الخميس، يونيو 14، 2012

في أخطاء النخبة وخطاياها‏!‏




عملاً بمنطق إبراء الذمة‏,‏ فإن شرائح النخبة المتغلبة في مصر
 لا تكف عن إعلان براءتها من أي مسئولية عن الارتباك والتردي الحاصل في قلب المشهد الراهن, وذلك لتلقي بالتبعة كاملة علي كاهل غيرها, ومن دون أن تعترف بنصيب لها( ولو محدود) في هذا التأزم.

والحق أن تفكيراً ينطلق من الوعي بأن دور النخبة, علي العموم,إنما يتجاوز مجرد الانشغال( الآني) بالجوانب الإجرائية من الممارسة السياسية إلي التركيز علي القيم التي تؤسس( في الآجل) لممارسة ديمقراطية تتميز بالثبات والرسوخ, ليكشف عن أن مقدار مسئولية هذه الشرائح النخبوية المتغلبة( بقوة الحناجر وأناقة اللباس)عن التأزم الراهن, إنما يتجاوز كل ما يمكن نسبته إلي الأطراف الأخري من الفاعلين علي الساحة, كالمجلس العسكري مثلا.

 لا يعني ذلك, بالطبع, أنه ليس لغير النخبة أي نصيب من المسئولية عن الارتباك الحاصل, بقدر ما يعني وجوب أن تقر بدورها الحاسم في البلوغ بالأزمة إلي ما وصلت إليه, مما ينذر بأوخم العواقب علي مسار التحول الديمقراطي في مصر; وأعني من حيث إن هذا الإقرار يمكن أن يكون مقدمة لتحول في رؤاها وسلوكها علي النحو الذي قد يسمح بإعادة ترتيب المشهد في اتجاه أكثر رشدا وإيجابية.
وهنا يلزم التنويه بأنه إذا كان حجم المسئولية( عن مسألة ما) يتحدد بفداحة ما يترتب علي التفريط فيها من أخطار, فإن ما يترتب من الأخطار علي إهمال تأسيس الفضاء الذهني والنفسي والسلوكي لممارسة ديمقراطية راسخة
(والذي هو عمل النخبة الرئيس),
 إنما يتجاوز بكثير كل ما يمكن أن يترتب علي فساد الإدارة الإجرائية للمجلس العسكري للتره من خلع مبارك للآن.

 ففضلا عن أن فساد الإدارة الإجرائية يعد, هو نفسه, فرعا لأصل هو تشرذم النخبة وهشاشة وعيها, فإنه فيما يؤول فساد هذا الإجراء إلي التعويق الجزئي لمسار التحول الديمقراطي, فإن إهمال تأسيس الفضاء الذهني والنفسي والسلوكي المؤسس للديمقراطية سوف يؤدي إلي تعويق هذا المسار كليا.
 ولسوء الحظ, فإن هذا الإهمال للتأسيسي هو ما يغلب علي ممارسة النخبة التي لاتزال تتعامل مع الجمهور كآداة لحسم الصراع بين شرائحها المتناحرة, وذلك عبر الاكتفاء بتهييجه وحشده, ومن دون أن تنشغل بالإعداد الذهني والنفسي والسلوكي لهذا الجمهور علي النحو الذي يسمح بترسيخ الأسس لممارسة ديمقراطية حقة.وهكذا فإن الجمهور لم يزل حاضرا في وعي النخبة كمحض أدوات تتلاعب بها عبر منطق التهييج والإثارة, ولم يسمح له بالارتقاء- عبر تنوير وعيه- إلي مقام الذوات التي لابد من احترام اختياراتها.
 ولسوء الحظ, فإنه إذا كان يمكن التمييز في تركيب هذه النخبة بين أجنحة تتبرقع بالقداسة, وأخري تتلون بالحداثة, فإنه ليس من فارق بينهما أبدا, بخصوص هذا الموقف من الجمهور.

إنهم, مثلا, يدعون هذا الجمهور لممارسة حقه في الانتخاب, وما أن تأتي النتائج بما لا يريد البعض ويشتهي, فإنه يصرخ رافضاومنددا. بل إن ثمة من مضي إلي استباق النتائج, معلنا رفضه للعملية الانتخابية برمتها إذا جاءت نتائجها بمن لا يريد,
 وداعياً جمهوره 
(الذي يتعامل معه بمنطق التابع مفتول العضلات, وليس الشريك العارف لفضيلة التفكير

إلي الاستعداد للاحتشاد في الشوارع والميادين إلي حين إلغاء النتائج التي لا يتقبلها سيادته.ولسوء الحظ فإن هؤلاء, وعلي طريقة نخبتهم, كانوا يؤثرون( العاجل)المتمثل في الحصول علي بعض الكسب الذي لا يدوم, علي   (الآجل)الذي يتمثل في تربية الجمهور علي ضرورة احترام الإرادة التي يعبر عنها مبدأ الانتخاب.


 وحتي على فرض أنهم يرون هذه الإرادة غير حرة, بل وليدة إكراه من نوع ما, فإن عليهم أن يناضلوا من أجل تحريرها, لا أن يعترضوا عليها, لأن ذلك وحده هو مايسمح بالتأسيس لممارسة ديمقراطية حقة. حيث الشعوب التي لا تملك تقاليد ديمقراطية راسخة تكون في حاجة إلي ضروب من التربية التي تتعلم فيها من نخبها كيف تمارس ديمقراطياً.

 وبالطبع فإنها, وككل تربية, مما لا يمكن أن تكتفي فيها النخبة بالثرثرة بحلو الكلام, بل إن عليها أن تضرب فيها المثل لشعوبها بالسلوك والأفعال.

وضمن هذا السياق, فإنه يلزم القول إن الاعتراض علي أحكام القضاء لا يمكن أن يكون مما يضرب به المثل لشعب يراد تربيته ديمقراطياً.

لكن النخبة السعيدة لا تكف عن اقتراف الخطايا, وبدلا من أن تدرك أن منظومة ديمقراطية راسخة إنما تحتاج إلي تربية الجمهور علي احترام القضاء وعدم الاعتراض علي أحكامه من غير الطريق الذي رسمه القانون, وعلي ترسيخ مبدأ استقلاله, والدفاع عن هذا الاستقلال ضد كل ما يتهدده, فإنها لا تتورع, حين يتراءي لها أن في الاعتراض علي هذه الأحكام ما يمكن استثماره سياسيا, عن تهييج الجمهور وتعبئته وحشده, ودعوته إلي محاصرة المحاكم والهتاف ضد القضاة, والمناداة بإلغاء الأحكام وإبطالها.

 وحين يدرك المرء استحالة إبطال الأحكام علي النحو الذي يريده الجمهور الهائج   (وهو ما تعرفه النخبة طبعا), فإنه لا يكون من قصد لذلك كله إلا التأثير علي ما يتوقع صدوره من أحكام قد لا ترضي عنها بعض الأطراف.

وهنا أيضا, فإنها تظل علي وفائها لطريقتها في إيثار( العاجل) علي( الآجل); وهي الطريقة التي تمثل ـ وليس أي شئ آخر, تهديدا جديا لمسار التحول الديمقراطي في مصر.

وضمن سياق الأخطاء, أو حتي الخطايا, يأتي تجاهل النخبة أو جهلها بحقيقة أن الشعوب تحتاج في مراحل التحول الديمقراطي إلي وجوب إشاعة ممارسة سياسية توافقية, لا تنافسية; ليس فقط لما قد يؤدي إليه التنافس, مع غياب تقاليد ديمقراطية راسخة, إلي مفاقمة مخاطر الانقسام والتشظي, بل من أجل ما يؤدي إليه التوافق من تربية الجمهور علي فضائل عدم السماح لفصيل سياسي بالانفراد بالمجال السياسي وحده, وقبول الآخر وعدم إقصائه, والعمل بمنطق الشراكة معه; وهي الفضائل التي يؤول عدم توافرها إلي جعل الحديث عن الديمقراطية من قبيل اللغو الفارغ. 

والمؤسف, أن رفض النخبة للممارسة التوافقية يكشف عن هشاشة في الوعي نادرة النظير. فلقد راحت تحتج بأن تلك الممارسة هي مما لا تعرفه الدول الراسخة في الديمقراطية, فبدا وكأنها تقيس حال المولود الناشئ علي حال البالغ الراشد; وبما يعنيه ذلك من استمرارها في إنتاج ضروب من التفكير البائس الذي يحمل وصمتي الشكلانية واللاتاريخية, بكل ما ينطويان عليه من إهمال السياقات وتجاهل الشروط والظروف.
 وهكذا فإن التنافس الذي انحازت إليه لم يكن من النوع الذي يخاطب العقل علي النحو الذي يرتقي بوعي الجمهور, بل كان من النوع الذي يخاطب الغرائز الأولية والتحيزات الدينية علي النحو الذي فاقم الأزمة.

ولأن فكرة التوافق تقصد إلي التوزيع المحسوب للسلطة علي نحو يحول دون تركيزها في يد فصيل بعينه( وهو التركيز النافي للديمقراطية), فإن رفضها قد تؤدي بمصر إلي ما يكاد أن يكون إعادة إنتاج لنظام استبداد مبارك. وللمفارقة فإن إعادة إنتاج هذا النظام لا ترتبط بفوز المرشح الذي عمل مع مبارك كآخر رئيس لوزرائه, بقدر ما ترتبط أكثر بفوز مرشح الجماعة التي يقال بمعارضتها لمبارك.
 يفسر ذلك أن ما ثار عليه المصريون لم يكن مبارك الشخص, بقدر ما كانت ثورتهم علي طريقة في الحكم تنبني علي الهيمنة الكاملة لجماعات المصالح المتحلقة حول أسرة مبارك علي كامل المجال السياسي, ومن دون السماح لأي فصائل مناوئة بالحضور علي الساحة إلا بقدر ما يسمح به هذا الحضور للنظام من الترويج لخرافة ديمقراطيته وانفتاحه.

ولعل ذلك هو ما سيؤول إليه فوز مرشح جماعة الإخوان المسلمين التي يمكن القول إن الكارهين لها(ولمصر أيضاً) هم الذين سينتخبون مرشحها, وأما محبو الجماعة (ومصر), فإنهم سينتخبون المرشح المنافس; وأعني من حيث سيحول ذلك دون تركيز السلطة في يد الجماعة (وبما يعنيه هذا التركيز من توافر الشروط الموضوعية المنتجة للاستبداد علي نحو آلي, وبصرف النظر عن النوايا الحسنة والوعود الطيبة),
 وذلك فضلا عما سيؤدي إليه من توزيع السلطة بين مختلف القوي بما يفتح الباب للإنتقال السلس بمصر نحو الديمقراطية.

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 14 / يونيو/2012


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق