الخميس، يوليو 25، 2013

خطاب الرؤى والبشارات فى ساحة رابعة





ليس من شكٍ فى أن ما تسمى نفسها جماعة الإخوان المسلمين تجابه أزمة تهدد وجودها فى الصميم، وذلك على إثر الثورة العارمة التى اندلعت ضدها، نتيجة لفشلها الكامل فى إدارة الشأن المصرى بعد عام من وصول مرشحها إلى كرسى الرئاسة.

ولسوء الحظ، فإن استجابة الجماعة للأزمة تكاد أن تتبلور جميعها ضمن الأفق ما قبل العقلاني، وبصنفيه الرؤيوى الحالم بالسماء تهبه الخلاص مما يعنيه، والانتحارى الماسادى (نسبة إلى قلعة ماسادا) الساعى إلى استرجاع مفردات عصر قرابين الأضاحى والدماء.
 ومن هنا ما يلحظه المرء من دوران الخطاب السائد على منصة الاعتصام الذى تنظمه من تقول عن نفسها جماعة "الإخوان المسلمين" فى ساحة رابعة العدوية بين التبشير بالرؤى المنهمرة، بغزارة، على خطبائها من الشيوخ الذين صفت نفوسهم فجأة وأصبحوا جاهزين لاستقبال الإشارات القدسية التى تخصهم بها السماء، وبين التحذير من أولئك الذين نذروا أنفسهم للموت من أجل رجعة إمامهم الغائب إلى قصره.
وهنا فإنهم يشيرون إلى ما يقولون إنها كتائب من الرجال والنساء الذين اختاروا أن يجعلوا أنفسهم "مشاريع شهداء"، وبما يعنيه ذلك من أن الشهادة نفسها قد استحالت إلى "مشروع" وعلى النحو الكاشف عن طبيعتها الانتهازية الفجة. 

هكذا فإن ساحة رابعة العدوية قد أصبحت - على مدى الأسبوعين الماضيين - مهبطاً لملائكة ورؤى وبشارات غزيرة على النحو الذى توافرت معه مادة حية كافية تتيح للباحثين فى علم النفس الديني، أن يأخذوا منها مادة لتحليلاتهم التى كانت تعتمد قبل ذلك على المرويات التاريخية فقط. إذ لا مجال أبداً لدرس هذا الخطاب الرؤيوى بعيداً عن المفاعيل النفسية التى ينتجها عند المتلقين له. حيث الخطاب لا يستهدف ما هو أكثر من طمأنة المُخاطبين به وتثبيتهم نفسياً بترويج الادعاء بوقوف السماء معهم من خلال ما ترسل من الإشارات والرسائل التى تتواتر فى شكل رؤى وبشاراتٍ نورانية. ولقد بلغت قوة هذا التأييد أن النبى الكريم لم يكن وحده هو محور هذه الرؤى والبشارات، بل إن الملاك جبريل المُكلَّف من السماء بنقل رسائل الله إلى الأرض قد هبط فى ساحة رابعة، وبما يعنيه ذلك من تأكيد الدعم المباشر من الله عبر ملاكه المخصوص.
وغنيٌّ عن البيان أن مروجى هذا الخطاب يدركون فاعليته الكبرى، وتأثيره الكاسح على من يتلقونه من أتباعهم. إذ هم يعتمدون، لا محالة، على ما يعرفون استقراره فى وعى هؤلاء المتلقين من موروث يرتقى بالرؤى المنامية إلى مقام الوحى من جهة، وعلى ما يؤمنون به، من جهة أخرى، من أن حضور النبى الكريم فى الرؤيا يكون هو السبب الكافى فى تأكيد صدقها ووثوقيتها.

 وبحسب ذلك فإنه يلزم قبول رواية كل من يقول برؤيته للنبى فى المنام، ولو كان - فى الحقيقة - مدعيا، حيث الصدق هنا لا يرتبط بالرائى، بل يرتبط بمجرد إحضاره للنبى فى الرؤيا لتكون رؤيته مقبولة. وبالطبع فإن ذلك يعنى غياب أى معيار تتميز به الحقيقة عن الادعاء. 
ولعل ذلك يؤول - وعلى نحو ضروري - إلى أن القائم بالترويج لهذا الخطاب لا تشغله الحقيقة، بقدر ما يشغله التأثير الذى يتركه على المتلقين بقصد تثبيتهم. ولعل انشغاله بهذا التأثير، ولو على حساب الحقيقة، يتبدى فى التجرؤ على إظهار النبى الكريم متصاغرا فى حضرة رجل الجماعة "محمد مرسى". إذ يروى أحدهم أن النبى الكريم قد تراءى له فى جمعٍ فيه "مرسي"، وحين حان وقت الصلاة فإن الجمع قد قدَّم النبى الكريم لإمامتهم فيها، فما كان من النبى إلا أن تراجع مقدَّما لمرسى ليؤم الجمع - وفيهم النبي - فى الصلاة. إن من يروَّج لهذه الرؤيا ليس معنيِّاً بحقيقتها، بقدر ما يعنيه ما ستقوم بتثبيته فى وعى الجمهور المتلقى من الدلالة السياسية التى يبتغيها، رغم عدم التصريح بها.

 فهو يدرك - ومن دون شك - ما يعرفه الناس جميعاً من أن الحالة الوحيدة التى قدَّم فيها النبى غيره للصلاة بجماعة المسلمين كانت هى تلك التى قدَّم فيها أبى بكر ليصلى بهم حين اشتد عليه المرض. وأن هذا التقديم كان من بين ما جرى الاستناد إليه فى تأكيد أحقية أبى بكر بخلافة النبى فى الحكم السياسى للمسلمين، وبما يعنيه ذلك من أن إمامة أبى بكرٍ للصلاة، كانت الدليل على تثبيت إمامته السياسية. وإذن فإن من يروَّج لرؤيا تقديم النبى لمرسى ليؤم الجمع فى الصلاة، يعتمد على هذا المعروف للجمهور من أن التقدُّم فى إمامة الصلاة فى حضرة النبي، هو دليلٌ على التقدم فى الإمامة السياسية، بحسب ما جرى مع أبى بكر، ليؤسس على ذلك أن تثبيت المكانة السياسية لمرسى هو إشارة من النبى نفسه.
وبالطبع فإن القصد من ذلك هو البلوغ بالجمهور المُتلقى للخطاب إلى الإيمان بأن احتشاده فى الميدان، وإلى حد الاستعداد لبذل النفس، ليس من أجل شخص مرسي، بل من أجل إنفاذ ما أشار به النبي، وأراده. وإذن، فإنه القصد السياسى وهو يخفى نفسه وراء مخايلات الدين ومراوغاته. 

وفضلاً عن ذلك، فإن طبيعة الخطاب الرؤيوى تكشف، على العموم، عن وقوف المتلقين له عند مرحلة، فى مسار التطور الإنساني، تتميز بقصور الإنسان، وعدم بلوغه حال الرشد العقلي. ولعل ذلك يتسق مع حقيقة أن الجماعة التى ينتسبون إليها تضع على رأس هيراركيتها التنظيمية ما تقول إنه امر شدها العام"، وبما يعنيه ذلك من الإقرار بحاجة المنتسبين إليها إلى من يوجههم ويرشدهم. إن ذلك يعنى أن الجماعة ومنتسبيها تظل تنتمى إلى لحظة ماضية فى تاريخ الإنسانية، كان البشر خاضعين فيها لهيمنة الخطابات الوصائية 


تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 25 / يوليـــــــــــــو / 2013


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق