الخميس، يونيو 13، 2013

مصلحة الإنسان وصلاح الحكم





يتميز القرآن - ككل النصوص الكبرى التى لا تكف عن الإشعاع والوميض على مرِّ الأزمان - بكونه ساحة التقاء بين "التاريخى" بتحديداته الجزئية، وبين "المُتجاوز" بشموله وكليته. 
وإذا جاز القول بأن التأسيسى فى القرآن يتمثَّل فى هذا "المتجاوز" الذى يحيل إلى عالم القيم والمعانى الإنسانية الكبري، فإن الإجرائى فيه يكون هو جملة التحديدات الجزئية التى تتحقق هذه القيم والمعاني، من خلالها، فى لحظة بعينها.
 ولابد أن يكون مفهوماً أن الأمر، فيما يختص بالعلاقة بين التأسيسى (الكلي) والإجرائى (الجزئي) لا يتعلق بثنائية جامدة، يقف كل طرف منها بمعزلٍ عن الآخر، بقدر ما يتعلق بحقيقة واحدة يكون "التأسيسي" هو جوهرها الذى يدخل "الإجرائي" فى تركيبها، ولكن من دون أن يكون قادراً على استنفادها. فإن هذا "التأسيسي" المتجاوز يكون - وعلى نحوٍ ما - أشبه بالحقيقة العلمية التى هي، بدورها، تركيبٌ يتنامي، فى التاريخ، عبر تصحيحه المستمر لنفسه، ولكن من دون أن يكون هذا التاريخ قادراً على استنفادها بالمثل، وإلا فإن ذلك يؤشر على ما لا يمكن تصوره، بالعقل، من "نهاية العلم".
وفقط فإن الفارق بينهما يتأتى من أنه فيما تكتمل الحقيقة العلمية فى "الوعي"، وليس فى "الوجود"، لأنها تكون - طوال الوقت وبصرف النظر عن الوعى بها - قائمة فى الوجود وضابطه لظواهره على نحو فعلى، فإن التأسيسى المتجاوز فى القرآن (والمجال الإنسانى على العموم)، يكتمل فى (الوجود)، وليس فى (الوعي)، لأن هناك من القرائن ما يقطع بأن هذا التأسيسى المتجاوز (قيمةً ومعني)، قد كان - ومنذ أقدم العصور - حاضراً فى (الوعي)، ولو بوصفه مثلاً أعلى يرنو إليه البشر، ولكن تحققه لم يكتمل فى (الوجود) فى أى لحظة من التاريخ. إنه - هكذا - أقرب إلى القيمة أو المعنى الكلى الذى يمتص كل تحققاته الجزئية داخله، ومن دون أن تكون تلك التحققات قادرة على اقتناصه واستيعابه فى واحدة منها، وإلا فإنها ستكون "نهاية القيمة أو المعني".
 وإذن فإنه التباين بين "انفتاح" القيمة أو المعني، وبين "محدودية" شكل تحققها. وبالرغم من هذه "المحدودية" لأشكال تحقق القيمة أو المعني، فإنه يمكن القول إن كل واحدٍ منها يمثل، فى تحقيقه لهذه القيمة أو المعني، درجة أعلى من تلك التى يكون سابقه عليها. ويعنى ذلك، وعلى نحو مباشر، إمكان القول بأن "مصلحة الإنسان وصلاحه" هى أحد مبادئ القرآن التأسيسية، وأما المضمون الذى يتحقق من خلاله هذا المبدأ فى لحظة بعينها، فإنه يكون هو الحد "الإجرائي" المحقق لها فى تلك اللحظة. 
وبالطبع فإنه إذا كان الوحى هو بمثابة إحضار للقيمة، المعني، المصلحة، كمبادئ تأسيسيةٍ كبري، إلى واقع مجتمعات بشرية، لم تكن لتقدر على بلوغها بجهدها الخاص، فإنه كان لابد أن يجرى تنزيل هذه المبادئ التأسيسية فى واقع حياتها، ضمن شروط اللحظة التى تعيش فيها، وإلا فإن تنزيلها خارج تلك الشروط كان يمكن أن يترتب عليه رفض فعل الوحى بالكلية. ومن هنا ما يمكن القول إنها مراوحة الوحى وحركيته بين "المبدأ التأسيسى المتجاوز" من جهة، وبين "التحديد الإجرائى المتعيّن" الذى يتحقق، هذا المبدأ، من خلاله فى واقع بشرٍ بعينهم، وفى إطار لحظة بعينها، من جهة أخري. فإنه ليس خطابا بهذا المبدأ فى "المطلق"، بقدر ما هو خطابٌ به فى الواقع "المتعيِّن"، أى إلى بشر محددين، وفى لحظة تاريخيةٍ بعينها. وبالطبع فإنه يبقي - ضمن هذه المراوحة - أن "الحد الإجرائي" - الذى يتحقق من خلاله "المبدأ التأسيسي"، إنما يكون "موضوعا" من أجل تحقيق القيمة المرتبطة بهذا المبدأ، فى تلك اللحظة بعينها، وليس على نحو نهائى مطلق. وإذ يعنى ذلك أنه يتحقق فى ارتباطٍ حاسم مع "التاريخ"، فإن صرامة هذا الارتباط تبلغ حد أنه قد يتحوَّل فى لحظة مغايرة، لتلك التى تبلور فيها، إلى عائقٍ يحول دون تحقيق "المبدأ التأسيسى المتجاوز" الذى يقف وراءه.

ومن هنا ما توافق عليه أهل التفسير والأصول من النسخ فى القرآن، الذى لا يعنى شيئاً إلا أن حضور وصلاح الحكم (وهو الحد الإجرائى المحقق للمبدأ التأسيسى أو القصد) يكون مرتبطاً بوقتٍ بعينه. فإن رفع الحكم، ليحل محله غيره (وهو معنى النسخ)، لا يعنى إلا أنه قد استحال إلى عائق يحول دون تحقيق المبدأ أو القصد الذى يقوم خلفه، ولذا وجب رفعه لأنه لم يعد صالحا فى لحظة مغايرة لتلك التى تنزَّل فيها. وحين يلاحظ المرء قصر المدة الزمنية التى كان يتحقق ضمنها.

ولقد كان ربط صلاح الحكم بالوقت هو أداة الفخر الرازى فى الفرار من مأزق نسبة النقص إلى الله، فإنه "إن قيل: لو كان (الحكم) الثانى (الناسخ)، أصلح من الأول (المنسوخ)، لكان الأول ناقص الصلاح، فكيف أمر الله به؟ قلنا: الأول أصلح من الثانى بالنسبة للوقت الأول، والثانى بالعكس". إن الصلاح هنا هو المبدأ التأسيسي، وأما الحكم الذى يتحقق من خلاله هذا الصلاح، فهو الحد الإجرائي، وبحسب تقرير الرازى فإن الحكم، أو الحد الإجرائى المحقق للصلاح، قد يتحول فى غير وقته إلى عائقٍ يُمتنع معه تحقيق الصلاح، فيلزم رفعه بالنسخ.
 الغريب، هنا، أن تجربة الجيل الأول من المسلمين تشير إلى حقيقة أنهم - ورغم انقطاع الوحي - قد رفعوا من الأحكام، ما أدركوا فيه حائلاً يمنع تحقيق الصلاح، وكان ذلك استناداً إلى وعيهم العميق بالمنطق الذى يحكم علاقة كلٍ من الوحى والعقل والواقع. ولعله يلزم الإشارة، هنا، إلى ما جرى بخصوص الأحكام المتعلقة بسهم المؤلفة قلوبهم، وتوزيع الغنائم على الجند الفاتحين، والحد المفروض على شارب الخمر وغيرها مما أدرك فيه الصحابة أن صلاحه مرتبطٌ بوقت تنزيله، وأن شروط صلاحه قد ارتفعت، ولم تعد قائمة.

فهل يقدر حمقى هذا الزمان الحكمة من وراء ذلك فيميزون بين التأسيسى والإجرائى فى القرآن؟. 

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 13 / يونيــــو / 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق