لابد من التنويه ـ منذ البدء ـ
بأن الوثيقة الأولية التي طرحتها الجمعية الموكول إليها كتابة دستور
ما بعد الثورة في مصر, للنقاش العام,
إنما تكشف ـ وعلي نحو نموذجي ـ
عن طبيعة الآلية التي يشتغل بها العقل المهيمن في عالم العرب منذ آماد بعيدة;
وهي آلية الجمع التجاوري,
بكل ما تقوم عليه من الإلحاق القسري والتلفيق بين عناصر لا تأتلف ويصادم واحدها الآخر,
وعلي نحو لا تقدر معه علي الإنتاج المثمر أبدا.
وللإنصاف فإن هذه الوثيقة لا تختلف عن غيرها مما أنتجته النخبة المصرية
علي مدي تاريخها الطويل;
وأعني منذ ابتداء تشكلها في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
وفقط فإنها كانت تتقن تشكيل وزخرفة ما تنتج فيما سبق;
وبحيث كانت تنجح في إخفاء عوار تفكيرها وراء بلاغة الصياغة وبهاء التعبير,
وأما الآن فإنها قد بلغت حدا من الانهيار والتدهور راحت معه تضيف إلي فقر الفكر وهشاشته بؤس الأسلوب وركاكته.
والحق أنه إذا كان ما تشهده مصر من الارتباك والتخبط,
علي مدي الشهور التي أعقبت رحيل مبارك, يكشف عن تردي نخبتها علي صعيد الممارسة والعمل,
فإن هذه الوثيقة تشهد علي بلوغها الحد الأقصي من التراجع والتردي,
علي صعيد النظر, أيضا.
فعند ابتداء لحظة التشكل قبل انتصاف القرن التاسع عشر,
كان الأب المؤسس( الذي هو الطهطاوي) يدشن تلك الآلية,
في صورتها التي لا يزال ورثته يحتذونها, علي مدي القرنين تقريبا, للآن.
وللغرابة فإنه إذا كان حقل تدشينها ـ مع الرائد المؤسس ـ
هو التأسيس السياسي لدولة الباشا, فإنها تعود للاشتغال,
علي نحو لافت, عند ورثته الحاليين في إطار انهماكهم في كتابة الدستور
الذي هو الوثيقة الأرفع في مجال التأسيس السياسي لدولة ما بعد الثورة.
لا يعني ذلك ـ بالطبع ـ أن آلية الجمع التجاوري لا تعمل في غير هذا المجال,
بقدر ما يعني أن حقل التأسيس السياسي هو أبرز حقول اشتغالها.
وهكذا فإنه إذا كان الطهطاوي قد مضي
ـ في سياق كشف الغطاء عن تدبير الفرنساوية, مستوفياً غالب أحكامهم ليكون تدبيرهم العجيب عبرة لمن اعتبر ـ
إلي إن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف, وإن السياسة الفرنساوية هي قانون مقيد; بحيث إن الحاكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين التي يرضي بها أهل الدواوين, فإنه يضع إلي جوار ذلك قوله
ـ كاشفا الغطاء عن تدبير دولته المصرية ـ
إن للملوك في ممالكهم حقوقا تسمي بالمزايا, وعليهم واجبات في حق الرعايا.
فمن مزايا الملك أنه خليفة الله في أرضه,
وأن حسابه علي ربه, فليس عليه في فعله مسؤولية لأحد من رعاياه,
وإنما يذكر للحكم والحكمة من طرف أرباب الشرعيات أو السياسات برفق ولين, لإخطاره بما عسي أن يكون قد غفل عنه, مع حسن الظن به.
وإذ لا يفعل الرجل, هكذا, إلا أن يجاور بين الاعتبار بالتقليد الليبرالي الحديث,
وبين التأكيد علي التقليد السلطاني الموروث;
فإنه كان يؤسس لما سيمضي إليه الورثة الحاليون من النص
ـ في المادة(6) من الوثيقة الأولية للدستور ـ
علي أن النظام الديمقراطي( المنتمي إلي التقليد الليبرالي الحديث)
يقوم علي مبدأ الشوري
( المنتمي إلي التقليد السلطاني الموروث;
والذي يقصر الطهطاوي دلالته علي تذكير أرباب الشرعيات أو السياسات للحاكم بما عسي أن يكون قد غفل عنه برفق ولين).
ولسوء الحظ, فإن التجاور بين الأطراف, علي هذا النحو,
لا يسمح للواحد منها أن ينفتح علي الآخر, مؤثرا فيه ومتأثرا به,
بل يبقي منغلقاً علي نفسه,
وساعياً إلي إقصاء غيره;
وبما يعنيه ذلك من أن التناحر والخصومة تكون هي مآل العلاقة
بين أي أطراف متجاورة.
ولأن هذه الأطراف لا تكون متعادلة في عمق الحضور والقوة,
بل إن منها ما يكون أقرب إلي القشرة الطافية علي السطح
( التي تشتمل علي كل ما ينتسب إلي التقليد الحديث),
ومنها ما يمارس في العمق هيمنة لا تقبل التحدي
( ويشتمل علي كل ما ينتمي إلي التقليد الموروث),
فإنه لابد من تصور أن ما سيجري إبعاده عن مجال الاشتغال الحقيقي
هو الطرف( الحديث),
الذي لن يكون مسموحا له بالحضور إلا كقناع يتجمل به التراث, متي شاء.
وهكذا فإنه إذا كان التقليد السلطاني الراسخ قد انتهي, مع الطهطاوي,
إلي إزاحة القول الليبرالي الناشئ,
وأحاله إلي مجرد برقع يستتر وراءه, فإن الأمر لن يختلف مع ورثته الذين يكتبون الدستور الآن.
وبالطبع فإن قدرة الموروث علي فرض هذه الهيمنة الكاملة تتآتي من ربطه بالدين; وذلك علي الرغم من أن ما يجري استدعاؤه من التراث للاشتغال السياسي الراهن, ويجري تنسيبه للدين,
هو ـ في معظمه ـ قواعد للضبط السياسي والاجتماعي التي تضرب بجذورها في التاريخ, وليس في الدين.
وحين يضاف إلي ذلك, أيضا, أن الديني نفسه يكون موضوعاً لقراءات تأويلية تخضع, بطبيعتها لجملة المحددات الاجتماعية والسياسية
التي تفرضها لحظة إنتاجها;
وبما يعنيه ذلك من أن التاريخ يدخل في تركيبها, لا محالة,
فإن ذلك يعني أن كل ما يجري استدعاءه من التراث,
ليتحدد به المجال السياسي الراهن,
هي جملة تراكيب أنتجها البشر, ويلعب التاريخ دورا جوهريا في بنائها.
وبالطبع فإنه لا يجري السكوت, فحسب,
عن المحددات التاريخية لهذه التراكيب التي أنتجها البشر,
بل ويجري تنسيبها إلي الدين, لتكتسب قداسته,
وتستقر في الوعي ـ وحتي اللاوعي ـ
كدين واجب الإتباع; وذلك هو الأصل في كل تلاعبات جماعات الإسلام السياسي.
ومن جهة أخري,
فإن كون ما يجري وضعه في الدستور,
من القواعد والمبادئ الحديثة ليس لها مثيل التاريخ المتجذر الطويل
للموروث الكامن,
فإن حضورها يكون هشاً وقابلاً للإطاحة به,
عندما يثور بينهما أدني اختلاف.
ولسوء الحظ,
فإن ذلك يعني أن ما تنشأ الدساتير من أجل تحصينه والإعلاء من شأنه
( من قبيل المساواة بين المواطنين وحظر التمييز بينهم بسبب الدين أو المذهب أو الجنس,
وتثبيت مبدأ تداول السلطة والرقابة عليها,
وإمكان محاسبة القائمين عليها, وغيرها من المبادئ التي بلغتها الإنسانية عبر مسار تطورها الطويل)
سوف تكون موضوعا للتهديد, علي نحو كامل,
بسبب ما يقوم إلي جوارها مما يفتح الباب واسعاً أمام القفز علي كل ما تلزم به. وهكذا فإن أحداً لا يجادل في أنه سيتم النص, في الدستور,
علي كل المبادئ العليا المنصوص عليها في الدساتير الحديثة,
ولكن المجادلة تتعلق بأن ما سيقوم إلي جوارها,
من تركيبات تراثية سوف يجعل منها مجرد إكسسوارات للتجمل والزينة,
لا غير.
تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 13 ديسمبر 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق