تتصاعد في الفضاء المصري الراهن بشائر حرب طاحنة,
تدور رحاها بين الفرقاء المتناحرين حول مادة الشريعة في الدستور
الذي تجري كتابته الآن,
في ظل استقطابات وتجاذبات يسعي البعض ضمنها لحسم الأمر لمصلحته عبر التهديد باستدعاء الجمهور المتحمس,
إلي ساحات الصدام والمواجهة.
وإذا كان التهديد بالجمهور يصدر- بالأساس- عن جماعات الإسلام السياسي, فإن ذلك لا يرتبط, فحسب, بقدرتها علي تحشيد الجمهور الملتزم التابع, بقدر ما يرتبط
- فضلا عن ذلك -
بتعارض ما تطرحه من آراء مع منطق العقل;
وعلي النحو الذي يبدو معه أنها لا تجد ما تجابه به منطق العقل,
إلا حماس الجمهور.
وهكذا فإن الجمهور الذي يجري التهديد به
هو أقرب ما يكون إلي قوة القمع منه إلي شاهد العدل,
لأنه يحضر إلي الساحة, لا كأفراد يمتلكون إرادة حرة, ويقدرون علي التفكير المستقل,
فإن هذا الجمهور لا يصدر في اختياراته عن العقل, بل يصدر فيها عن انفعالاته
- أو حتي غرائزه- الأولية;
حتي وإن تعلق الأمر بما لا يمكن أن يكون موضوعا للانفعال والغريزة,
كالشريعة.
ولسوء الحظ,
فإنه إذا كانت جماعات الإسلام السياسي لا تجد ما تحسم به معركة الشريعة إلا هذا الجمهور
( الذي يبدو أن أحدا لا يريد له أن يغادر موقع الضحية),
فإن ذلك يكشف عن مفارقة التوافق بين نظام مبارك وبين هذه الجماعات الوارثة له; وأعني من حيث لا يريدان لهذا الجمهور أن يغادر موقع من يمارس الاختيار
(علي فرض أنه اختيار) بمنطق الغريزة والانفعال.
ولكن فيما كان نظام مبارك يخاطب غرائز وانفعالات جمهوره بالفن الردئ وكرة القدم بالذات, فإن ورثته من جماعات الإسلام السياسي يخاطبون غرائز جمهورهم وانفعالاته بالدين.
وبالطبع فإن الجمهور مستعد للتجاوب معهم, ولو حتي علي سبيل التكفير عما يراه خطايا انغماسه في رذائله السابقة, من دون أن يدري أن إرتقاءه الحقيقي سوف يتحقق, فقط, بتوقفه عن التفكير بالغريزة والانفعال, وليس بمجرد جعل الدين موضوعا لهذا النوع من التفكير الأولي.
والمؤسف أنه إذا كان لا يقدر بذلك علي الارتقاء بنفسه, فإنه يتنزل بالدين إلي حيث يجعل منه ساحة للانحيازات والتعصبات الذميمة.
فإنه إذا كان البعض- ولأسباب سياسية ظرفية خالصة -
يتعامل مع ما يقول إنها إرادة الجمهور علي أنها البقرة المقدسة التي ينبغي السجود لها, فإنه يلزم التنويه بأن هذه الإرادة لا يمكن أن تكون موضوعا للقبول أبدا.
بل إنها كثيرا ما تكون موضوعا للإدانة والوصم.
فليس من شك في أن منتجي الفن الغرائزي الهابط كانوا- وسيظلون-
يتخفون وراء ما يقولون إنها إرادة الجمهور لتبرير ما يقدمون من نتاجات رديئة.
ليست إرادة الجمهور مرادفا للحق والصواب,
إذن, بل إنها قد تكون غطاء للرداءة والانحطاط.
وبالطبع فإنه يستحيل الاحتجاج بأن تعلق إرادة الجمهور بالدين
(بعد أن كانت تتعلق- قبلا- بالفن الهابط),
قد ارتقي وتسامي بها; إذ الحق أنها هي التي تحيل الدين- بل وأحالته بالفعل- إلي ساحة لانكشاف كل ما يرتبط بالغريزة والانفعال من التعصب والنزوع لتحقيق السيادة والهيمنة وسحق الآخرين.
ومن هنا غرابة تخفي جماعات الإسلام السياسي وراء هذه الإرادة
(التي كانت موضوعا لإدانتهم, لا شك, حين تعلقت بالفن المنحط),
لتضمين الدستور المقترح كل ما يتدني به إلي حيث لا يمكن أن يكون الوثيقة المحددة لملامح المسار المصري في القرن الحادي والعشرين.
ولابد, هنا, من تأكيد أن هذا التدني لا يرتبط أبدا بالشريعة, بل بفهم القطاع الصاخب, علي الأقل, من هذه الجماعات للشريعة; وأعني القوي السلفية بالذات.
ولسوء الحظ,
فإن التطابق يبدو كاملا بين كل من
نوعي الجمهور والشريعة اللذين تستدعيهما هذه القوي الصاخبة.
فإنه إذا كان قد بدا أن الجمهور الذي تهدد هذه القوي باستدعائه,
هو الجمهور كقوة تعمل خارج منطق العقل,
فإنها لا تكتفي بإستدعاء مفهوم للشريعة يتعارض مع منطق العقل, بل يعاكس
- وهو الأخطر- المجال الدلالي للمفهوم في القرآن;
وبما يومئ به ذلك من أن الخروج علي مقتضي العقل يؤول إلي الانحراف عن مقصد القرآن. وإذا كان خروجهم بالمفهوم عن مقتضي العقل يتأتي من تصورهم له كبناء مكتمل ومغلق; وبما يخرج به منطق العقل الذي يعادي الأبنية المغلقة علي العموم, فإن إخراجه عن مقصد القرآن يبين جليا في مقصد السلفيين تحويل دلالته من المبادئ الكلية إلي الأحكام التفصيلية الجزئية.
والحق أن الصراع الراهن, في مصر, هو في جوهره
صراع حول هذا التحويل الدلالي, وليس أبداً حول وجود الشريعة, أو عدمه, في الدستور.
فإنه ليس في مصر من يصارع من أجل عدم تضمين الشريعة في الدستور, بل هي المواجهة مع التحويل الدلالي لها من المبدأ الكلي إلي الحكم الجزئي;
وهو التحويل الذي تريد القوي السلفية فرضه علي الكافة,
رغم ما يبدو من تعارضه الصريح مع دلالة القرآن.
فقد مضي الفخر الرازي في مفاتيح الغيب إلي أن المقصود
من الآية: (شرع لكم من الدين),
ديناً تطابقت الأنبياء علي صحته,
وأقول يجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئاً مغايرا للتكاليف والأحكام,
وذلك لأنها مختلفة متفاوتة;
وبما يعنيه ذلك من أن دلالة الجذر شرع (ومنه الشريعة) تنصرف إلي المبادئ الكلية المشتركة التي توافق عليها جميع الأنبياء.
وحتي إذا جاز إمكان التمييز- والقول للرازي- بين قسمين من الشرائع بحسب هذه الآية;
منها ما يمتنع دخول النسخ عليه والتغيير فيه,
بل يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان, كالقول بحسن الصدق والعدل والإحسان, والقول بقبح الظلم والإيذاء,
ومنها ما يتغير ويختلف مما اقتضت المصلحة وأوجبت الحكمة وضعه في الأزمنة (المختلفة) علي الأمم, بحسب قول القرطبي,
فإن الرازي يقطع بأن الآية دلت علي أن سعي الشرع(أو القرآن)
في تقرير النوع الأول
(المتعلق بالمبادئ الكلية)
أقوي من سعيه في تقرير النوع الثاني
(المتعلق بالأحكام الجزئية).
إن ذلك يعني أن القرآن- علي قول الرازي - يصرف دلالة الشريعة إلي القواعد العامة كالصدق والعدل والإحسان, التي يتوافق فيها الإسلام مع غيره, وهو ما بدا أن داعية السلف يرفضه علي نحو كامل.
وإذ يحيل ذلك إلي أن المعني الذي يقول به داعية السلف للشريعة,
لا يمكن رده إلي القرآن, فإنه لا يبقي إلا أن يكون الأصل فيه هو التاريخ.
وإذن فإنه الإبدال السلفي للدلالة التي يصنعها التاريخ, بتلك التي يتداولها القرآن; وبما يؤول إلي تأكيد الفرضية القاضية بأن الوعي السلفي لا يفعل إلا أن يجعل من التاريخ دينا, أو أنه يتعبد تاريخا يظنه ديناً.
والمهم أن ذلك يعني أن السلفي يحارب معركته حول مفهوم للشريعة يتعارض مع دلالة القرآن والعقل معا, وبجمهور وضعته ظروفه في موضع الخارج عن مقتضي العقل أيضا;
وبما يعنيه ذلك من أنها معركة اللاعقل, بل وحتي اللاقرآن.
تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 1/ نوفمبر /2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق