الخميس، ديسمبر 01، 2011

طلب النبي واستجاب الله‏!‏





حين تعود الأمة بذاكرتها إلي العصر النبوي الزاهر‏,‏ فإن أحد المشاهد التي تظل ماثلة في وعيها‏:‏ مشهد
الصحابة رضوان الله عليهم. وهم يتلقون آيات القرآن الكريم من فم الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم, ثم يسارعون إلي إنفاذها وتطبيقها دون إبطاء أو تسويف.
يتجاوز القصد من إيراد هذا المقتطف مجرد تصوير موقف صاحبه( الذي هو الآن أحد أعلام المؤسسة الدينية الكبار). إلي كونه يعبر, بدقة, عن التصور الذي إستقر بين جمهور المسلمين, للكيفية التي تعامل بها مع القرآن, الجيل الأول من المسلمين الذين تلقوه من النبي الكريم مباشرة.
يقوم التصور, إذن, علي أن الصحابة قد تلقوا القرآن, وفهموا معانيه المحددة ودلالاته المنضبطة, ليطبقوها من دون إبطاء أو تسويف, ثم تلقف علماء الأجيال التالية تلك المعاني المحددة والدلالات المنضبطة, ليؤصلوا منها الأصول ويجعلوا منها سياجا منيعا يصون قدسية القرآن, لكي تنتهي تلك المعاني والدلالات إلي وعي الأمة ثابتة راسخة مستقرة. ورغم بساطة هذا التصور ومثاليته التي أتاحت له سهولة الإستقرار والرسوخ, فإن إنشغاله بتثبيت السلطة(سلطة الصحابة, ثم سلطة من تلقوا عنهم من علماء الأجيال التالية, والرجل أحدهم لا محالة), يتجاوز إنشغاله بالحقيقة.
إذ الحق أن نظرة مدققة علي مايعرضه تكشف _ أو تكاد _ عن أن مايسكنه من بلاغة الكلمات يفوق بكثير ماينطوي عليه من الوقائع والحقائق. ولربما كانت الحقيقة الظاهرة التي يعرض لها هذا التصور, هي ما أورده من أن علماء الأجيال التالية من الأصوليين وغيرهم, قد مارسو ضروبا من التقييد والتضييق التي إنتهي معها التعدد في مجالي القراءة والمعني الذي إنطوت تجربة الصحابة مع القرآن, إلي آحادية صارمة للقراءة والمعني.
 وبالطبع فإن الرجل لايري في ماقام به هؤلاء( العلماء) إلا أنهم قد صانوا المعاني المحددة والدلالات المنضبطة التي كانت للقرآن في ذهن الصحابة, وأوصلوها إلي وعي الأمة لتبقي ثابتة وراسخة فيه, وذلك علي الرغم من حقيقة ماتكشف عنه القراءة المدققة للمصادر القديمة من أن هؤلاء العلماء قد إنتقلوا بالمسلمين ـ من خلال مامارسوه من إختيارات أو حتي إنحيازات لقراءات وآراء بعينها, وتشوية وإزاحة مايختلف معها ـ من سعةالتعدد إلي ضيق الأحادية, الذي تعاني منه المجتمعات الإسلامية الراهنة علي كافة الأصعدة تقريبا.
والحق أن الأمر لايتجاوز حدود السعي إلي تثبيت ماينطوي عليه هذا التصور من أحادية القراءة والمعني فيما يخص القرآن, ولو كان ذلك عبر طمس حقيقة تجربة الصحابة مع القرآن, والتي تكشف ماتورده عنها المصادر المعتمدة من جانب أهل السنة, بغزارة ملفته, عن ماتنطوي عليه من ثراء يتآتي من أنهم كانوا بشرا, لم يختلفوا في فهمهم للقرآن فحسب, بل وآختلفوا في قراءتهم له, بحسب مايقوم بين قبائلهم من إختلاف اللسان, ولو كان ضيئلا. بل إنهم قد تلكأوا ـ بحسب المصادر نفسها ـ في إنفاذ بعض ماكان يشق عليهم بسبب تعارضه مع تقاليدهم الموروثة.

ومن هنا ماأورده الطبري في تفسيره من أنه حين نزلت آية المواريث في سورة النساء التي جعلت للأنثي وللطفل نصيبا من المال, حرمتهم منه التقاليد المتوارثة
( لأنهم لا يقومون بالغزو وهو أصل الثروة في المجتمعات العربية القديمة),
 فإن ذلك كان شاقا علي الناس حتي لقد قالوا  والرواية للطبري ولغيره من المفسرين أيضا تعطي المرأة الربع والثمن, وتعطي الإبنة النصف, ويعطي الغلام الصغير, وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ويحوز الغنيمة, إسكتو عن هذا الحديث لعل رسول الله صلي الله عليه وسلم ينساه أو نقول له فيغيره. ورغم أن السماء لم تغير حكما, وأنهم قالوا حنئذ إنه لواجب لابد منه, فإنه يبقي أنهم كانوا بشرا, وأن بشريتهم جعلتهم يتلكأون في إنفاذ أمر السماء لما فيه من المشقة عليهم, وألي حد أنهم قد تمنوا نسيانه آو تغييره.
وأما أنهم كانوا بشرا تعددت قراءاتهم وأفهامهم للقرآن, فان ذلك ماتفيض بتأكيده موسوعات التفسير ومدونات الحديث.
ومن ذلك ماأورده إبن حجر العسقلاني في فتح الباري بشرح صحيح البخاري مما يمكن إعتباره دليلا علي حضور التعدد القرائي للقرآن بين الصحابة, وذلك عند شرحة عن عمر بن الخطاب الذي يقول فيه:
سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله( صلى الله عليه وسلم ), فإستمعت لقراءته, فإذا هو يقرأ علي حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله, فكدت أساوره( أي أراجعه) في الصلاة, فتصبرت حتي سلم, فلبيته( أي أمسكة من رقبته) بردائه, 
فقلت:
 من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ,
 فقال:
 أقرأنيها رسول الله,
 فقلت: 
أرسله( أي إتركه), إقرأ ياهشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ,
 فقال رسول الله:
 كذلك أنزلت,
ثم قال:
 إقرأ يا عمر, فقرأت القراءة التي أقرأني,
 فقال رسول الله:
 كذلك أنزلت. إن هذا القرآن نزل علي سبعة أحرف, فإقرأوا ماتيسر منه.

 وتفسر الرواية هذا الترخيص
وهكذا يكون النبي الكريم قد طلب رخصة التعدد في القراءة تيسيرا علي العباد, وإستجاب له الله بجلاله, ومارس الصحابة هذا التعدد( قراءة ومعني) فعليا, ثم جاء العلماء لأسباب بعينها وقيدوا هذا التعدد, وتابعهم الناس علي آحادية القراءة والمعني. ولعله يلزم التأكيد, هنا, علي أن من يدافع عن الحرف الواحد( في القراءة) والمعني الواحد( في التفسير, إنما يدعم ـ ولو من دون أن يدري حكم الواحد( في السياسة). وسلطة الأب( في المجتمع). وإ يبدو, هكذا, أن الأحادية السياسية والإجتماعية إنما تجد مايؤسس لحضورها الراسخ في الأحادية المعرفية, فإن المفارقة تتجلي في سعي الكثيرين إلي بناء التعددية السياسة غلي سطح بنية ذهنية لاتعرف إلا آحادية القراءة والمعني. بل الأمر يقتضي أن يكون بناء التعددية في( الواقع) مصحوبا ـ إذا لم يكن مسبوقا ـ ببنائها في العقل).

وبالرغم من ذلك, فإنه يلزم التأكيد علي أن الأمر لايتعلق فقط بضرورة السعي إلي فتح الباب أمام التعددية في مجالي القراءة والمعني( وحتي العقل), لما يؤدي إليه ذلك من ترسيخ حضورها في مجالي السياسة والمجتمع, بل ولما يؤدي إليه ـ وهو الأهم ـ من تمهيد السبيل أمام قول جديد في حقل الخطاب الإسلامي يخرج به من دائرة الجمود والتكرار التي تردي إليها علي مدي القرون.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 1 /ديسمبر /2011


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق