الخميس، أغسطس 22، 2013

الدين والسياسة فى خطاب حسن البنا




يكاد الالتباس المتعلق بالعلاقة بين الدين والسياسة أن يكون هو أحد أهم الآليات التى ينبنى عليها خطاب الأستاذ حسن البنا، الرائد المؤسس لجماعة الإخوان، وابتداءً من تحديده لهوية تلك الجماعة. 
فإذ يقرر - من ناحية - أن الجماعة دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وبما يعنيه ذلك من تأكيد هويتها الدينية، فإنه لا ينفى عن الإخوان - فى الوقت نفسه - أنهم هيئة سياسية لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم فى الداخل وتعديل النظر فى صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم فى الخارج، وتربية الشعب على العزة والكرامة والحرص على قوميته إلى أبعد حد. ولقد أتاح هذا الالتباس للجماعة ومشايعيها أن يروجوا للجماعة على أنها ذات هوية دينية، وأن ما تمارسه من السياسة إنما يرتبط بكونها - أى السياسة - ركناً من أركان الدين، حيث الحكم - على قول البنا - معدودٌ فى كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع.

وهنا تأتى المفارقة من أن البنا حين يجعل الحكم السياسي من العقائد والأصول، فإنه ينقض ما وصف به جماعته من أنها طريقة سنية، حيث السياسة معدودة عند أهل السنة من الفقهيات والفروع، على عكس الشيعة الذين انفردوا وحدهم باعتبارها من العقائد والأصول. وإذ لا يمكن الشك فى معرفة الرجل بما يقول به الشيعة بخصوص الإمامة والسياسة، فإنه لا يبقى إلا أن التزامه ما يقول به الشيعة هو النهاية التى تفرض نفسها على كل من يسعى إلى إخفاء ممارسته السياسية وراء أستار المعتقد الديني، وإلى الحد الذى يبلغ به تخوم اعتبار السياسة ديناً. 
وللغرابة، فإنه يبدو - والحال كذلك - أنه إذا كانت السياسة هى التى شطرت المسلمين، فى القديم، إلى سنة وشيعة، فإنها تعود لتقرِّب بينهما فى اللحظة الراهنة. والعجيب أن يكون الاستبداد حاضراً، وبقوة، فى كلتا اللحظتين معاً.
فقد كان الاستبداد، هناك فى لحظة الانقسام، حين راح الشيعة يتعالون بالسياسة إلى السماء (حيث جعلوا تعيين الإمام بالنص من الله)، وذلك على سبيل اليأس من الناس الذين حالوا بين أئمة آل البيت وبين ما يراه الشيعة حقاً لهم فى الإمامة.
 وبالمثل فإنه كان حاضراً عند أهل السنة، حين راحوا يجعلون ما يقولون أنه تعيين الإمام من الناس بالبيعة والاختيار، ستاراً يخفون وراءه آليات الشوكة والمغالبة التى كانت هى الفاعل الحقيقي - والأهم - فى مسار ممارستهم السياسية. ولعل هذا التماثل القديم هو ما يقف وراء تقاربهما الراهن، وأعنى من حيث ما تتكشف عنه التجربة السياسية الشيعية (متجسدة فى النظام السياسى الإيرانى الحالي)، والسنية (متجسدة فى جماعة الإخوان فى مصر)، من السعى إلى توظيف الرأسمال الدينى المتجذِّر فى تثبيت خطاب وصائى أبوي.
 ولعل هذا الطابع الوصائى الأبوى للخطاب يتأكد من خلال المركزية الطاغية لمفهوم المرشد فى كلا النظامين الإيرانى (الشيعي) والمصرى (الإخواني - السني). وهنا يلزم التنويه بأن هذا الخطاب الوصائى إنما ينبني، وعلى نحوٍ جوهري، على تصور العقل قاصراً عن تدبير شأن الإنسان الذى يبقي، لذلك، فى احتياجٍ دائم إلى مرشد يقرر له ويختار. وغنيٌّ عن البيان أن ذلك التصور هو ما يؤسس - على مدى التاريخ - لكل أنماط السلطة المستبدة القامعة، التى تسلك بمنطق فرض الوصاية على الناس. 

وبالرغم من مركزية وضع المرشد فى كلا النظامين، فإن ثمة ما يتميز به النظام الإيراني، وأعنى من حيث ما يعرفه من تنظيم الدستور لمكانة وحدود دور المرشد على رأس هذا النظام، وذلك فى مقابل ما كان من خلو الدستور المصري - الذى جرى تعطيله أخيرا بعد الثورة الأخيرة على حكم الإخوان - من النص على ما ينظم دور ومكانة المرشد فى النظام السياسي. وهكذا، فإنه ورغم ما ينطق به واقع الحال، ويشهد به الكثيرون ممن أدوا أدواراً سياسية فى نظام الرئيس المعزول مرسي، من ممارسة المرشد - ومكتب الإرشاد على العموم - لدورٍ سياسى كبير، فإنه قد ظل دوراً منفلتاً، وخارج رقابة الدستور، وبما يعنيه ذلك من أن ممارسته السلطة، لم تكن تترتب عليها أى نوعٍ من المسئولية.

 وانطلاقاً من مبدأ أنه لا سلطة من دون مسئولية، فإن ذلك يبقى من قبيل القصور الذى يلزم تداركه، على ألا يكون ذلك من خلال النص على سلطة للمرشد فى الدستور، بل من خلال النص على ما يمنع التابعين للجماعات التى تتلاعب بالرأسمال الدينى للجمهور، ويكون لها مرشد أعلى يقف على رأس تراتبيتها التنظيمية، من الوصول إلى قمة النظام السياسى المصري، لكى لا يُتاح لهذا المرشد أن يمارس سلطة من دون مسئولية. 

ويرتبط ذلك بأن الإنسانية على العموم قد بلغت - فى تطورها العقلي - مرحلة الرشد، ولم تعد فى حاجة إلى من يقوم بإرشادها إلى ما فيه فلاحها. ولعله يمكن القول بوجوب التحصين الدستورى لمبدأ بلوغ الإنسانية حال الرشد، ولا يمكن الاحتجاج هنا بأن ثمة من المبادئ الإنسانية الكبرى ما يتعارض مع مستوى التطور الثقافى الراهن للمصريين، وأنه لا يمكن فرضها عليهم بالدستور أو القانون، ولابد من ترك التطور يأخذ مداه.
 إذ الحق أن غياب الوعى بهذه المبادئ هو ما يتيح لأصحاب خطابات الأبوية والوصاية أن يفرضوا خطاباتهم على الناس، وبما يعنيه ذلك من أن مصلحتهم تستلزم إبقاء المصريين عند نفس المستوى الثقافى الذى يسمح لهم بفرض وصايتهم عليهم. وبالطبع فإن ذلك يعنى أنه لن يكون ممكناً الخروج بالمصريين من حالهم الثقافى المتردى إلا عبر توفير الشروط التى تجعل هذا التطور ممكناً، وأهم هذه الشروط هو رفع غطاء المشروعية عن أصحاب خطابات الوصاية. 

وبالطبع فإن الإلحاح على إخفاء الهوية السياسية الغالبة للجماعة وراء براقع الدينى وأستاره، لا يكشف إلا عن محض السعى إلى استئناف نوعٍ من التاريخ الطويل - الذى عرفه الأسلاف - من ممارسة السياسة بالدين، وهى الممارسة التى كان قد شاع الظن بأنها قد انقطعت وتوقفت تحت تأثير ما بدا وكأنه القصف بالحداثة، على العالمين العربى والإسلامي، الذى انطلق مع حملة بونابرت على مصر فى أُخريات القرن الثامن عشر. لكنه بدا وكأن ما تخلَّف عن هذا القصف الصاخب لم يكن إلا بضعة خدوش تافهة على سطح عالم ظل محتفظاً، فى العمق، بمعظم ثوابت نظامه التقليدى الموروث. 


تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 22 / أغسطــــــــــس / 2013


هناك تعليق واحد: