
فقد روي البخاري عن إبن عباس قال:
 سمعت عمر وهو علي منبر رسول الله يخطب ويقول:
 إن الله بعث محمداً بالحق, وأنزل عليه الكتاب, وكان مما أنزل عليه آية الرجم, فقرأناها ووعيناها, ورجم رسول الله ورجمنا بعده, وأخشي إن طال بالناس زمن أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله, فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله في كتابه, فإن الرجم في كتاب الله حق علي من زني إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان حملا أو الاعتراف. وأيم الله لولا أن يقول الناس زاد( عمر) في كتاب الله لكتبتها. وإذ يقطع عمر, هكذا, بأن آية الرجم الشيخ والشيخة إذا زنيا فإرجموهما ألبتة قد نزلت في كتاب الله, ولكنها مع ذلك غير موجودة في كتاب الله, فإنه يفتح الباب أمام معضلة أعتي من تلك التي جابهت علي حين رد الرجم إلي السنة, وجمع بين الحدين.

 فإذ وجدت المصادر نفسها في مواجهة معضلة تفسير عدم وجود آية الرجم في كتاب الله, فإنها قد إضطرت إلي إيراد ما يبدو عصيا علي الإستيعاب حقا.

 فقد أورد صاحب فتح الباري عن النسائي أن مروان بن الحكم قال لزيد بن ثابت: ألا تكتبها في المصحف؟
 قال( زيد):
 لا..ألا تري أن الشابين الثيبين يرجمان؟
( يعني أن الآية تقصر الرجم علي الشيخ والشيخة, وذلك فيما يرجم الشاب والشابة, أيضا, إذا كانا محصنين بالزواج). 
وتواصل الرواية( التي تأبي إلا أن تستحضر عمر في كل ما يتعلق بتلك الآية) فقال عمر:
أنا أكفيكم( أي هذه الآية),
 فقال:
 يا رسول الله إكتب لي آية الرجم
( أي إئذن لي في كتابتها علي قول السيوطي في الإتقان),
 قال( أي الرسول):
 لا أستطيع( وفي رواية الإتقان أنه قال: لا تستطيع).
وبصرف النظر عما إذا كان ممكنا لزيد بن ثابت( وهو كاتب الوحي) أن يرفض كتابة الآية, أو ألا يأذن الرسول لعمر بكتابتها,
 فإن للمرء أن يتساءل
:
 هل يمكن للضمير المسلم أن يقبل هذا الثمن الباهظ مقابل الإبقاء علي حد الرجم؟

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 17 / نوفمبر /2011

الجمعة، نوفمبر 04، 2011

في ذكري طه حسين‏..‏ مصر بين رمزيتي البحر والصحراء



ثمة صورة شائعة للماضي حين يصبح مستقبلا تتبدي‏,‏ جلية‏,‏ في سعي البعض إلي جعل المستقبل علي صورة الماضي الذي يحتفظ له بصورة زاهية‏,‏ علي النحو الذي يجعل منه مركزاً لكل حركته في الزمان‏.
وضمه هذا السياق, فإن المستقبل يكون في قبضة الماضي, وتحت سطوة توجيهه علي نحو كامل... وإذا جاز التمثيل لهذه الصورة, فإنه يمكن الإشارة إلي المسعي السلفي الراهن لصوغ مستقبل مصر علي صورة ما يري فيه المخيال السلفي ماضيا زاهرا ينبغي أن يكون المستقبل ساحة لإعادة إنتاجه. وحين يدرك المرء أن الصحراء هي مركز هذا المتخيل السلفي, فإن ذلك يعني أنه السعي لصوغ المستقبل المصري بحسب رمزية الصحراء.

ولكن ثمة صورة أخري للماضي حين يصبح مستقبلا تتبدي, في المقابل, في السعي إلي إعادة توجيه الماضي وصوغه علي نحو يلائم تركيب صورة بعينها للمستقبل. هنا يكون الماضي هو الواقع في قبضة المستقبل علي نحو كامل. يصبح الماضي - ضمن هذا السياق - موضوعا لضروب من الإجتزاء والإنتقاء بما يسمح بإعادة إنتاجه علي صورة المستقبل ومقاسه... فإن آليات الإجتزاء والإنتقاء تسمح بضروب من الحذف والنبذ من جهة, والتثبيت والحفظ من جهة أخري; وبحيث يجري مركزة لحظة ما, وتهميش ما عداها, رغم أن ما يجري تهميشه قد يكون هو الأكثر حضورا وإستمرارية, في الثقافة, من هذا الذي يجري تثبيته كمركز كلي الحضور.
 ولعله يمكن التمثيل لتلك الصورة بما فعله طه حسين حين راح يصوغ الماضي المصري علي النحو الذي يلائم تصوره لمستقبلها كجزء من حوض البحر الأبيض. ولعله يمكن القول أن رمزية البحر هي التي تستوعب مستقبل مصر كما تصوره طه حسين, وذلك في مقابل رمزية الصحراء التي تصطخب- زاعقة- علي سطح حاضرها الراهن.
فإنه إذا جاز أن مستقبل الأمس هو حاضر اليوم وماضي الغد, فإنه يجوز القول أن حاضر مصر الراهن لابد أن يكون كله- أو علي الأقل بعضه - تحقيقاً لما إرتآه طه حسين مستقبلا لها بالأمس, وسوف يكون- بالطبع - ماضياً من منظور الأجيال التي يتمني لها الجميع أن تري مصر أخري; وأعني غير مصر الكائنة اليوم, وغير تلك التي كانت- أيضا - بالأمس.
 ومع وجوب الإقرار بأن المستقبل يبقي لحظة متحركة مفتوحة, وغير قابلة للإستنفاد أبدا; وبمعني أنه يبقي ساحة مفتوحة - من الناحية النظرية - لإمكان تحقق كل ما يراه النظر ممكناً,
 فإنه يبقي السؤال عما إذا كان حاضر مصر الراهن يمثل تحققا لما رأي فيه طه حسين مستقبلا لها قبل حوالي ثلاثة أرباع القرن, أم أنه يمثل تحققا لما يكاد أن يكون مغايرا له بالكلية؟

يقتضي الجواب علي السؤال ضرباً من المقارنة بين ما رآه طه حسين بالأمس, حاضرا لمصر شاخصاً في تلك اللحظة التي كتب فيها مستقبل الثقافة في مصر قبل ثلاثة أرباع القرن, وما سيكون مستقبلا لها بعد ذلك, وبين ما هي عليه الآن, فعلا, في واقعها الراهن.
 يكتب طه حسين عن مصر; التي كانت تحتفي بترتيب علاقتها مع الإنجليز إثر توقيع معاهدة1936, إن حياتها المادية أوروبية خالصة في الطبقات الراقية. وهي في الطبقات الأخري تختلف قربا وبعدا من الحياة الأوروبية بإختلاف قدرة الأفراد والجماعات, وحظوظهم من الثروة وسعة ذات اليد.
 ومعني هذا أن المثل الأعلي للمصري في حياته المادية إنما هو المثل الأعلي للأوروبي في حياته المادية....., وحياتها المعنوية علي إختلاف مظاهرها وألوانها أوروبية خالصة. فنظام الحكم فيها أوروبي خالص( والغريب أنه جعل الحكم المطلق أو الإستبداد فيها أوروبياً أيضاً, وليس من أصول شرقية... فالذين أرادوا أن يستبدوا بأمور مصر في العصر الحديث كانوا- علي قوله - يذهبون مذهب لويس الرابع عشر وأشباهه أكثر مما كانوا يذهبون مذهب السلطان عبدالحميد وأمثاله.
ومن هنا ما يستنتجه من أنه لا ينبغي أن يفهم المصري أن الكلمة التي قالها الخديوي إسماعيل, وجعل بها مصر جزءا من أوروبا, قد كانت فناً من فنون المدح, أو لوناً من ألوان المفاخرة. وإنما كانت مصر دائماً جزءاً من أوروبا, في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية, علي إختلاف فروعها وألوانها.
 وبالطبع, فإنه كان لابد أن يترتب علي ذلك أن يكون مستقبل مصر أوروبيا بدوره. هكذا كان حاضر مصر ومستقبلها بحسب ما رآه طه حسين في ثلاثينيات القرن الماضي, 
فكيف إنتهي الأمر بعد مضي ثلاثة أرباع القرن؟
لعل نظرة علي ما آلت إليه العقود السبعة الماضية, منذ أن قال طه كلمته, تكشف عن أن مصر قد غادرت البحر الذي جعل طه يقول بأوروبية حاضرها ومستقبلها - وكذلك ماضيها - لوقوعها فيه, إلي الصحراء التي راحت تشدها إليها الفيالق المحتجة الغاضبة من أحفاد طه, بعد أن أخلفت دولة الحداثة العربية المتأوربة وعودها معهم; وأعني من حيث لم يجدوا ما يردون به موجات البحر المنفلتة الصادمة إلا سدودا تبنيها رمال الصحراء. لكنهم- ولسوء الحظ - كانوا يجرون مصر إلي ما بعد صحراء شبه الجزيرة الوهابية; وأعني إلي صحراوات أسيا الوسطي الطالبانية المقفرة, والتي كانت - علي مدي التاريخ - خزانا لقبائل محاربة لم تفارق حال البداوة, وإحترفت مجرد الغزو وتدمير الحضارة.
 وبالرغم من أن هذه الموجة من الإنجرار نحو الصحراء قد راحت تخفي نفسها وراء يافطة الإسلام- الذي كان عليه أن يصبح- وربما مع وفاة طه حسين عند مطالع سبعينيات القرن المنصرم- ستاراً لعملية إفقار وتصحر طال مصر( فكرا وتدينا وعاطفة وسلوكا وملبسا) - فإنه يلزم التأكيد علي أن الإسلام الذي كان يجري إستدعاءه, كان إسلاما فقيرا ومتصحرا بدوره.

إن ذلك يعني أن إسلام النهر الذي عرفته مصر- والذي يجد التعبير الأرقي عنه في عمل الأستاذ الإمام محمد عبده- كان يفقد روحه وينجر إلي قفار الصحراء أيضا. كان الناس- في كلمة واحدة- قد فقدوا الثقة في كل ما يرميهم به البحر, فراحوا ينشدون الخلاص في الصحراء التي كانت تخايلهم بيقين الوفرة المالية التي أتاحها تدفق النفط, والتدين الشكلاني البسيط. ولقد كان من الطبيعي أن يربط الوعي بين الوفرة التي فاضت علي الصحراء, وبين ما تعرفه من نمط التدين البسيط; مما زاد من الحضور الطاغي للصحراء كمثل أعلي, بإعتبار أن الوفرة علامة علي الصحة المطلقة لهذا النمط من التدين, تماما بمثل ما إن تبني هذا النمط ذاته هو السبب في تلك الوفرة.
 من هنا كان لابد أن تنبثق الصحراء كبديل مثالي للبحر الذي لم تتبين فيه فيالق المصريين المحتجة إلا كل ما يتهددها بالغرق والضياع, وأن تبدأ مصر سيرورة إنجرارها إلي تلك الصحراء; تفكيرا وتدينا وعاطفة وسلوكا وملبسا.
وهنا يلزم التنويه بأن هذا التوتر بين البحر والصحراء إنما يسكن مصر منذ مبدأ نهضتها; وأعني مع رائدها الكبير- رفاعة الطهطاوي- الذي تكشف مسيرته, التي إبتدأها من تلخيص باريس, وأنهاها بنهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز, عن الحضور الضاغط لهذا التوتر منذ البدء. وعلي أي الأحوال, فإنه يبقي السؤال: لماذا أخلف المستقبل الذي تصوره طه وعده, وإنتهت مصر- في حاضرها الراهن- إلي ما يبدو مغايرا له بالكلية؟
لعله يبدو لازما وجوب التأكيد, أولا, علي أن قابلية تحقق ما يجري تصوره كمستقبل تبقي مشروطة بأن يكون ممكنا حقيقيا, وليس زائفا. وهو يكون حقيقيا حين يكون كامنا في الواقع, وليس مفروضا عليه من خارجه. وهكذا يكون المستقبل حقيقيا إذا كان كامنا في الحاضر كأحد ممكناته; التي لا تكون تكون منبتة الصلة بالماضي أبدا. إن ذلك يعني أن المستقبل لا ينبغي أن يكون مفروضا علي الحاضر, أو حتي علي الماضي, بل يلزم أن يكون نابعا منهما, وفي علاقة جوهرية معهما. 

ولسوء الحظ فإن طه حسين قد أشاد تصوره لمستقبل مصر, قبل ثلاثة أرباع القرن, علي بناء لماضيها- وحتي حاضرها- غابت عنه اللحظة الأكثر مركزية في تركيب عقل مصر وثقافتها; وأعني بها اللحظة الإسلامية.
 فالرجل يصرح بجلاء لا أحب أن نفكر في مستقبل الثقافة في مصر إلا علي ضوء ماضيها البعيد( حيث البحر يربطها بأوروبا القديمة; يونان ولاتين), وحاضرها القريب( الذي أعاد فيه البحر إتصالها بأوروبا الحديثة). وأما ما بينهما من اللحظة الإسلامية التي تركت بصمتها الغائرة علي عقل مصر وثقافتها, فإنها كانت لحظة منسية غائبة.
 وبالطبع فإن نسيانها وإنكارها لا يعني أبدا إلغاءها أو حتي تحييدها...
 ومن هنا ما يشهده الكافة من إنفجارها; علي النحو الذي يستدعي جعلها موضوعا لدرس يؤول إلي إستيعابها, بما يسمح بالبناء فوقها.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 3 / نوفمبر / 2011