الأحد، يوليو 17، 2011

قراءة في أزمة النخبة الفكرية المصرية بعد الثورة (1-3)




"الخطاب النخبوي المصري - عبر توجهات النخب المختلفة - يتسم بالضحالة البالغة في علاقته بالمفاهيم التي تحتاجها مصر في اللحظة الراهنة".
 هكذا بدأ د. علي مبروك مدرس الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة في حديثه مع أون إسلام.نت عن ملامح الاستقطاب وسمات خطاب النخبة في مصر الآن، وتحليله للموقف جعله يستشعر أن النخبة المصرية بسبيلها لخذلان الشعب المصري مرة أخرى. ورأى أن التوجه الإسلامي يخلط الشريعة بالمدونة الفقهية كما رأى التيار العلماني يعتبر الدين عدو للدولة المدنية بإطلاق من دون التفريق بين الدين كدين وبين الدين كدوجما تعمل على تحويل الاجتهاد الفقهي لمطلق رباني.
وفيما يلي نص الجزء الأول من هذا الحوار:

** كيف ترى وكيف تقيم مشهد الاستقطاب المصري الحادث الآن على الساحة السياسية؟
د. علي مبروك:
 أريد أن ابدأ من النقطة التي أشرت إليها قبل بدء الحوار؛ والمتعلقة بملاحظة عن عدم نضج خطاب النخبة. وأنا أرى أن هذا التوصيف به قدر كبير من التسامح؛ لأن منطق معظم النخبة في نظري يتسم بالضحالة البالغة؛ مما يجعلني أظن أن النخبة المصرية ستخذل شعبها مجددا.
كنت أرى قبل أن تشتعل الثورة في مصر أن السبب الأهم في عدم حدوث تغيير هو النخبة وليس المجتمع، والدليل على ضحالة خطاب النخبة هو ما نلاحظه الآن من سيولة وعدم انضباط كامل في التعامل مع مفاهيم اللحظة؛ التي يكاد أن يكون المصريون جميعا منشغلون بها. فالمطالع يستشعر مما يكتب حولها ومما يقال في تعامل هذه النخبة - بكافة شرائحها - تستشعر أن هناك قدرا من الغياب الكامل للضبط، وأخشى أن أقول أيضا الغياب الكامل للفهم لهذه المفاهيم التي ينبغي التعامل.
ومن ذلك ما نراه من الشد والجذب القائم بين المدني والديني فيما يخص الدولة. فعندما تسمع المتحاورين حول هذه المسألة تتأكد تماما أن هناك غياب كامل للوعي؛ ليس فقط بمضمون المفاهيم، ولكن بما يؤسس للمفاهيم، وبما يجعل هذه المفاهيم مفاهيم منتجة في الواقع. تسمع مثلا – في إطار الاستقطاب - عن اتجاه يحتشد في فريق كبير يسمي نفسه (الإسلاميين)، وفريق آخر يحتشد في فريق دعنا نسميه (أنصار التفكير المدني)، تكتشف أن ما يفهمه أصحاب الاتجاه المدني من المدنية غير منضبط تماما، وما يتحدث به الإخوة المحتشدين في الاتجاه المضاد، تجد نفسك لا تفهم ما يقال بخصوص الدولة الإسلامية أو الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية، وفي النهاية لا تستطيع أن تفهم تماما ما يقال من هنا أو هناك، أو تستشعر كما أستشعر أنا أن هناك عدم وعي كامل للمفهوم.
مثال على ذلك: كنت قد كتبت مقالا عن مسألة الديني والمدني وأي من المفهومين يمثل مرجعية للآخر، وهذا كان شكلا من أشكال الحوار ليس للنقد ولا النقض، كان شكلا من أشكال الحوار حول ما تطرحه جماعة الإخوان المسلمين في مصر في هذه الأيام من التفكير في دولة مدنية بمرجعية دينية، عندما تسأل عن أي دين يكون هو المرجع لهذه الدولة؟ وما هذا الدين الذي تتحدث عنه؟ هل الدين الذي تتحدث عنه شيء واحد؟ فالقول بالمرجعية الدينية مقولة كلية مصمتة مغلقة يتم التعاطي معها بطريقة فيها قدر كبير من الإطلاق ومن الانسياب. فلابد من تحديد ماذا نعني بـ"الدين".
ففكرة الإخوان المسلمين أن المدني إنساني متغير، بينما الديني هو الإلهي الثابت.. إلى آخره، وبالتالي فلا بد أن تكون هناك مرجعية ذات مصدر إلهي تتصف بقدر من الثبات تمثل أساسا نرجع إليه عندما يكون هناك اختلاف بيننا حول هذه الدولة التي نأمل أو نفكر فيها.
ولو سألت سؤال آخر: هل الدين بالفعل كله هو الجانب الإلهي الثابت؟ هل الدين لا ينطوي على أية متغيرات؟ هل الحكم الذي يمكن أن نطلقه على الدين واحد ولا يمكن أن يتعدد بتعدد الأنحاء التي ننظر من خلالها إلى الدين؟ عندما تتعامل مع الدين باعتباره عقيدة مثلا، هل الحكم الذي يصدر عن العقيدة حكم واحد؟ هل الإسلام يتعامل مع الدين كعقيدة باعتبارها شيئا واحدا أم تنطوي على بعد متغير؟ عندما نتحدث عن الإسلام كشريعة.. هل نتحدث عنها باعتبارها بعدا واحدا ثابتا أم نتحدث عنها باعتبارها تنطوي على بعد متغير؟ عندما نتحدث عن الدين كمرجعية للدولة مثلا هل تتحدث عن الدين كعقيدة أم تتحدث عن الدين كشريعة؟ إذا كنت تتحدث عن الدين العقائد فكيف يكون العقيدي بشكل عام ينظر إليه على أنه ينظم علاقة الإنسان بربه فكيف تستعير هذا المفهوم لتنظم به علاقات تتعلق بالمجموع. وعلى ذلك، فالمعنى الذي يرمى إليه الإسلاميون قد يكون الجانب التشريعي من الدين ليصبح هو المرجع لهذه الدولة. هذا الجانب التشريعي لا يمكن النظر إليه باعتباره جانبا ثابتا، بل هو جانب متغير، ليس فقط من دين إلى دين، وإنما أيضا داخل الدين الواحد؛ مما يوحي في النهاية بأن الدين الذي تفكر فيه كمرجعية للمدني هو أيضا فيه هذا التغير، وهو عندما يتغير فمرجعيته هو المدني، فالمدني هو الذي يؤدي إلى التغير في الدين بشكل متجدد.
فكأن ذلك يضعنا أمام مفارقة أن المدني هو الذي يمثل مرجعية للدين وليس العكس، فأي جانب تشريعي تتحدثون عنه الآن؟

** تحدثت عن الإسلاميين ومشكلة خطاهم.. فماذا عن الشركاء الآخرين بالوطن؟
د. علي مبروك:
 أصحاب الاتجاه المواجه الذين يتحدثون عن الدولة المدنية، تسألهم أحيانا ما هي الدولة المدنية يقولون الدولة المدنية هي الدولة التي لا يحكمها العسكر ولا يحكمها رجال الدين، هذا في نظري تسطيح للمسألة إلى حد كبير، وهذا الكلام يتردد بين كثيرين، نريد دولة لا يكون رأسها لا عسكري ولا رجل دين .

** هذا هو التعريف الكلاسيكي لمفهوم المدني.. إذا أين المشكلة في هذا الطرح؟
د. علي مبروك:
 المشكلة في هذا التعريف أن الدولة هنا تكتسب سمتها أو تكتسب ما تتميز به مما يمكن القول عنه بلغة ابن خلدون مثلا أنه صاحب الدولة، فلا بد أن تكون هناك خصائص بنيوية تجعل هذه الدولة مدنية.
الدولة بطبيعتها مدنية. فعندما يقول أحد أن الدولة مدنية فهذا في تصوري كمن يقول أن الماء هو الماء. الدولة مدنية طوال الوقت، لأنها تركيب من التراكيب التي انتقل الإنسان من خلالها من ممارسة وجوده ضمن تكوينات ضيقة تتحكم فيها روابط معينة إلى تكوين أعلى تتحكم فيه روابط من نوع آخر. فبدلا مما كانت الرابطة القائمة بين الناس أو التي تنظم العلاقات بينهم هي الرابطة الطبيعية المتمثلة في وحدة القبيلة أو وحدة العائلة وما إلى ذلك، انتقل الإنسان إلى تكوين أرقى تنتظم العلاقات فيه على أساس قاعدة أخرى غير القاعدة الطبيعية مما ينشئ الرابطة السياسية.
القاعدة الأساسية التي تحكم العلاقات بين البشر هي قاعدة الحق. فالعلاقات بين الناس قائمة على مفهوم الحق. إذا الدولة المدنية هي دولة الحق بشكل أساسي. الخطورة فيما يقوله من يتكلمون عن الدولة المدنية باعتبارها الدولة التي ليست دينية وليست عسكرية ينسى أن الخطر الواقع على الدولة لا يأتيها من الدين ولا من حكامها ولا من النزعة العسكرية، وإنما مصدر الخطر والتهديد الحقيقي لهذه الدولة يتمثل في نزعة فكرية أسميها "النزعة الإطلاقية".
الدين ليس عدوا للدولة المدنية في الحقيقة؛ إذا تعامل معه تعاملا معرفيا دقيقا منضبطا. ويصبح الدين مشكلة للدولة عندما يتحول إلى دوجما.

** تقصد عندما يتجاهل الفقيه وضع اجتهاده كحالة نسبية ويعتبر هذا الاجتهاد امتدادا للنص القرآني؟
د. علي مبروك:
 بالضبط. فعندما يحاول أن يضفي المجتهد قداسة على اجتهاده؛ فيحيله إلى مطلق خارج دائرة المسائلة وخارج دائرة النقد، والأطلقة لا تصيب الفكر الديني وحده، فهي تصيب الفكر الإنساني، وإلا فهل نستطيع التحدث حول الحركات النازية والفاشية إلا باعتبارها حركات أطلقة؟ والحركات المطلقة هي التي تسعى إلى حد كبير جدا لإخفاء الأصل الإنساني للأشياء. ففي إطار النزعات النازية والفاشية مثلا يختفي الفرد "الإنسان" لحساب فكرة مطلقة أو لحساب الدولة باعتبارها كينونة مطلقة تتعدى الأفراد. إذا فدعاة المدنية ينسون أحيانا أنه حتى الفكر الإنساني وليس الدين وحده يتم معه عمليات الأطلقة. فالفكر الإنساني إذا فقد طابعه الإنساني وإذا تحول إلى مطلق من المطلقات فهو يمثل أيضا تهديد للدولة؛ رأيناه وعانت منه الإنسانية ودفعت ثمنا باهظا له، وهو بهذه الصورة يمثل أيضا تهديدا لما يمكن أن يقال أنه الدولة المدنية.
النقاش الدائر في مصر في هذه الأيام تغيب عنه كل هذه الملاحظات أيا كان رأينا في هذه الملاحظات، الآن تستشعر أن هناك جملة شعارات تطرح وشعارات تصلح لتعبئة الناس وحشدهم وإذا ظللنا نتعامل بمنطق التعبئة والحشد فنحن متجهون إلى كارثة كبرى.

** دعني أغوص معك قليلا.. إذا احتكمنا بأن ما يهدد قضيتنا الكبرى: مستقبل مصر، وما يهدد الدولة في طبيعتها المدنية هي مسألة التحول نحو الإطلاق والكُليانية، فهناك فريق يمكن أن نقول أنه بأكمله يقع في دائرة تسويغ وتسويق الإطلاق للمجتمع وهم السلفية، لكن أنا أظن أن الطرح الأزهري ثم طرح التيارات الإسلامية الجديدة ومنها خطاب "أون إسلام.نت" نفسه باعتبارها ضمن الخطابات الجديدة التجديدية، ثم أخيرا قطاع من الطرح الإخواني، هذه الخطابات لا تقع في إشكالية صياغة الأمر في صورة إطلاقية، حيث تصوغ الأمر باعتباره اجتهادا، وكمثال: ففكرة المدنية ننقلها إلى دائرة القانون والاحتكام إليه، وإلى المواطنة وتبعاتها.. كيف ترى هذا الاقتراب؟
د. علي مبروك:
 أتمنى أن يكون الأمر كما تقول، لكن للأسف يبدو لي أنه ليس كما تقول، والدليل على ذلك على سبيل المثال في الطرح الذي يطرحه الإخوان المسلمين باعتبارهم أكبر قطاع أو الصوت المنظم الذي عنده طرح يستحق أن تتحاور معه، المشكلة فيما يطرحوه حتى بالمعنى السياسي برأيي أن لديهم تحفظا فيما يتعلق بالولاية العامة أو ما يقال أنه منصب الرئاسة بخصوص ولاية النساء وولاية غير المسلم، وعندما نقول لهم لماذ؟ وإلام تستندون فيما تقولون؟ وتفاجأ أن ما يقدم إليك هو "إجماع الفقهاء".

** ألم يتم تجاوز هذا الطرح منذ فترة؟ فالمستشار طارق البشري، وهو أحد رموز التيار الإسلامي، ما يقدمه من اجتهاد يمثل جناح من الأجنحة الاجتهاد بالنسبة للإخوان، يرى أن الولاية صارت للهيئات وليست للأفراد، ومن ثم يمكن للولاية أن تكون لامرأة وقد تكون لقبطي لأنها ولاية جمعية للهيئات وليس للأفراد، يتشارك فيها الجميع بما فيهم القبطي والمرأة والرجل، بهذا المنطق فهناك مستويات مختلفة من الولاية تبدأ بمستويات صغيرة مثل منظمة الشهر العقاري المستديمة على سلوك البائع والمشتري؛ وصولا إلى فكرة المجلس الرئاسي المطروحة من جانب قطاع من الثوريين المصريين؛ يمكن أن تكون عضويته لسيدة أو لقبطي. وهناك اتجاه ثان براجماتي يرى فيه الإخوان ألا مشكلة في ولاية القبطي والمرأة باستناد إلى أن الشارع هو مصدر السلطة، وفي النهاية الأغلبية فيه ستحكم إلى من تؤول الولاية. فكيف ترى هذه الاجتهادات؟
د. علي مبروك:
 مع تقديري لأستاذنا طارق البشري أو ما تقوله من إن الإخوان يطرحون طرحا براجماتيا مستعدون فيه لأن يصل الأمر إلى حد قبول ولاية غير المسلم إذا كان هذا هو ما يقرره الشعب، وأنت وصفت طبعا الطرح الإخواني بأنه طرح براجماتي، ومعنى البراجماتية أنه طرح غير مؤسس نظريا؛ أي ليس له أساس، وأنه سيظل في الإطار العملي والإجرائي، وبالتالي سنتجاوز هذا الطرح لأنه ما زال يمثل عاملا من عوامل القلق.
أما فيما يتعلق بالطرح الآخر للمستشار البشري الخاص بأن الولاية للهيئات وليست للأفراد، أنا أتصور أنه هروب من مواجهة المسألة. المسألة في حاجة إلى اجتهاد، وبهذا الطرح نسد المنافذ أمام محاولات الخروج من الأزمة، لكي تحكم على الحل كله بإنه حل لا بد من نبذه، فالأمر يحتاج إلى اجتهاد من نوع آخر بخصوص المسألتين الأساسيتين المتعلقة بموقع غير المسلمين وموقع المرأة من الولاية، الأمر في حاجة إلى اجتهاد ولا بد أن نملك الجرأة لكي نقوم بهذا الاجتهاد، هذا هو ما أقصده.
في نظري، لابد من التعامل مع الإشكالات التي تمثل تحديا حقيقيا، وعلينا أن نواجهها جميعا حتى لا تكون خيارات الفرد مع دينه: إما إن يكون مضطرا لأن يترك دينه أو يتعامل معه بحيادية أو يضطر لتجاهل قيم أصبحت الإنسانية تتعامل بها الآن. نحن نعيش وسط حالة تطور إنساني يجب أن نتعامل مع قيمه المطروحة.
أما عن فكرة العودة إلى القدماء بالقول أن هذا إجماع الفقهاء فمثلا محمد مرسي رئيس حزب الحرية والعدالة عندما كان يتحاور مع علاء الأسواني في التليفزيون، محمد مرسي في الحقيقة عندما وصل النقاش إلى هذه المسائل وإنه هذه المسائل مما يتعارض مع طبيعة الدولة المدنية القائمة على عدم التمييز إلى آخره، محمد مرسي لجأ إلى الموقف المشهور بأن هذا إجماع الفقهاء. هنا أصبحت المدونة الفقهية المرجع في كل ما يقال. والمثير في هذه المسألة هو التعامل مع المدونة على أنها الدين. المسألة المتعلقة بوضع غير المسلمين والمسألة المتعلقة بالمرأة، هما بالفعل التحدي الذي يواجه المسلمين ككل وليس الإخوان وحدهم. ففي أي نقاش مع الغرب، يكون الإسلام في موضع المتهم من ناحيتين النقطة الأولى نقطة غير المسلمين والنقطة الثانية هي المتعلقة بالمرأة ووضعها.
إذا الأمر لا يتعلق فقط بالتعامل مع المشكلة السياسية في مصر وحدها بقدر ما هو متعلق بمشكلة أكبر في العالم الإسلامي وبين الغرب؛ لأن العالم الإسلامي متهم دائما من قِبَل الغرب بأنه فيما يتعلق بهاتين المسألتين لا يراعي المعايير الحديثة التي بلغتها الإنسانية. فالمطلوب أن نحلل هذه المدونة الفقهية، ونرى ما يؤسس لهذه المدونة، ونحدد الأفكار الأساسية التي تقوم عليها.

تم النشر في موقع أون اسلام بتاريخ 17 يوليــــو 2011
حوار / اســــــــــلام فؤاد


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق