الخميس، مارس 08، 2012

متـي تكون إرادة الشـعب حــرة حقـــا؟




 "لم أكن أعرف أن سبحان الله يمكن أن يعصي بها الله إلا في هذا المجلس "
تنسب المصادر إلي عبدالقاهر الجرجاني هذا القول الذي يستهدف التأكيد به- وهو البلاغي الكبير- علي أن أنبل الشعارات قد يكون السبيل إلي أحط الغايات; وإلي الحد الذي يمكن أن يكون معه تسبيح الله هو الباب إلي معصيته.
ولعله يمكن القول- قياسا علي قول الجرجاني- أن المرء لم يكن يعرف أن إرادة الشعب يمكن أن يتسلط بها البعض علي الشعب, إلا في سياق المشهد المصري الراهن; الذي يتبدي فيه جليا سعي البعض إلي توظيف المفهوم في تحقيق مكاسب سياسية تخصه, ولو كان ذلك علي حساب الإرادة الحقة وخصما منها من جهة, وبصرف النظر عما يضمره هذا التوظيف من تشويه الروح الحقة لمفهوم الإرادة من جهة أخري. 

وهكذا فحين يقوم فريق من المصريين بإشهار مفهوم إرادة الشعب- كالسيف- في وجه كل من يطرحون تصورا يختلف مع ما يجري تحشيد الجمهور وراءه, فإنهم لا يفعلون بذلك إلا أن يستخدموا هذا المفهوم علي طريقة سبحان الله التي يراد بها عصيان الله.
 وحين يدرك المرء أن الفريق الذي يتمترس الآن وراء إرادة الشعب هو الأكثر قدرة علي حشد الجمهور عبر التأثير في ميوله الدينية الكامنة, فإن ذلك يعني أن الإرادة, هنا, ليست حرة أبدا, بل إنها خاضعة لتوجيه ما لا يقدر الجمهور علي مجرد التفكير فيه( ناهيك عن أن يري رأيا فيه).
ولعل ذلك يندرج في إطار ذات الممارسة الشائهة التي تجعل فريقا من المصريين يقيم التراتب التنظيمي لبناء جماعته علي مبدأ السمع والطاعة( بما يقوم عليه من ثقافة التلقي والإذعان), هو الأكثر تخفيا وراء يافطة الديمقراطية( بما تقوم عليه من القدرة علي التفكيرالمستقل المنفتح علي النقد والحوار), رغم ما يبدو من أن الديمقراطية لا تكون, والحال كذلك, إلا محض شعار فارغ يراد التغطية به علي نزعة سلطوية كامنة.
والحق أن ما يمارسه الكثيرون من التلاعب بمفهوم إرادة الشعب إنما يرتبط بغموض فكرة الإرادة الذي يجعل الناس يتصورون أن كل ما يصدر عنها يكون دائما فعل حرية واختيار, وذلك فيما تقطع التجربة بأن ما يصدر عنها لا يمكن, في أحيان كثيرة, إلا أن يكون فعل إكراه واضطرار.
 ويرتبط ذلك بأن الفعل الحر فعلا إنما يصدر عن إرادة يحددها الوعي, وليس عن إرادة تنفلت من تحديداته. ولكن الإرادة تكون, بحسب طبيعتها, أوسع مجالا من الوعي, لأنها تنفتح علي ما يتجاوز حدوده( من العواطف والانفعالات الأولية والرغائب الغريزية, بل وحتي المكبوتات اللاواعية).
ولهذا فإن كل ما يصدر عنها لا يمكن أن يكون أبدا فعل حرية. وهكذا فحين يقع الناس في قبضة انفعالاتهم وعواطفهم, وحتي أوهامهم, فإنهم لا يمكن أن يكونوا أحرارا حقا, بل إن الفعل الصادر عنهم يكون فعل إكراه واضطرار; ومن دون أن يؤثر في ذلك أنه قد يكون مستوفيا لكل مظاهر الفعل الحر وفقط فإن كون مصدر الاضطرار في هذا النوع من الفعل لا يكون القهر المادي الخارجي لسلطة متعسفة, هو ما يجعله يبدو وكأنه فعل حرية.
 وغني عن البيان أن الطغاة جميعا يلعبون علي هذا المخزون الانفعالي العاطفي( وحتي الغرائزي) الراكد, فيقومون بتوجيه شعوبهم, عبر استثارة هذا المخزون, إلي ما يقولون إنها إختيارات تلك الشعوب, في حين انها تكون محض اختياراتهم الخاصة.

وإذا كانت الانتخابات هي الآلية التي أتاحها النظام الحديث, لتكشف عبرها الشعوب عن إرادتها الحقة, فإنها تكون آداة الطغاة في إنفاذ مراوغة تخفيهم أيضا. ويرتبط ذلك بأن آلية الانتخاب هي- وبلغة أهل القانون- آلية إظهار للإرادة, وليست أبدا آلية إنشاء لها. ومن هنا لزوم التنويه بأن الشرط اللازم لتحقق الإرادة الحرة هو الوعي; بما هو قدرة علي التفكير المستقل غير القابل للتوجيه, والذي يستحيل مع غيابه أن تكون للشعوب إرادة حرة, حتي ولو جري سوقها لصندوق الإنتخابات كل بضع سنوات.
إن ذلك يعني أن استيفاء الشرط السياسي( متمثلا في الإجراء الإنتخابي), من دون حضور الشرط الثقافي( متمثلا في القدرة علي التفكير المستقل), لا يمكن أن يكون دليلا علي أن إرادة الناس هي فعلا حرة. ومن حسن الحظ, أن الحقبة الحديثة قد شهدت نماذج عدة لشعوب جري سوقها, عبر التلاعب بعواطفها وأوهامها, إلي ما لا يمكن أن يكون إختيارا حرا أبدا, وذلك لأن الإستبداد لا يمكن أن يكون إرادة لأحد, ناهيك عن أن تكون هذه الإرادة حرة.
ولقد كانت مصر- مع مطلع ثمانينيات القرن الماضي- مسرحا لتلاعب نخبتها بما قالت إنه إرادة شعبها; وهو التلاعب الذي تحقق- لسوء الحظ- عبر التخفي وراء الدين. فقد شاءت النخبة, آنذاك, أن تطلق مدد الولاية لحاكمها من غير حد زماني تنتهي إليه.
 وإذ لا يمكن لأحد أن يجادل في أن إطلاق الولاية للحاكم من دون تحديد لمدة ولايته هو السبيل إلي تكريس إستبداده وفساده, فإنه ليس من شك في أن إرادة هذا الإطلاق
( التي ستكون إرادة للإستبداد حينئذ),
لا يمكن أن تكون فعل إختيار, بقدر ما هي فعل إكراه وإضطرار ألجأت النخبة إليه المصريين حين ربطت هذا الإطلاق للولاية من دون تحديد زماني بجعل مبادئ الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع. ما حدث, إذن, هو أن النخبة الحاكمة كانت هي التي أرادت الاستبداد( عبر إطلاق الولاية للحاكم; الذي كان الرئيس السادات, والذي لم يستفد من هذا الإطلاق وتركه لخلفه يستفيد منه حتي جري خلعه أخيرا), ولكنها راحت تتخفي وراء الشعب; حين جعلت من هذا الاستبداد إرادة له. لكنها لم تنجح- ولسوء الحظ- في جعل الاستبداد إرادة للشعب إلا عبر التلاعب بالدين; وعلي النحو الذي وجد الناس معه أنفسهم مضطرين لقبول ما تريده النخبة من الاستبداد, وإلا فإنهم سيخرجون علي ما يعتبرونه صحيح دينهم.
 وهكذا فإن سعي النخبة إلي تثبيت هيمنتها يجعلها لا تتورع عن اصطناع إرادة للشعب, ولو كان هذا الإصطناع يتحقق عبر الإساءة إلي الدين, من خلال استخدامه في التغطية به علي ما تبتغي من كسب سياسي. ولسوء الحظ, فإن شرائح واسعة من النخبة المصرية لا تزال, للآن, تستخدم الدين في اصطناع إرادة للشعب تغطي بها علي أهدافها السياسية الخاصة.

وأخيرا فإن الإنصاف يقتضي الإقرار بأن التلاعب بإرادة الشعوب لا يتحقق من خلال الدين وحده; وأعني من حيث تكشف التجربة عن أن إثارة مشاعر الخوف والهلع عند الشعوب, واستنفار النوازع الغريزية المكبوتة في لاوعيها الجمعي, هي كلها مما يمكن معه تعبئتها في إتجاه بعينه يراد لها أن تمضي فيه. ولعل شيئا من ذلك قد حدث مع المصريين الذين يحتاجون إلي عمل كبير لكي تصبح إرادتهم حرة حقا; علي أن يكون مفهوما أنه عمل ثقافي ممتد, وليس عملا سياسيا تصنعه الخطابة.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 8 / مارس / 2012


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق