الجمعة، نوفمبر 04، 2011

في ذكري طه حسين‏..‏ مصر بين رمزيتي البحر والصحراء



ثمة صورة شائعة للماضي حين يصبح مستقبلا تتبدي‏,‏ جلية‏,‏ في سعي البعض إلي جعل المستقبل علي صورة الماضي الذي يحتفظ له بصورة زاهية‏,‏ علي النحو الذي يجعل منه مركزاً لكل حركته في الزمان‏.
وضمه هذا السياق, فإن المستقبل يكون في قبضة الماضي, وتحت سطوة توجيهه علي نحو كامل... وإذا جاز التمثيل لهذه الصورة, فإنه يمكن الإشارة إلي المسعي السلفي الراهن لصوغ مستقبل مصر علي صورة ما يري فيه المخيال السلفي ماضيا زاهرا ينبغي أن يكون المستقبل ساحة لإعادة إنتاجه. وحين يدرك المرء أن الصحراء هي مركز هذا المتخيل السلفي, فإن ذلك يعني أنه السعي لصوغ المستقبل المصري بحسب رمزية الصحراء.

ولكن ثمة صورة أخري للماضي حين يصبح مستقبلا تتبدي, في المقابل, في السعي إلي إعادة توجيه الماضي وصوغه علي نحو يلائم تركيب صورة بعينها للمستقبل. هنا يكون الماضي هو الواقع في قبضة المستقبل علي نحو كامل. يصبح الماضي - ضمن هذا السياق - موضوعا لضروب من الإجتزاء والإنتقاء بما يسمح بإعادة إنتاجه علي صورة المستقبل ومقاسه... فإن آليات الإجتزاء والإنتقاء تسمح بضروب من الحذف والنبذ من جهة, والتثبيت والحفظ من جهة أخري; وبحيث يجري مركزة لحظة ما, وتهميش ما عداها, رغم أن ما يجري تهميشه قد يكون هو الأكثر حضورا وإستمرارية, في الثقافة, من هذا الذي يجري تثبيته كمركز كلي الحضور.
 ولعله يمكن التمثيل لتلك الصورة بما فعله طه حسين حين راح يصوغ الماضي المصري علي النحو الذي يلائم تصوره لمستقبلها كجزء من حوض البحر الأبيض. ولعله يمكن القول أن رمزية البحر هي التي تستوعب مستقبل مصر كما تصوره طه حسين, وذلك في مقابل رمزية الصحراء التي تصطخب- زاعقة- علي سطح حاضرها الراهن.
فإنه إذا جاز أن مستقبل الأمس هو حاضر اليوم وماضي الغد, فإنه يجوز القول أن حاضر مصر الراهن لابد أن يكون كله- أو علي الأقل بعضه - تحقيقاً لما إرتآه طه حسين مستقبلا لها بالأمس, وسوف يكون- بالطبع - ماضياً من منظور الأجيال التي يتمني لها الجميع أن تري مصر أخري; وأعني غير مصر الكائنة اليوم, وغير تلك التي كانت- أيضا - بالأمس.
 ومع وجوب الإقرار بأن المستقبل يبقي لحظة متحركة مفتوحة, وغير قابلة للإستنفاد أبدا; وبمعني أنه يبقي ساحة مفتوحة - من الناحية النظرية - لإمكان تحقق كل ما يراه النظر ممكناً,
 فإنه يبقي السؤال عما إذا كان حاضر مصر الراهن يمثل تحققا لما رأي فيه طه حسين مستقبلا لها قبل حوالي ثلاثة أرباع القرن, أم أنه يمثل تحققا لما يكاد أن يكون مغايرا له بالكلية؟

يقتضي الجواب علي السؤال ضرباً من المقارنة بين ما رآه طه حسين بالأمس, حاضرا لمصر شاخصاً في تلك اللحظة التي كتب فيها مستقبل الثقافة في مصر قبل ثلاثة أرباع القرن, وما سيكون مستقبلا لها بعد ذلك, وبين ما هي عليه الآن, فعلا, في واقعها الراهن.
 يكتب طه حسين عن مصر; التي كانت تحتفي بترتيب علاقتها مع الإنجليز إثر توقيع معاهدة1936, إن حياتها المادية أوروبية خالصة في الطبقات الراقية. وهي في الطبقات الأخري تختلف قربا وبعدا من الحياة الأوروبية بإختلاف قدرة الأفراد والجماعات, وحظوظهم من الثروة وسعة ذات اليد.
 ومعني هذا أن المثل الأعلي للمصري في حياته المادية إنما هو المثل الأعلي للأوروبي في حياته المادية....., وحياتها المعنوية علي إختلاف مظاهرها وألوانها أوروبية خالصة. فنظام الحكم فيها أوروبي خالص( والغريب أنه جعل الحكم المطلق أو الإستبداد فيها أوروبياً أيضاً, وليس من أصول شرقية... فالذين أرادوا أن يستبدوا بأمور مصر في العصر الحديث كانوا- علي قوله - يذهبون مذهب لويس الرابع عشر وأشباهه أكثر مما كانوا يذهبون مذهب السلطان عبدالحميد وأمثاله.
ومن هنا ما يستنتجه من أنه لا ينبغي أن يفهم المصري أن الكلمة التي قالها الخديوي إسماعيل, وجعل بها مصر جزءا من أوروبا, قد كانت فناً من فنون المدح, أو لوناً من ألوان المفاخرة. وإنما كانت مصر دائماً جزءاً من أوروبا, في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية, علي إختلاف فروعها وألوانها.
 وبالطبع, فإنه كان لابد أن يترتب علي ذلك أن يكون مستقبل مصر أوروبيا بدوره. هكذا كان حاضر مصر ومستقبلها بحسب ما رآه طه حسين في ثلاثينيات القرن الماضي, 
فكيف إنتهي الأمر بعد مضي ثلاثة أرباع القرن؟
لعل نظرة علي ما آلت إليه العقود السبعة الماضية, منذ أن قال طه كلمته, تكشف عن أن مصر قد غادرت البحر الذي جعل طه يقول بأوروبية حاضرها ومستقبلها - وكذلك ماضيها - لوقوعها فيه, إلي الصحراء التي راحت تشدها إليها الفيالق المحتجة الغاضبة من أحفاد طه, بعد أن أخلفت دولة الحداثة العربية المتأوربة وعودها معهم; وأعني من حيث لم يجدوا ما يردون به موجات البحر المنفلتة الصادمة إلا سدودا تبنيها رمال الصحراء. لكنهم- ولسوء الحظ - كانوا يجرون مصر إلي ما بعد صحراء شبه الجزيرة الوهابية; وأعني إلي صحراوات أسيا الوسطي الطالبانية المقفرة, والتي كانت - علي مدي التاريخ - خزانا لقبائل محاربة لم تفارق حال البداوة, وإحترفت مجرد الغزو وتدمير الحضارة.
 وبالرغم من أن هذه الموجة من الإنجرار نحو الصحراء قد راحت تخفي نفسها وراء يافطة الإسلام- الذي كان عليه أن يصبح- وربما مع وفاة طه حسين عند مطالع سبعينيات القرن المنصرم- ستاراً لعملية إفقار وتصحر طال مصر( فكرا وتدينا وعاطفة وسلوكا وملبسا) - فإنه يلزم التأكيد علي أن الإسلام الذي كان يجري إستدعاءه, كان إسلاما فقيرا ومتصحرا بدوره.

إن ذلك يعني أن إسلام النهر الذي عرفته مصر- والذي يجد التعبير الأرقي عنه في عمل الأستاذ الإمام محمد عبده- كان يفقد روحه وينجر إلي قفار الصحراء أيضا. كان الناس- في كلمة واحدة- قد فقدوا الثقة في كل ما يرميهم به البحر, فراحوا ينشدون الخلاص في الصحراء التي كانت تخايلهم بيقين الوفرة المالية التي أتاحها تدفق النفط, والتدين الشكلاني البسيط. ولقد كان من الطبيعي أن يربط الوعي بين الوفرة التي فاضت علي الصحراء, وبين ما تعرفه من نمط التدين البسيط; مما زاد من الحضور الطاغي للصحراء كمثل أعلي, بإعتبار أن الوفرة علامة علي الصحة المطلقة لهذا النمط من التدين, تماما بمثل ما إن تبني هذا النمط ذاته هو السبب في تلك الوفرة.
 من هنا كان لابد أن تنبثق الصحراء كبديل مثالي للبحر الذي لم تتبين فيه فيالق المصريين المحتجة إلا كل ما يتهددها بالغرق والضياع, وأن تبدأ مصر سيرورة إنجرارها إلي تلك الصحراء; تفكيرا وتدينا وعاطفة وسلوكا وملبسا.
وهنا يلزم التنويه بأن هذا التوتر بين البحر والصحراء إنما يسكن مصر منذ مبدأ نهضتها; وأعني مع رائدها الكبير- رفاعة الطهطاوي- الذي تكشف مسيرته, التي إبتدأها من تلخيص باريس, وأنهاها بنهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز, عن الحضور الضاغط لهذا التوتر منذ البدء. وعلي أي الأحوال, فإنه يبقي السؤال: لماذا أخلف المستقبل الذي تصوره طه وعده, وإنتهت مصر- في حاضرها الراهن- إلي ما يبدو مغايرا له بالكلية؟
لعله يبدو لازما وجوب التأكيد, أولا, علي أن قابلية تحقق ما يجري تصوره كمستقبل تبقي مشروطة بأن يكون ممكنا حقيقيا, وليس زائفا. وهو يكون حقيقيا حين يكون كامنا في الواقع, وليس مفروضا عليه من خارجه. وهكذا يكون المستقبل حقيقيا إذا كان كامنا في الحاضر كأحد ممكناته; التي لا تكون تكون منبتة الصلة بالماضي أبدا. إن ذلك يعني أن المستقبل لا ينبغي أن يكون مفروضا علي الحاضر, أو حتي علي الماضي, بل يلزم أن يكون نابعا منهما, وفي علاقة جوهرية معهما. 

ولسوء الحظ فإن طه حسين قد أشاد تصوره لمستقبل مصر, قبل ثلاثة أرباع القرن, علي بناء لماضيها- وحتي حاضرها- غابت عنه اللحظة الأكثر مركزية في تركيب عقل مصر وثقافتها; وأعني بها اللحظة الإسلامية.
 فالرجل يصرح بجلاء لا أحب أن نفكر في مستقبل الثقافة في مصر إلا علي ضوء ماضيها البعيد( حيث البحر يربطها بأوروبا القديمة; يونان ولاتين), وحاضرها القريب( الذي أعاد فيه البحر إتصالها بأوروبا الحديثة). وأما ما بينهما من اللحظة الإسلامية التي تركت بصمتها الغائرة علي عقل مصر وثقافتها, فإنها كانت لحظة منسية غائبة.
 وبالطبع فإن نسيانها وإنكارها لا يعني أبدا إلغاءها أو حتي تحييدها...
 ومن هنا ما يشهده الكافة من إنفجارها; علي النحو الذي يستدعي جعلها موضوعا لدرس يؤول إلي إستيعابها, بما يسمح بالبناء فوقها.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 3 / نوفمبر / 2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق