الخميس، مارس 07، 2013

الخطر على الديمقراطية




لعل أخطر ما يجابه أى تجربة فى التحول الديمقراطى هو التعامل مع الأفكار - بصرف النظر عن نوعها ومصدرها - كمطلق ينبغى تكراره، وأعنى من حيث ما تنطوى عليه الإطلاقية، عموماً، من الإهدار الكامل للفكرة الإنسانية.
وإذا كانت الفكرة الدينية هى الأكثر إغراء بالتعامل معها كمطلق، فإن تحليلاً لظاهرة الدين والوحى، على العموم، ينتهى إلى وجوب الوعى بدخول العنصر البشرى، على نحو حاسم، فى التركيب المنطقى واللغوى والتاريخى لتلك الظاهرة؛ وعلى النحو الذى يستحيل معه استيعابها خارج تحديدات الشرط الإنسانى أبداً. فإذ يبدو لزوم أن يكون الشرط الإنسانى هو الأساس المنطقى للانتقال من لحظة إلى أخرى فى تركيب ظاهرة الوحى (حتى لا يُصار إلى رد هذا الانتقال إلى تغيرات تطرأ على الذات الإلهية كمصدرٍ للوحى)، فإن تنزيل الوحى داخل لغة ما (واللغة ليست محض وسيط اتصال محايد، بل نظام تفكير كامن خلف الألفاظ والعلاقات التى تقوم بينها)، إنما ينطوى على تحددِّ الوحى بهذا النظام الكامن. ومن جهة أخرى، فإن كون الوحى يكون حواراً مع واقع المُخاطبين به، إنما يكشف عن تحددِّه بما يمثل تاريخهم الحى. وبالطبع فإن ذلك يعنى أن الوحى لا يفرض نفسه كبنية مغلقة ومطلقة تعلو على البشر (تفكيراً وتاريخاً)، بل كتركيب يقوم على الحوار المفتوح مع تاريخهم ونظام تفكيرهم. وهكذا، فإن الوحى الذى يتخفى الكثيرون وراءه من أجل تثبيت رؤاهم الخاصة كمطلقات لا تقبل التجاوز، يبين - هو نفسه - عن روحٍ تخاصم «الأطلقة» وتأباها. وللمفارقة، فإن ذلك يعنى - بوضوحٍ وصراحة - أن الوحى ليس هو الأصل المنتج للأطلقة (كآلية تفكير تسود فضاء التفكير العربى من دون تمييزٍ بين تراثى وحداثي)، بقدر ما هو أحد أكبر ضحاياها.
لابد، إذن، من التمييز بين «المطلق الإلهى» الذى إنفتح بوحيه على البشر (تفكيراً وتاريخاً)، وبين «الأطلقة» كآلية يسعى بها البعض إلى وضع ما يدخل البشر فى تركيبه، خارج مجال التفكير والتاريخ. وللغرابة، فإن ذلك ما أدركه الجيل الأول من مُتلقى الوحى المحمدى (الصحابة)، الذين تكشف تجربتهم عن روحٍ تخاصم «الأطلقة»، وعن إدراكٍ للوحى كساحة للحوار المفتوح الذى لا يتقيَّد إلا بدواعى المصلحة، كما تبدَّت لهم حينها. وهكذا فإنهم لم يضعوا الوحى كأصل أوليٍّ مطلق، لا مجال إلا لإكراه الواقع على النزول تحت تحديداته والانصياع لتعليماته، بل تحاوروا معه بما كشف عن وعيهم بوجوب إنصات الوحى ذاته لصوت الواقع.
يقول إمام أهل السنة الكبير أبوالمعالى الجوينى: «إن سُبِرَ (أى جرى فحص) أحوال الصحابة رضى الله عنهم، وهم القدوة والأسوة فى النظر، لم يُرَ لواحدٍ منهم فى مجالس الاستشوار (أى المشاورة) تمهيد أصل أو استثارة معني، ثم بناء الواقعة عليه (كما فعل اللاحقون عليهم)، ولكنهم يخوضون فى وجوه الرأى من غير التفاتٍ إلى الأصول كانت أو لم تكن. فإن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما كانوا يجرون على مراسم الجدليين فى تعيين أصلٍ والاعتناء بالاستنباط منه، إنما كانوا يرسلون الأحكام، ويعلقونها فى مجالس الاستشوار (المشاورة) بالمصالح الكلية». ينكشف هذا النص النادر والثمين عن طريقة منفتحة فى مقاربة الوحى تقوم على «الخوض فى وجوه الرأي، وإرسال الأحكام وتعليقها على المصالح الكلية، من دون تمهيد أصلٍ يُبنى عليه كنموذجٍ مطلق»، وذلك فى مقابل ما مارسته الأجيال اللاحقة على هذا الجيل الأول من مُتلقى الوحى (وممن يُقال أنهم السلف بالذات)، من «تمهيد الأصول، وعدم الالتفات إلى الرأي». وضمن سياق هذا التمهيد للأصول فإنهم قد مارسوا ضروباً من «الأطلقة»، ليس للوحى فحسب، بل وحتى لتجربة الصحابة المنفتحة ذاتها، والتى استحالت- تبعاً لذلك- من تجربة لها تاريخ إلى أصل مطلق يقف خارج أى تاريخ. ولقد تحققت هذه الإحالة لتلك التجربة من «تاريخ» إلى «أصل مطلق» عبر عزلها عن السياق الذى تبلورت داخله؛ وبما آل إلى تبديد روحها بالكلية، حيث استحالت إلى محض ركامٍ من الشواهد والأصول النصية المبعثرة، والتى كان لابد أن تفقد مع هذا التجريد والتبعثُّر مغزاها ودلالتها الأعمق. وإذ تتحول التجربة إلى «أصل» فإنها تثقل على كل التاريخ اللاحق، وذلك من حيث تغدو موضوعاً للامتثال والتكرار، بدل أن تكون ساحة للتمثُّل والحوار. وإذن، فإن «الأطلقة» - وليس سواها - هى ما يحيل تجارب البشر من «تاريخ حي» إلى «نصٍ أو أصلٍ جامد» يقف خارجه؛ على النحو الذى يكون معه أشبه بالشاهد المصمت المُعلق على قبر صاحبه، والذى لا يعرف الخَلَف اللاحق إلا التعبُّد فى ظلاله. وتلك هى جوهر الممارسة السلفية؛ على أن يكون معلوماً أن هذه الممارسة لا تقف عند حدود من يُقال أنهم سلفيو هذا الزمان، بل تتجاوزهم إلى من يُقال أنهم حداثيوه أيضاً. و سواء مورست هذه «الأطلقة»، تحت يافطة الدين أو العلمانية، فإنها تمثل خطراً داهماً على الدولة.
ولقد كانت السياسة هى أحد مجالات التحوُّل بتجربة الصحابة من «تاريخٍ» إلى «نصٍ» أو أصلٍ يقف خارجه. فإذ لم يتوافَّر للجيل الأول من المسلمين، ما يمكن أن يكون «نصاً» أو أصلاً يفكرون به فى السياسة؛ نتيجة لعدم توافر عرب ما قبل الإسلام على تراثٍ مؤثر فى ممارسة السياسة والتفكير فيها من جهة، وبسبب سكوت الوحى عن تعيين طرائق محددة لممارستها والتفكير فيها، من جهة أخري، فإنه لم يكن أمام هذا الجيل إلا أن تكون له «تجربته» الخاصة فى السياسة. ولقد كانت «تجربة» تتسم بالانفتاح والحرية، من حيث تعليق الأحكام على المصالح، واعتبار شروط ومحددات الواقع، وعدم التقيُّد بأصلٍ أو نصٍ يحكمون به الواقعات والنوازل السياسية. ومن هنا، مثلاً، أن هذه التجربة لم تعرف وصفاً منضبطاً منذ البدء للقائم بأمر السلطة (فهو «الخليفة» أو «أمير المؤمنين»)، كما لم تعرف طريقة واحدة فى تعيين هذا القائم بالسلطة (حيث اختلفت طريقة تعيين الخلفاء من الأول إلى الرابع)، كما لم تعرف ضوابط محددة لممارسة السلطة وحدود العلاقة بين الحاكم والمحكوم (وبما ترتب على ذلك من المشكلات التى انفجرت فى وجه الخليفتين الثالث والرابع، وأودت بهما إلى مصائرهما الدامية). ولكن الغريب حقاً، أن هذه التجربة الحية المتوترة سوف تتحول - مع الاشتغال عليها بمنطق الأطلقة؛ وذلك عبر تفتيتها إلى مفردات مبعثرة ومعزولة عن السياقات الحاكمة لها - إلى نموذجٍ جرى التعالى به إلى مقام «الأصل» المطلق الذى يلزم إعادته وتكراره. وغنيٌّ عن البيان أن ذلك قد آل إلى إفقار التجربة، بعد أن أفقدها عناصر الانفتاح والحيوية، وأحالها إلى محض شاهدٍ مُصمت يُراد من كل واقعٍ لاحق أن يكون مجرد ظلٍ له.
ولسوء الحظ، فإن محض نظرة عابرة على ما تطرحه فيالق الإسلام السياسى التى تتصدر المشهد فى عالم ما بعد الثورات العربية، إنما تكشف عن الهيمنة الكاسحة لهذه «الأطلقة» على قراءتها للإسلام (نصاً وتاريخاً)، وهو ما يمثل الخطر المحدق على ممكنات الديمقراطية. 

تم النشر بجريدة الأهرام بتاريخ 7 / مــــــارس / 2013


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق