الخميس، ديسمبر 15، 2011

الدولة والإبريق‏..‏ هامش فلسفي علي أمثولة الأستاذ البشري



 مضي أسابيع علي نشر جريدة الشروق مقالاً للأستاذ طارق البشري في الجدل حول الدينية والمدنية فإن أهمية الموضوع تقتضي إستئناف الحوار حول ما يثيره من أفكار تبدو في حاجة إلي التفنيد والرد‏.‏
وإذ أقام الأستاذ مقاله علي أمثولة, مستعارة من مولانا جلال الدين الرومي, فإن تفكيك تلك الأمثولة سيكون مدار الإنشغال في هذا الحوار.
تحكي الأمثولة عن شيخ طلب من تلميذه الأحول أن يأتيه بإبريق الماء الخاص به. ولما صور له الحول الإبريق إبريقان, فإنه قد إحتار أيهما يأخذ, ثم هداه تفكيره إلي أن يكسر أحدهما ويأخذ الآخر, لكنه لما كسر أحد الإبريقين لم يجد الآخر.
 ويرتب البشري علي ذلك, أن جماعات المصريين التي تري الدولة الدينية والدولة المدنية, دولتين, وليستا دولة واحدة, إنما تعاني من نفس داء التلميذ الأحول. وبالطبع فإن عليهم أن يوقفوا حجاجهم ضد الدولة الدينية; لأنهم إذا كسروها لن يجدوا الأخري.
للوهلة الأولي, ينصرف الظن إلي أن قصد الأستاذ من توظيف الأمثولة هو قصد معرفي يتمثل في إيضاح فكرته وتقريبها للأفهام, ولكن قراءة مدققة للسياق الذي يجري توظيفها فيه يكشف عن دور إيديولوجي يراد لها أن تلعبه, ويتمثل في إقصاء الخصوم تثبيتا لإتجاه سياسي بعينه. فحين يوضع المصريون القائلون بالتعارض بين الدولة الدينية والدولة المدنية, في خانة المرضي الذين تجعلهم أنظارهم الكليلة يتوهمون ما لا حقيقة له من التعارض بينهما, فإن الإقصاء وحده لن يكون مصيرهم, بل إنه سيكون واجبا إحتجازهم في المشافي, فلا يبرحوها إلا وقد برأوا من توهماتهم الكليلة.

ولعل ما يؤكد علي الدور الإيديولوجي وليس المعرفي لتوظيف الأستاذ البشري للأمثولة, يتمثل في أنها إذا كانت تندرج في إطار التفكير بالتمثيل أو التشبيه, فإن كفاءة هذا النوع من التفكير ترتبط بإنتماء طرفيه( المشبه به والمشبه) إلي مجال وجود واحد; وبمعني أنه لا يمكن نقل صفة الموجود الحقيقي إلي الموجود الإعتباري لإختلاف مجالي الوجود.
وهكذا فإنه لا يمكن نقل صفة المريد الأحول( الذي هو موجود حقيقي) إلي الشعب المصري( الذي هو موجود إعتباري); وذلك تماما كما أن الإبريق( الذي هو موجود حسي) لا يمكن أن يكون معادلا للدولة( التي هي موجود معنوي). وحين يدرك المرء أن تباين مجالات الوجود يستوجب تباين طرق الإدراك, فإنه يترتب علي ذلك عدم جواز تمثيل ما يتصوره المصريون من التعارض بين الدولتين( الدينية والمدنية) الذي هو من قبيل الإدراك العقلي, بما يصوره الإدراك الحسي المخادع للمريد الأحول من أن الإبريق الواحد إبريقان. وبالطبع فإنه لا يمكن الإدعاء ـ تبعا لذلك ـ بأن إحتجاج المصريين ضد الدولة الدينية سيؤدي إلي تحطيم الدولة( كمفهوم وكيان) علي العموم, بمثل ما أدي خداع البصر, في حال المريد الأحول, إلي تحطيم الإبريق الحقيقي.
وفضلا عن ذلك, فإن وعيا بالسياق الذي تشتغل فيه الأمثولة عند كل من مولانا جلال الدين والأستاذ البشري يكشف عن التباين الكامل بينهما في القصد من توظيفها. فإنه كان يمكن لمولانا الرومي أن يجعل مريده الأحول يهوي بفأسه علي النسخة المتوهمة للإبريق ليكسرها, وذلك بدلا من نزوله بها علي الإبريق الحقيقي. لكنه أراد له أن يكسر الإبريق الحقيقي, ليؤكد له مدي ما يمكن أن يؤدي إليه خداع الحواس من التضحية بالوجود الحقيقي; وذلك ليتسني له الإرتقاء من أحبولة الحواس المخادعة إلي ضروب أرقي من الإدراك العقلي والذوقي. وهكذا فإن الشيخ ليس منشغلا بنقد حواس مريده المخادعة العليلة, إلا بقدر ما يؤدي إليه هذا النقد من الترقي به في معراج الإدراك المجاوز للحس.

والحق أن المدنية هي المتلازمة التي إذا سقطت, فإن الدولة تسقط معها آليا; وأعني من حيث أن قوام الواحدة منهما يكون بالآخري. فإنه لا قوام للدولة ـ بحسب أي قراءة تاريخية أو معرفية ـ إلا بالمدنية, تماما بمثل ما لا قوام للمدنية إلا بالدولة. إن ذلك يعني أن سقوط المدنية ولا شيء غيرها, هو ما يؤول إلي تحطيم الدولة وإنحطاطها فعلا. فإذ الإجتماع المدني هو المنشئ للدولة بحسب ما هو معلوم, فإن ذلك يرتبط بأنه لا قوام لهذا الإجتماع المدني إلا بالدولة, والعكس. ومن حسن الحظ, أن ذلك ما تنطق به النشأة التاريخية للدولة, وذلك فضلا عن المفهوم المستقر لها في الفكر السياسي.

وحتي إذا إحتج أحدهم بأن للعرب تجربة مختلفة مع الدولة, يكشف عنها قول ابن خلدون:
 إن العرب لم يحصل لهم الملك إلا بالدين
 فإن ما قاله تفسيراً لذلك يكشف عن أن الدين لم يكن بديلا للإجتماع المدني كأساس للدولة, بقدر ما كان هو السبيل إلي تحصيل هذا الإجتماع.
 وإذن فإنها كانت تجربة خاصة يربطها ابن خلدون بما كان عليه العرب من خلق التوحش الذي جعلهم أصعب الأمم إنقيادا..., فإذا كان الدين سهل إنقيادهم وإجتماعهم. وهكذا كان حضور الدين مرتبطا بتسهيله للإجتماع المدني; وعلي النحو الذي تكون معه المدنية هي الغاية من ظهور الدين.
 والمهم أن ذلك يبقي جزءا من تجربة خاصة بالعرب, ولا يمكن تعميمها خارج سياقها. ففي مصر مثلا, كان النهر ـ وليس الدين ـ هو المسهل لإجتماع أهلها المدني. ولعل ذلك يعني أن تجربة العرب مع الدولة لا تخلخل قاعدة أن قوام الدولة يكون بالمدنية; بل إنها, علي العكس, تؤكد أن حضور الدين قد إرتبط بتحصيل المدنية. وهكذا, فإن الدين ليس هو المتلازمة التي يؤدي تحييدها إلي كسر الدولة, بل إن المدنية هي المتلازمة التي تزول مع زوالها الدولة.
 ولعل الدليل علي ذلك يأتي كاشفا من الصومال; التي تلازم سقوط الدولة فيها مع ما جري من الغياب الكامل للمدنية التي تكشفها مجرد نظرة علي شوارع عاصمتها المدمرة, ولم يتلازم هذا السقوط للدولة مع غياب الدين الذي راح يجري, علي العكس, إستدعاؤه لكي تتناحر الفصائل الصومالية المتحاربة تحت راياته. ولكن ما هو جوهر تلك المدنية التي هي قوام الدولة؟
لعل ما يلفت النظر حقا, أن معظم المتجادلين حول المدنية يركزون علي تعريفها بما يتصورون أنه نقيضها( العسكري والديني), ولا يتوقفون عند جوهر ما تعنيه بمعزل عن نقائضها. ولعل جوهر المدنية هو وعي البشر بضرورة العيش المشترك, مع وجوب أن ينضبط هذا العيش بقانون يتوافقون عليه; وبحيث يتجاوزون حالة ما قبل المدنية التي كان الفرد فيها منشغلا بإشباع مجرد حاجاته الأنانية معتمدا علي قوته, ولو علي حساب الآخرين.
 ولأن القانون يكون تعبيرا عن إرادة الناس ووعيهم, فإنه لا يمكن أن يكون جامدا, وإلا فإنه لن يكون ممكنا إلا فرضه علي الناس بمحض القوة الباطشة المستبدة. وغني عن البيان أن هذا الفرض علي الناس بالقوة هو ما يمثل التهديد الأكبر ليس فقط للمدنية, بل وللدولة التي سيكون مآلها السقوط والتفكك إذا ما قامت علي مبدأ الفرض الإكراهي لشرعيتها بالقوة علي الجماعات المكونة لها.

وترتيبا علي ذلك, فإن ما يقوم به الصاخبون في مصر من إستدعاء الدين كمنظومة فقهية جاهزة وثابتة, ليجري فرضها كرها علي المسلمين وغيرهم( بسبب ثباتها وجمودها), هو ما يمثل التهديد الأكبر للمدنية والدولة معا. وللمفارقة, فإنه يمثل تهديدا للدين أيضا; وعلي النحو الذي لابد معه أن يكون الدين موضوعا للتفكير ليستوعب حركة الواقع, فيستوعبه الواقع بالتالي. ومن حسن الحظ أن ذلك ما يدفع إليه الإسلام فعلا, وذلك علي عكس ما يتصور أولئك الصاخبون من الذين يغطون علي بلادة العقل بإرتفاع الصوت.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 15 /ديسمبر /2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق