لو تصور المرء حواراً
بين من ينسب نفسه إلي المدنية
وبين خصمه الساعي إلي أسلمة الدولة
في مصر هذه الأيام
( وليكن حول قاعدة عدم جواز ولاية غير المسلمين),
فإنه سيجد أن من ينسب نفسه إلي المدنية
لا يعرف ما يرد به علي خصمه
إلا أن جملة دعاواه, ومن بينها دعوي عدم جواز الولاية, لا تتفق مع ما تقوم عليه دولته(المدنية!) من مبدأ عدم التمييز بين البشر علي أساس الدين, أو غيره.
وعندئذ, فإن الساعي إلي أسلمة الدولة سوف يرد علي خصمه المسكين بأنه ليس مشغولا بتعارض دعاواه مع ما تقول به المدنية, مادامت تأتي متفقة مع ما يقول به الدين.
وبحسب ذلك, فإن صاحب خطاب الأسلمة لا يكتفي بإحراج خصمه المسكين عبر هذا الوضع للمدنية في تعارض مع الدين, بل عبر ترسيخه لمقولة أن دعوي عدم جواز ولاية غير المسلمين هي مما يقول به الدين.
ولعله يلزم التنويه, هنا, بأن دعاة الأسلمة يقيمون احتجاجهم علي سائر دعاواهم علي العموم, علي قاعدة أنها من فرائض الدين ولوازمه. فهل هي فعلا هكذا, أم أنها محض قواعد اجتماعية وسياسية راحت تنسب نفسها إلي الدين لتكتسب منه الرسوخ والحصانة وقوة الإلزام؟
وإذا كانت الخطوة الحاسمة في جعل قاعدة ما جزءا من الدين تتمثل في التماس أساس لها من القرآن خاصة, فإنه كان لابد لفعل الالتماس هذا( وهو فعل معرفي بالأساس) أن يكون موضوعا لتحليل يكشف عما فيه من قراءة تعتبر نفسها قرآنا.
ومن هنا ما جري من انشغال المقال السابق بالإلماح إلي الآلية المهيمنة علي قراءة القرآن; علي النحو الذي يؤدي إلي إنتاج دلالة بعينها لخدمة موقف إجتماعي وسياسي معين.
وقد ارتبط هذا الاستهلال بالقصد إلي تحرير القرآن من المسئولية عن قول بعينه في مسألة محددة, لتوضع( هذه المسئولية)
علي كاهل آلية القراءة المهيمنة علي التعامل معه.
فمنذ اللحظة التي يصبح فيها القرآن موضوعا لفعل القراءة( الإنساني بطبيعته), فإنه ليس لأحد أن يقطع بأن القرآن يقول كذا في مسألة ما, بل يتوجب عليه تقرير أن فعله القرائي يوجه القرآن إلي هذا القول في تلك المسألة.
وحين يدرك المرء أن القرآن قد أصبح من لحظة تنزيله موضوعا لقراءة, فإنه يلزم تأكيد أن الكثير مما ينسب للقرآن قوله, إنما هو نتاج فعل قراءته بالأحري.
وهنا فإنه إذا كان فعل القراءة هو فعل بشري, بطبيعته
( وبما يعنيه ذلك من أن ما ستجري نسبته إليه سوف يكون بشريا بدوره)
, فإن نسبة القول إلي القرآن( ذي المصدر الإلهي) في المقابل, إنما تقصد إلي جعله قولاً إلهياً,
وعلي النحو الذي تستحيل معه زحزحة الدلالة المراد تثبيتها به.
وهكذا يفعل كل من يقصدون إلي تثبيت موقف ما(اجتماعي أو سياسي خاصة),
حين يجعلون منه موضوعا لقول إلهي أورده القرآن, متجاهلين أن ما يفعلونه هو فعل قراءة, ولو اكتفوا بمجرد الاقتباس من القرآن.
ولأن ثمة من قد يربط فعل القراءة عنده بأعمال التفسير والتأويل فحسب, فإنه يلزم تأكيد أنه يتجاوز مجرد ذلك; وإلي حد أن مجرد استدعاء آية قرآنية للقطع بها في مسألة ما, ومن دون أن يكون هذا الاستدعاء مصحوباً بأي شروح أو تفسيرات, هو فعل قراءة.
وذلك من حيث يعرف من يستدعي آية من القرآن في موقف بعينه, أن هذه الآية, استنادا إلي نوع المعرفة المستقرة بين الجمهور المتلقي, سوف تنتج الدلالة التي يقصد إلي تثبيتها خاصة. إن ذلك يعني أن إنتاج دلالة القول القرآني بمجرده لا تنفصل عن المعرفة السابقة المتداولة بين الجمهور; وهي معرفة إنسانية بطبيعتها, فضلا عن أنها تكون نتاجا لفعل القراءة.
وهكذا فإن المرء يكون ممارسا للقراءة, حتي وهو لا يفعل إلا أن يستدعي الآية بمجردها من القرآن, مادام ما أنتجته القراءات السابقة سوف يلعب الدور الحاسم في إنتاج دلالتها.
وعلي العموم, فإن القرآن, بمجرد دخوله دائرة الاستخدام الإنساني علي أي نحو من الأنحاء( وأعني كموضوع للتفسير أو الاقتباس), يصبح موضوعا لفعل قراءة; وبما لابد أن يتبع ذلك من أن كل ما ينتج عن هذا الفعل هو من قبيل النتاج البشري.
فهو يدخل, بالقراءة, في بناء تراكيب تنتمي لعالم البشر, ولا يمكن الادعاء, أبدا, بأن هذه التراكيب ذات أصل إلهي.
ولعل الوعي بالطبيعة البشرية لتلك التراكيب, يظهر في حرص علماء المسلمين علي إنهاء قولهم في مسائل الدين, بتعبير والله أعلم; إقرار منهم بالمسافة الفاصلة بين ما يقدمون من اجتهادات محدودة, وبين علم الله اللامحدود.
إن ذلك يعني أن أحداً لا يمكنه الإدعاء بأن ما يقوله, يتطابق مع قول الله أو علمه; حتي لو كان لا يفعل إلا أن يردد آيات القرآن; وأعني أن قوله سيبقي مجرد تركيب بشري لا يطابق مراد الله أو علمه أبدا.
ولعل ما يدعم فكرة أن ما يقوله الناس, منسوبا إلي القرآن, هو قول القراءة
(أعني قراءتهم), وليس قول القرآن, هو ما يكاد يبين للجميع من أنه ليس للقرآن قول واحد في المسألة بعينها, بل إن له أقوالا فيها تتنوع, بحسب تنوع السياق الذي يتم طرحها داخله.
وغني عن البيان أنه حين يحتفظ القرآن, في بنائه, بتلك الأقوال المتنوعة حول تلك المسألة بعينها, فإن رفع دلالة قول منها, وتثبيت التي تخص القول الآخر, لابد أن يكون مردودا إلي فعل القراءة, وليس إلي القرآن.
وهكذا, مثلا, فإنه حين يشتمل القرآن علي قولين مختلفين عن غير المسلمين
( وأعني النصاري خاصة);
أحدهما يحمل دلالة إيجابية,
كقوله تعالي:
ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري...المائدة:82,
والآخر ينطوي علي دلالة سلبية,
كقوله تعالي:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصاري أولياء....المائدة:51,
فإن تثبيت دلالة أحد القولين علي أنها موقف القرآن المطلق والنهائي من النصاري, لا يكون قولاً قرآنياً, بل فعلاً قرائياً.
حيث القرآن حامل للدلالتين(الإيجابية والسلبية) معاً, وفعل القراءة هو الذي يتجه إلي تثبيت إحداهما علي حساب الأخري.
وبالطبع, فإن وجهة الفعل القرائي تتحدد بنوع العلاقة التي تربط المسلمين بالنصاري في وقت تحققه;
وبمعني أنه إذا كانت العلاقة الواقعية بين المسلمين والنصاري هي علاقة عداء وخصام, فإن فعل القراءة سيقصد إلي تثبيت دلالة القول القرآني ذي الطبيعة السلبية, بإعتبار أنها المحددة لموقف القرآن النهائي والمطلق من النصاري.
وأما إذا كانت العلاقة الواقعية بين المسلمين والنصاري علاقة مودة وسلام, فإن فعل القراءة سيمضي- علي العكس- في اتجاه تثبيت دلالة القول القرآني ذي الطبيعة الإيجابية; بما هي الحامل للموقف المطلق من النصاري.
لكنه يبقي لزوم الوعي بالكيفية التي يجري بها هذا التوجيه للدلالة; وهو ما سيكون موضوعاً لمقال مقبل.
تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 20 / سبتمبر /2012
يا دكتور علي مبروك
ردحذفكيفما كان الحال فإنكم وإننا نواجه بالقرآن تسليما لوجه المحمديين واليهود والنصارى والصابئين لمن يصف نفسه بالقهار الجبار المهيمن المسيطر والمتكبر على وعليك وعلى أبناءالبشرية
قد يتخلص العرب والأقباط والبربر والكرد من فراعنة متتالين ومن المعاني التي تحللونها هنا والتي كرسها التاريخ لكلمتي مسلم وإسلام، لكننا سنراهم يوميا راكعين ساجدين لرب الفراعنة الواصف لنفسه بما تقرأون وتعون كل الوعي
أفلا تعقلون ؟
فما نحر أو تنحية الفراعنة أو نقد أهل السلطة أكثر من ذبيحة تقدمونها ويقدمها العرب التقدميون لتبقى سلطة الجبار القهار متكبرة مستكبرة