الخميس، مايو 30، 2013

العنف بين نيات الأفراد ومنطق الخطاب




من الطبيعى أن يكون الصعود الملحوظ لخطاب تديين السياسة، فى مصر وغيرها، قد أعطى دفعة معنوية هائلة لجميع الفيالق المنضوية تحت راياته التى بدأت ترفرف خفَّاقة، وذلك بالرغم من كل ما يقوم بين فصائلها من تباينات تطال التصور ومنهج العمل. 
فقد اندفع الجميع يعملون على تحقيق الغاية القصوى للخطاب
(التى هى تديين السياسة) بطرائق فى الاشتغال تتراوح بين التطرف والاعتدال.
وهنا يلزم التنويه بأنه إذا كان التطرف والاعتدال هما محض طريقتين فى الاشتغال يتسع لهما الخطاب، فإن ذلك يعنى أنهما من قبيل العارض الذى لا يؤثر فى حضور المشتغلين بهما معاً تحت مظلة ذات الخطاب الواحد. وبعبارة أخرى، فإن الفارق بينهما يتعلق بمحض "الإجرائى" السطحى، وليس "بالبنيوى" العميق، أو أنه من قبيل الفارق فى الدرجة، وليس النوع. وتبعاً لذلك، فإنه لن يكون بمقدور أحد التبرؤ من العنف الواقع تحت مظلة هذا الخطاب، باعتبار أنه مجرد ممارسة منحرفة لأفرادٍ غير أسوياء، لأن هذا العنف - فى حقيقته - لا يتعلق، فحسب، بما يقصد إليه الأفراد، بل يرتبط - وهو الأهم - بضرورات منطق الخطاب. ولسوء الحظ، فإن "العنف" - فى كل أشكاله الناعمة والدامية - يكاد أن يكون أحد أهم المآلات التى لابد أن ينتهى إليها الخطاب الرامى إلى تديين السياسة. ويتفرع ذلك عن حقيقة أن التفكير فى السياسة أو ممارستها بالدين، يحيلها إلى جملة "مطلقات" سوف يجد البعض أن لا سبيل لتسكينها فى الواقع - على فرض إمكان ذلك - إلا بالإكراه والقسر. وعلى الدوام، فإنه يبقى أن العبرة هى بالمصائر والمآلات (التى تقتضيها أنظمة الخطابات)، وليست بالمقاصد والنيات (التى تسكن نفوس الأفراد).
فقد يقصد الواحد من دعاة تديين السياسة، واعياً، إلى جعل قوله ساحة لصوت الاعتدال، ولكن منطق الخطاب يأبى إلا أن يجعل صوت "التطرف"، المُراد إسكاته، ينطق فى قوله. ولعل مثالاً لذلك يأتى من تحليل أحد وجوه خطاب الإسلام السياسى المتمحور حول مفهوم "أستاذية العالم". فرغم السعى إلى ربط هذا الوجه للخطاب برموز الاعتدال والمسالمة، فإن ذلك لا يقدر على زحزحة الحضور الراسخ لرمز التشدد والمفاصلة، الذى هو الأستاذ سيد قطب صاحب التنظير الأوفى لخطاب "الأستاذية على العالم"، وإلى الحد الذى تكاد معه أن تكون مركزاً لخطابه كله. وهكذا، فإنه وابتداء من أن المنطق الكامن لأى خطاب قد يجد تعبيره الأجلى والأنقى عند أحد المشتغلين فى حقله، بأكثر مما يجده عند آخر، فإنه يبدو أن الإطار الذى كان قطب يفكر داخله، على مدى الخمسينيات والستينيات، قد أتاح له أن يكون هو صاحب التعبير الأصفى عن هذا الخطاب.

 ولسوء الحظ، فإنه يبقى أن ما ينبنى عليه هذا الخطاب لا يسمح له - مهما اختلفت أشكال التعبير عنه - إلا بأن يكون ساحة إقصاء وتنابذ، وليس فضاء حوارٍ وتواصل. ويرتبط ذلك بحقيقة أن مفهوم "أستاذية العالم" يحيل إلى عالمٍ هيراركى تتراتب فيه العلاقات من الأعلى فرضاً على الأدنى، وبما يعنيه ذلك من قيام العلاقات بين الناس فى الواقع على أن هناك طرفاً فى الأعلى هو الأستاذ الذى له أن يفرض هيمنته على الطرف الجاهل فى الأدنى. ولكن ما الذى سيحقق به هذا الأستاذ أستاذيته على العالم؟ يأتى الجواب - عن السؤال - حاسماً من الأستاذ قطب الذى مضى فى كتابه "معالم فى الطريق" إلى تقرير: "إن هذه الأمة لا تملك الآن - وليس مطلوباً منها - أن تقدم للبشرية تقدماً خارقاً فى الإبداع المادي، يحنى لها الرقاب، ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية. فالعبقرية الأوروبية قد سبقتها فى هذا المضمار سبقاً واسعاً.

 وليس من المنتظر - خلال عدة قرون على الأقل - التفوق المادى عليها!. فلابد إذن من مؤهل آخر لقيادة البشرية، غير الإبداع المادي، ولن يكون هذا المؤهل سوى العقيدة والمنهج". وحين يدرك المرء أنه ليس ثمة من مجال للإبداع فيما يخص هذا المؤهل البديل، حيث إنه "لابد فيه - على قول قطب - من التلقى عن الله"، فإن ذلك يعنى أن أستاذية المسلمين للعالم لا ترتبط بشئٍ أنتجوه (من الإبداع المادى أو الروحي)، بقدر ما تتعلق بالسعى لإخضاع العالم (طوعاً أو قسراً) لما يتصورون أنه المنهج الذى تلقُّوه عن الله. وإذن فإنها الأستاذية لا ترتبط بما ينتجه الناس على الأرض، بل بالمعطى لهم من السماء، وبما يعنيه ذلك من أنها ستكون عملاً من أعمال المشيئة العليا التى لا اختيار للناس معها، بل يلزم فرضها عليهم.

 ولعل الدليل على الطابع الإخضاعى لتلك الأستاذية يتآتى من تعيين الأستاذ "قطب" لنقيضها على أنه "الجاهلية"، حيث إنه لا سبيل لمن يتمرغون فى بؤس الجاهلية، إلا الخضوع لسادتهم الأعلين، من الذين يترقون فى معارج الأستاذية. وإذا كانت الجاهلية تتعين، عند قطب، بما هى "إسناد الحاكمية للبشر"، فإن الأستاذية لابد - وبمنطق المخالفة - أن تتعين بما هى "إسناد الحاكمية لله"، وبما يعنيه ذلك من أن "قطب" يعيِّن طرفى الصراع فى "حاكمية الله" فى الأعلى، و"حاكمية البشر" فى الأدنى، وبكيفية لا مجال فيها إلا لإخضاع الأدنى لسيادة وهيمنة الأعلى.وحين يدرك المرء أن خطاب الأستاذية سوف ينتهى به، على هذا النحو، إلى فكرة "الحاكمية الإلهية"، بكل ما تؤدى إليه من ضروب الإقصاء والعنف (اللفظى والمعنوي) سواء بين المسلمين وغيرهم، أو بينهم وبين أنفسهم، فإن له أن يقطع بأن العنف، هنا، ليس محصلة انحراف أفراد، بقدر ما هو من لوازم الخطاب.
وتبعاً لذلك، فإنه ليس لأحدٍ من الخاطبين فى ليل خطاب تديين السياسة - الذى تتعالى راياته فى العالم العربى الآن - أن يعتذر بسلامة النيِّة والمقصد عما تئول إليه ضرورات منطق الخطاب، وذلك ابتداءً من أن مقصد الفرد هو ما يخضع لتوجيه منطق الخطاب، وليس العكس.

 وبالطبع فإنه إذا كان التعويل على النيِّة والقصد يتعلق بتحديد المسئولية (فى شقيها الجنائى والسياسي) عن حدثٍ ما، فإن الأمر، فى هذا التحليل، يتعلق بتعيين المسئولية المنطقية والخِطابية عنه، إذا جاز التعبير. ومن هنا أن مسئولية العنف تقع على كاهل الخطاب، وبما يعنيه ذلك من المسئولية التبعية لحامليه بصرف النظر عما تطويه نياتهم ومقاصدهم. 

تم النشر بجريدة الأهرام بتاريخ 30/ مايـــــو/ 2013


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق