الجمعة، أكتوبر 21، 2011

ديمقراطية من غير ديمقراطيين


                                        

لعل أحدا لا يجادل في أن أصل المأزق المصري الراهن يرتبط بما يتبدي من عوائق تحول دون إنجاز التحول الديمقراطي علي نحو سلس هادئ‏.‏ لكن هذا التصور ينطوي علي ما يجعله‏,‏ هو نفسه‏,‏
 مأزقا لابد من التفكير فيه; وأعني من حيث يقوم علي اختزال العوائق في مظهرها الخارجي القابل للمعاينة( والذي يتم تركيزه في القوي المضادة التي يعنيها إعاقة التحول نحو الديمقراطية في مصر).
وينسى أن ثمة ما يفوق هذا النوع من العوائق خطراً وكارثية; وأعني بها العوائق الباطنية الكامنة التي تتخفي في أنظمة التفكير ومنظومات القيم السائدة, والتي تكاد لتخفيها أن تستعصي علي الإمساك والمعاينة.
 ولسوء الحظ, فإن خطر وكارثية هذا النمط من العوائق المتخفية يتفاقم في السياق المصري الراهن, ليس فقط بسبب ما يبدو من غلبة حضوره في ممارسات قطاعات واسعة من النخبة التي تقوم علي إنجاز هذا التحول نحو الديمقراطية, بل- والأهم- بسبب شكل حضوره المراوغ الذي يجعل منه جزءا من بنية ذهنية وقيمية يستبطنها الأفراد داخلهم, فلا يستطيعون الانفصال عنها إلا عبر وعي نقدي ليس ميسورا للكثيرين منهم... وبالطبع فإنه لا معني للطلب من مثل هؤلاء الأفراد- الذين يستبطنون في أعماقهم تلك البنيات الذهنية والقيمية المعيقة للديمقراطية- أن ينتجوا الديمقراطية, إلا أنه الطلب للديمقراطية من غير الديمقراطيين.

ولأنه يغلب علي تشخيص النخبة للعائق( أمام الديمقراطية) أنه براني يقع في الخارج, فإن ما تصفه من العلاج اللازم لتجاوزه, لا يتعدي, بدوره, حدود الحل الخارجي البراني( متمثلا في ضرورة إستيفاء الإجراءات الديمقراطية الشكلية). وفي ذلك, فإنها لا تجاوز- رغم نواياها التي لا غبار علي نبالتها- حدود ما قام به أسلافها, علي مدي القرنين الماضيين- من الحرص علي إستيفاء الجانب الإجرائي الشكلي في الديمقراطية, وذلك من دون الإمساك بجوهرها العميق أبدا. فإن إستيفاء المباني الإجرائية الشكلية للديمقراطية, لا يعني أن المعاني التي تسكن تلك المباني قد حضرت معها, بل إنه قد يكون المقصود من الإلحاح علي قيام مجرد المباني, هو التغطية علي الغياب الفعلي للمعاني التي قامت تلك المباني, في الأصل, من أجل تفعيلها وتحقيقها.

ولعلي أبدأ بالإعتذار لإستخدامي ضمير المتكلم, لأني سأحيل إلي وقائع كنت طرفاً فيها, ومن ممارسة من يفترض أنها النخبة الأرقي; وأعني نخبة الجامعة التي أتشرف بالإنتماء إليها. فقد راحت تحضر الديمقراطية, ولكن كمحض إجراء براني راح يؤول- وللمفارقة- إلي تحصين أكثر القيم إبتعادا عن الديمقراطية ومخاصمة لروحها. ولعل ذلك مما يزيد المأزق الديمقراطي تفاقما; وأعني من حيث ما يتبدي من أن وعي الشرائح التي يجري التعويل عليها في إنتاج الوعي النقدي اللازم لتجاوز هذا المأزق, يكاد أن يكون- هو نفسه- ساحة لإشتغال عوائق الديمقراطية الكامنة المتخفية.

ففي إطار سعيه إلي إعادة تشكيل لجانه النوعية, أرسل المجلس الأعلي للثقافة إلي الأقسام العلمية المختصة بنشاط لجانه في الجامعات المصرية, طالبا ترشيحاتها لمن تراه أهلا من بين أعضائها لشغل عضوية تلك اللجان. في القسم الذي أنتمي إليه إستوفينا الشكل تماما, فقد منح السيد رئيس مجلس القسم لكل واحد منا ورقة فارغة ليدون فيها إختياراته علي نحو سري. لكنه وقبل البدء في تدوين الإختيارات راح أحد الزملاء ينبه الكافة إلي ضرورة أن يتذكروا أساتذتنا الكبار في اختياراتهم. ولعل الزميل, ومن دون أن يدري, كان يستدعي من المخزون المبدأ الآبوي لكي يشتغل في تلك اللحظة الحاسمة, وأبدا لم يخذله الزملاء, ولا المبدأ. فلو أن أحدا تأمل في النتائج التي أسفر عنها هذا الإجراء الديمقراطي( اللطيف) لما وجد إلا أنه قد آل إلي ترسيخ قيم الآبوية والسلطوية والحرص علي المصالح الأنانية, والتي تتناقض جميعا- وعلي نحو لا يقبل المنازعة- مع روح الديمقراطية الحقة.

وهكذا فإن أحدا لم يتساءل عن المهام المنوط بتلك اللجان آداؤها; وذلك علي النحو الذي يتيح له أن يحدد إختياراته علي أسس موضوعية عقلية; بحيث تكون للأصلح والأقدر علي التصدي لتلك المهام, بل اتجه سريعا إلي تفعيل القواعد والمبادئ الحاكمة لممارسته وطريقة إشتغاله; والتي هي لاعقلانية في جوهرها لسوء الحظ. فإذ لا يتأسس إختيار شخص ما لآداء مهمة بعينها علي الوعي( أولا) بطبيعة المهمة التي يتعين عليه القيام بها, ثم بقدرته( ثانيا) علي القيام بأعباء تلك المهة, فإنه لا يكون إختيارا قائما علي العقل. وإذ لا يكون قائما علي العقل, فإنه لا يكون- رغم إستيفائه لمتطلبات الشكل- إختيارا حرا. إنه إختيار يقوم علي أحكام وتحديدات مسبقة تسود الثقافة, ويستبطنها الفرد داخله إلي الحد الذي تصبح معه جزءا من صميم كينونته; وعلي النحو الذي يتعذر معه أن تكون موضوعا لفحص وإختبار نقدي, لأنه لا يقدر علي تحقيق الإنفصال عنها ليفحصها موضوعيا. ومن هنا ما يمكن الحكم به عليها من اللاعقلانية. إن المفارقة تتآتي هنا من أن قسما علميا يفترض فيه أن يقوم علي حراسة العقل( وهو الأعلي لذلك في الرتبة بين أقسام العلوم الإنسانية) يمارس تبعا لمبادئ اللاعقل من الآبوية والسلطوية والمصالح الأنانية.

وحين يضيف المرء إلي ذلك ما يلاحظه, مما يتكشف عنه المشهد المصري الراهن, من سعي بعض القوي السياسية الناشطة علي سطحه إلي تشغيل الإجراء الديمقراطي بكافة مظاهره البرانية( من الترشح والإنتخاب وخلافه) إلي تكريس وترسيخ ما ستكون أكثر أنواع السلطة إطلاقا وشمولا; وذلك من حيث يستحيل إخضاعها للمساءلة والمحاسبة بسبب تخفيها وراء حصانة الدين وقداسته, فإن ذلك يعني أن الإجراء الديمقراطي الذي يستوفي ترتيبات الشكل سوف يكون- وللمفارقة- محض آداة لإنتاج أكثر الديكتاتوريات تسلطا وكليانية. فإنه ليس من شك في أن قوة تقول إنها تبغي السلطة لتطبيق شرع الله وقانونه, سوف تجعل من أي محاسبة أو مساءلة لها- حين يصل بها الإجراء الديمقراطي إلي سدة السلطة- بمثابة مساءلة ومحاسبة لشرع الله الذي تحكم بإسمه, والذي يتعالي علي المساءلة والحساب. وغني عن البيان أن إلغاءا للمساءلة والحساب هو إلغاء للديمقراطية في الجوهر; وعلي النحو الذي تتجلي معه مفارقة الإجراء الديمقراطي( المستوفي لترتيبات الشكل) وهو يعمل ضد حقيقة الديمقراطية علي نحو كامل.
وإنطلاقا مما سبق, فإنه لا ينبغي الظن بأن إستيفاء ترتيبات الشكل( فيما يخص التحول الديمقراطي) سوف يؤدي آليا إلي تحقيق الجوهر والروح; حيث إن هذا الأخير يبقي مشروطا بعمل معرفي يقوم عليه الراسخون في العلم الإنساني, وتكون ساحته الجامعة التي لابد أن معني إستقلالها يتجاوز- في وعي أصحابه- مجرد الدعوة الراهنة لإنتخاب قياداتها, إلي ضرورة تأهيلها لآداء دورها الرئيس في البحث وإنتاج المعرفة, وبناء شروط التأسيس. يحتاج الأمر, إذن, إلي إجتهاد معرفي, يبدو أن ما يشغل النخبة عنه هو ما يبذله نجومها من الجهد الليلي في الثرثرة, أمام الكاميرات, بكل ما يحفظون من قاموس المكرور والمعاد.

لابد, في المقابل, من عمل جدي يتجاوز ثرثرات الليل إلي تعرية البنية العمية التي تقف وراء تلك الممارسة التي تهدد التحول الديمقراطي المصري; وهو عمل ستكون ساحته الثقافة التي تتحصن فيها تلك البنية الكامنة العميقة, والتي تتحقق في شكل قواعد تفكير, ومنظومات قيم, وموجهات سلوك تظل جميعها بمنأي عن هيمنة الوعي عليها. ومن هنا أن تفكير الناس وقيمهم وسلوكهم تصبح ساحات لإعادة إنتاج هذه البنية أبدا. لابد, بالتالي, من سيطرة الوعي علي الأشكال التي تتحقق فيها البنية العتيقة( تفكيرا وقيما وسلوكا), وإلا فإن المأزق سيظل قائما أبدا; وأعني مأزق ديمقراطية يراد منها أن تشتغل في إطار بنية ذات طابع ذهني وقيمي وسلوكي مناقض لجوهرها, فلا تفلح إلا في إستيفاء الشكل من دون الجوهر والروح.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 20 / أكتوبر /2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق