رغم أن الحرية كانت أحد أهم المطالب التي دوت بها حناجر الخارجين علي مبارك, علي مدي الأيام السابقة علي رحيله,
فإن نظرة على ما جري على مدار الأشهر العشرين التي أعقبت السقوط المدوي لنظامه, لتكشف عن الاتجاه إلي الإثقال علي المجالين العام والخاص بالمزيد من القيود والكوابح, بدلاً من التخفيف عنهما وتحريرهما; بما يفتح الباب لإخراج مصر من الأزمة التي تتخبط فيها علي مدي عقود.
ولسوء الحظ, فإنه يجري الترويج لهذا الإثقال علي مصر, بأنه نتاج الإرادة( الحرة!) للمصريين; وعلي النحو الذي يجري فيه الإيهام بأن هذا الفعل المهدد للحرية, هو- نفسه- فعل حرية.
وبالطبع فإن ذلك لابد أن يفتح الباب أمام التساؤل عن مشروعية أن تلغي الحرية نفسها, وعما إذا كان ممكناً للناس أن يلغوا حريتهم ويهربوا منها, وهل يكونون أحراراً بالفعل حين يقومون بذلك, أم أنهم يكونون مجبرين علي ذلك, حتي وإن بدا أنهم يفعلونه بإرادتهم؟.
يكشف ما سبق لعالم التحليل النفسي الأمريكي إريك فروم القيام به في كتابه الشهير الهروب من الحرية
- الذي خصصه لتحليل تجربة الشعب الألماني أثناء الحقبة النازية-
عن حقيقة أن الناس يكونون مجبرين علي هذا الهروب من الحرية, حتي وإن بدا أنه يكون إرادة لهم.
فقد كشف له تحليل تلك التجربة الأليمة عن أن رضوخ الألمان لسلطة الفوهرر المطلقة, لم يكن اختيارا لهم, بقدر ما كان فعل اضطرار دفعت إليه الظروف القاسية التي واجهتها ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب الأولي;
وبكل ما ترتب عليها من نتائج كارثية لا تقف عند حدود السياسة والاقتصاد, بل تتجاوزها إلي ما كان يعتمل في النفسية الجريحة للشعب الألماني.
وبالطبع فإن كون الأسباب المحددة للفعل لا تقف عند حدود ما يمسك به الوعي, بل تتجاوزه إلي ما يرقد تحته في الأغوار السحيقة للمكبوت اللاواعي للشعوب, ينتهي
- وبالضرورة -
إلي أن الفعل الصادر عنها لا يمكن أن يكون فعل حرية واختيار, بقدر ما هو- وبيقين- فعل اضطرار.
لم يكن الألمان, إذن, أحراراً في هربهم من حريتهم,
بل كانوا تحت وطأة ضغوط لم تسمح لهم بغير ما فعلوه.
إن ذلك يعني - ومن دون أي مواربة - أن فعلاً يلغي الحرية
لا يمكن أن يكون- هو نفسه - فعل حرية;
وفقط فإن الضغوط والإكراهات التي تحدده وتتحكم فيه تتواري عن وعي صانعيه, فيجعلهم هذا التواري يتصورون أن فعلهم حر, وهو ليس كذلك بالفعل.
وبالطبع فإن ما يثير الالتباس, بهذا الخصوص, هو أن هذه الإكراهات والضغوط تكون علي قدر من الرهافة, لا يسمح لها بأن تكون موضوعا لوعي مباشر.
ويرتبط ذلك بأنها لا تكون عوائق خارجية يسهل علي الوعي ملامستها والإمساك بها, بل تكون جزءاً من البنيات الداخلية الأعمق( النفسية والذهنية) للجمهور; وبما يعنيه ذلك من أن توجيهها لهذا الجمهور يكون خارجا عن سيطرة وعيه علي نحو كامل.
إن ذلك يعني وجوب السعي إلي الكشف عن هذه الإكراهات المتخفية, ووضعها تحت بصر الجمهور, ليتسني الانتقال به إلي مقام الفاعل الحر حقا.
ومن دون ذلك فإن الفعل الصادر عن هذا الجمهور سيظل فعل لزوم وإجبار, حتي وإن توافرت له كل الأدوات الخارجية التي تتحقق من خلالها أفعال الاختيار, كالانتخابات وغيرها.
وإذ لا يمكن الشك أبداً في أن مجمل هذه الإكراهات الرهيفة الناعمة تفعل فعلها في المشهد المصري الراهن,
فإن فعالية الشرط المعرفي من بينها تبدو الأكثر اشتغالا في تفسير ما يظهر من الإثقال بالقيود والكوابح علي المجالين العام والخاص.
وهنا تأتي المفارقة من أنه إذا كان فعل المعرفة هو الجوهر العميق لفعل الحرية, فإنه يبدو وكأنه يمثل
- في الحال المصري -
جوهر ما يتهدد الحرية الحقة للمصريين.
وهنا يلزم التنويه بأن التأكيد علي أن تصور الحرية, ومعها المعرفة, كفعل إنما يرتبط بوجوب إدراك الواحدة منهما كممارسة مفتوحة, وليس كجوهر أو معطي ثابت;
وهو أمر له دلالته القصوي.
حيث إن تصور المعرفة, مثلا, كمعطي ثابت; علي النحو الذي يجعل منها معرفة مطلقة وموهوبة من مرجعية عليا
( لن تتردد عن فرض نفسها كسلطة كهنوت),
لا يمكن أن يؤسس لحرية حقة, بل إنها ستكون, بدورها, هبة يستطيع من يهبها أن ينتزعها حين يشاء.
وحين يدرك المرء أن ثمة من قد سعوا, بالفعل, إلي تثبيت مفهوم المرجعية الحاكمة عند الخلاف( حول الشريعة)
في الدستور المصري الجديد,
فإن له أن يقدر حجم ما يتهدد مستقبل الحريات في مصر.
وإذ يبين أن الجماعات السلفية كانت هي الأعلي صوتاً في الدعوة إلي تثبيت مفهوم المرجعية في بنية دستور ما بعد الثورة المصرية الذي جري الاستفتاء عليه,
فإن ذلك يرتبط بما أكده الآباء المؤسسون للخطاب السلفي من عدم جواز أي معرفة إلا عبر الابتداء بتثبيت مرجعية تقوم مقام الأصل الذي يحدد ما يمكن القبول به منها, وما لا يمكن أن يكون مقبولا أبدا.
يقول صاحب كتاب( الحيدة وانتصار المنهج السلفي):
لابد من أصل يرجع إليه عند الاختلاف...,
فنؤصل بيننا أصلاً, فإذا اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلي الأصل, فإن وجدناه فيه( قبلناه), وإلا رميناه, ولم نلتفت إليه.
إن ذلك يعني أن ما يبين من سعي السلفيين إلي الإثقال بالقيود علي حرية التفكير من خلال تثبيت مفهوم المرجعية في الدستور, هو محض انعكاس لنظام المعرفة الذي صاغه الآباء المؤسسون.
ولعل ذلك يعني أن تحول المعرفة إلي عائق يتهدد الحرية إنما يرتبط بكيفية انبنائها; وأعني بما إذا كانت تنبني كممارسة مفتوحة
( تكون فيها شئون الناس موضوعا لحوار العقلاء),
أو تنبني كهبة معطاة من سلطة أو مرجعية عليا, تقع خارج دوائر النقاش والسؤال.
وغني عن البيان أن انبناءها, كهبة معطاة من سلطة ما,
هو أخطر ما يتهدد آفاق التحول الديمقراطي في مصر;
وأعني من حيث تكون المعرفة, علي هذا النحو, إطاراً لترسيخ العقل التابع
(الذي تحيل تبعيته إلي خضوعه),
بدل أن تكون ساحة لانبثاق وتبلور العقل الناقد بما يحيل إليه من قدرة علي التفكير المستقل, التي هي بمثابة الشرط المؤسس لكل حرية.
ولأنه ليس من المتوقع أن يتحقق تحول سريع في نظام إنتاج المعرفة الغالب علي الجمهور في مصر
(لأن هذا النوع من التحول يكون في حاجة إلي زمن متطاول نسبيا),
فإن للمرء أن يتوقع أن تدوي حناجر المصريين من أجل الحرية, بعد زمن قد يطول أو يقصر,
ومع الأمل بأن يكونوا قد انتقلوا بالمعرفة, حينها,
من مقام المعطي الجاهز
( وهو النمط الذي يمثل الجذر الغائر لكل استبداد),
إلي وضع التكوين المفتوح
( علي النحو الذي يجعل منها, هي نفسها, فعلاً تحررياً)
وذلك لكي يحرثوا البحر من جديد.
تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 27 ديسمبر 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق