إذا كان المشهد المصري الراهن يطفح بالعديد من مظاهر التردي والبؤس,
فإن ما يجوز اعتباره الأكثر بؤسا من بينها يتمثل في ظاهرة الفقر المعرفي
الذي ترزح تحت وطأته النخبة المتغلبة في مصر.
وليس من شك في أن هذا الفقر هو ما يؤسس لما تعيشه مصر من التردي والنكوص; الذي تقطع به حقيقة أن ما كان يكتبه المصريون ويفكرون فيه قبل مائة عام,
هو الأرقي, بما لا يقاس, من كثير مما يكتبونه ويفكرون فيه الآن.
لعل مثالاً علي هذا النكوص المزري يمكن أن تقدمه قراءة مقارنة بين ما كتبه
الأستاذ رشيد رضا
حول مسألة الحكم المقيد (أو الديمقراطي) والشوري,
وبين ما كتبه تأسيسيو الدستور,
حول المسألة نفسها, بعد ما يربو علي المائة عام تقريبا.
إذ فيما كان السيد رضا حريصا - فيما يخص تلك المسألة - علي بيان الحقيقة,
ولو كانت صادمة لأوهام الجمهور,
فإن متغلبي تأسيسية الدستور قد انحازوا إلي أوهامهم, وليس أوهام الجمهور فحسب, علي حساب الحقيقة.
فإذ انشغل السيد رضا بنقد الاستبداد,
وإلي حد تأكيد إن القوم الذين يرضون أن يستبد بهم حاكم يفعل فيهم ما يشاء ويحكم بما يريد ينبغي أن يعدوا من الدواب الراعية, والأنعام السائمة,
فإنه قد مضي يقرر ـ في صراحة وحسم ـ أن أعظم فائدة استفادها أهل الشرق من الأوروبيين هي معرفة ما يجب أن تكون عليه الحكومة واصطباغ نفوسهم بها
حتي اندفعوا إلي استبدال الحكم المقيد(أو الديمقراطي) بالحكم المطلق الموكول إلي إرادة الأفراد,
فمنهم من نال أمله علي وجه الكمال كأهل اليابان, ومنهم من بدأ بذلك كإيران, ومنهم من يجاهد في سبيل ذلك بالقلم واللسان كمصر وتركيا.
ورغم تصريحه بأن الشرق قد استفاد هذه الفائدة وعرف قيمتها(من الأوروبيين),
فإن ذلك لم يمنعه من تقديرها
وإلي حد اعتباره لها إسهاماً في الارتقاء(بأهل الشرق) من حضن البهيمية,
إلي أفق الإنسانية;
وبما يعنيه ذلك من أن موقفه السياسي والإيديولوجي من الأوروبيين لم يشوش علي وعيه بحقيقة أنهم هم أصحاب الفضل في تثبيت نظام الحكم المقيد.
وإذ يبدو الرجل صريحا في رد الفضل في تثبيت نظام الحكم المقيد إلي الأوروبيين, فإنه قد راح يحتج علي من يردونه إلي غير هذا الأصل,
قائلا:
فلا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم( المقيد/الديمقراطي) أصل من أصول ديننا, وأننا قد استفدناه من الكتاب المبين, ومن سيرة الخلفاء الراشدين, لا من معاشرة الأوروبيين والوقوف علي حال الغربيين.
فإنه لولا الإعتبار بحال هؤلاء الناس (الأوروبيين) لما فكرت أنت وأمثالك
بأن هذا من الإسلام,
ولكان أسبق الناس في الدعوة إلي إقامة هذا الركن علماء الدين في الأستانة وفي مصر ومراكش,
وهم الذين لا يزال أكثرهم يؤيد حكومات الأفراد الاستبدادية ويعد من أكبر أعوانها, ولما كان أكثر طلاب حكم الشوري المقيد هم الذين عرفوا أوروبا والأوروبيين.
ألم تر إلي بلاد مراكش الجاهلة بحال الأوروبيين كيف تتخبط في ظلمات استبدادها ولا تسمع من أحد كلمة شوري, مع أن أهلها من أكثر الناس تلاوة لسورة الشوري ولغيرها من السور التي شرع فيها( الله) الأمر بالمشاورة, وفوض حكم السياسة إلي جماعة أولي الأمر والرأي.
وهكذا لا يتورع الرجل
- وهو من لا يمكن إنكار تأثيره المباشر علي الأستاذ حسن البنا نفسه -
عن القطع باستحالة أن تكون الشوري أصلا للحكم الديمقراطي المقيد.
وإذا كان أكثر ما يلفت النظر في كل ما مضي إليه الرجل هو وعيه الحاسم بما يئول إليه الاستبداد من التنزل بالبشر إلي حال البهيمية,
وإطلاعه علي ما يجري في العالم من السعي الدءوب لمحاصرة
هذا الاستبداد والقضاء عليه,
وذلك فضلا عن إقراره باستفادة الشرق لنظام الحكم المقيد من الأوروبيين,
وليس من الإسلام كما يجري الإيهام,
فإنه يمكن القول بأن الرجل يلتزم خطاً في التفكير,
يكاد معه المرء أن يتصور أنه لو قرأ ما يسعي مؤدلجو الإسلام الحاليين إلي تضمينه في دستور ما بعد الثورة في مصر, لوجه إليهم الاتهام بالتدليس والتضليل, علي حساب الحقيقة.
ولسوف تكون حجته في هذا الاتهام أنهم يقلبون الحقائق عن قصد أو عن جهل; وفي الحالين فإنهم يكونون غير مؤتمنين علي مصائر بلد في حجم مصر.
ولعل المرء يدرك مصداقية ما يوجهه السيد رضا إلي هؤلاء من الاتهام بالتدليس, حين يضع ما أوردوه في مسودة الدستور من أن النظام الديمقراطي يقوم علي مبدأ الشوري;
وبما تعنيه هذه الصياغة من أن الشوري هي أساس النظام الديمقراطي وأصله
(وذلك باعتبار أن ما يقوم عليه الشيء يكون هو أساسه وأصله),
في مقابل احتجاجات السيد رشيد رضا المفحمة- وغير القابلة للرد -
علي استحالة أن تكون الشوري هي أصل نظام الحكم المقيد (الديمقراطي) وأساسه; وهي الاحتجاجات التي تستمد قوتها من ارتكانها إلي منطق الواقع القائم
الذي يتعذر دحضه,
وليس إلي مجرد السرد الوعظي المتخيل.
فعلي مدي التاريخ, لم يتوقف المسلمون- علي قول رضا - عن تلاوة سورة الشوري وغيرها من الآيات التي شرع فيها( الله) الأمر بالمشاورة, وظلوا - مع ذلك - يتخبطون في ظلمات استبدادهم;
وبما يعنيه ذلك من أنها(أي الشوري) لم تكن ناقضة للاستبداد أو هادمة له.
وفقط فإن معرفتهم بأوروبا والأوروبيين, ووقوفهم علي حال الغربيين هي التي جعلتهم يتعرفون ويطلبون نظام الحكم المقيد,
بوصفه السبيل للخلاص من الاستبداد الجاثم.
إن ذلك يعني أن الرجل لا يحمل وهم قراءة الديمقراطية(كفرع) بالشوري( كأصل), بمثل ما يفعل تأسيسيو الدستور الحاليين, بل يلح علي ضرورة قراءة الشوري بنظام الحكم( الديمقراطي) المقيد.
ولعله يلزم التأكيد أن التباين بين هذين الضربين من الفهم,
ليس من قبيل ما يمكن التهوين من شأنه,
بل إنه يؤشر علي مدي جدية التعامل مع معضلة الاستبداد.
ففي حين أن الفهم المستقر للشوري- في أدبيات الفقه السياسي- لا يتجاوز بها حدود تولية الحاكم ومناصحته فقط,
فإن هذا الفهم لا يقدم ما يمكن به تجاوز معضلة الاستبداد, بل لعله يئول إلي تكريسه. فإن وقوف مبدأ الشوري عند مجرد التولية والمناصحة يجعله أساسا لعلاقة مع الحاكم تغيب عنها, وعلي نحو كامل, آليات مراقبته ومساءلته ومحاسبته; وبما يعنيه ذلك من ترسيخ استبداده.
وإذ يحيل ذلك إلي محدودية مفهوم الشوري, وعدم فاعليته في مواجهة الاستبداد, وذلك في مقابل رحابة المبدأ الديمقراطي, وفاعليته
( وأعني من حيث اتساعه لآليات الرقابة والمساءلة والمحاسبة...إلخ),
فإنه يعني أن قراءة رضا للشوري( كفرع) بالديمقراطية( كأصل)
تبقي هي الأرقي والأكثر معرفية من تلك القراءة الطافحة بالإيديولوجيا التي يقدمها تأسيسيو الدستور الآن .
جريدة الأهرام بتاريخ 29 /نوفمبر/2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق