الخميس، فبراير 07، 2013

النخبة والتفكير العقيم







ستظل الأزمة المصرية تتفجر عنفاً دموياً‏,‏ علي نحو متواتر‏,‏ ما لم نسع إلي الإمساك بجذورها العميقة‏,‏ والوعي بالأسباب الكامنة المؤدية إليها.
 وأما ما يكتفي به البعض من ردها إلي ما يدبره الآخرون (في الخارج والداخل) من المؤامرات والمكائد, بقصد تعويق المسيرة وإسقاط المشروع, فإنه يبقي محض عادة مصرية (أو حتي عربية) في الفرار من الأزمات, بدلا من مواجهتها.

وإذ لن يتمخض الفرار من مواجهة الأزمات إلا عن المزيد من الضحايا والتعقيدات إلي حين انفجارها من جديد, فإنه يلزم التأكيد علي أن التفكير هو السبيل- لا سواه- إلي الخروج الآمن من الأزمات التي تجابه الشعوب والجماعات.
علي أنه يلزم التمييز, هنا, بين التفكير في الأزمة, بما هي واقع ثقيل يفرض نفسه, ويلزم الانفلات منه سريعاً, وعلي أي نحو; وهو العمل الذي يمارسه الكثيرون بالطبع, وبين التفكير المتعمق في نوع التفكير المسئول عن إنتاج هذه الأزمة.
 إذ فيما يكتفي(الأول) بالوقوف عند السطح معالجا للقشور البرانية الملموسة, ومنحصرا في إطار الحلول الإجرائية, فإن (الثاني) ينفذ إلي الأعماق, متعاملا مع الجذور الباطنية المتخفية, ومبلورا للمخارج التأسيسية.

والحق أن نظرة تاريخية علي الأزمة المصرية الممتدة علي مدي عقود, لتكشف عن رسوخ التركيز ـ في التعامل معها- علي مجرد جوانبها الإجرائية الشكلية, مع الإهمال الظاهر لأصولها التأسيسية.
وعلي الرغم من أن هذا التركيز علي الجوانب الإجرائية لم يقدم إلا حلولا فقيرة, عجزت عن إخراج مصر من أزمتها, فإن كون الأطروحة السياسية هي التي هيمنت علي معالجة الأزمة المصرية, لم تقلل أبدا من سطوة التركيز علي كل ما هو إجرائي.
 ولعل الوقت قد حان ـ بعد الثورة علي مبارك بالذات - لتجاوز هذا الركام البائس بكل ما يصاحبه من عجز وعقم. إذ المؤكد أن تحقيق ما تطمح إليه الثورة من الدخول بمصر إلي مرحلة جديدة من تاريخها, إنما يستلزم التحول عن المقاربة الاختزالية الإجرائية لأزمتها إلي التعامل معها بمنظور شمولي تأسيسي; وبما يعنيه ذلك من ضرورة أن تكون معالجة الجوانب الإجرائية للأزمة الراهنة مسبوقة ـ أو مصحوبة - بالنظر في أصولها العميقة الكامنة; والتي لا تكاد- لسوء الحظ - أن تكون موضوع انشغال النخبة المتغلبة.

 وينطلق هذا التأكيد من حقيقة أن كل إجراء وعمل لابد أن يكون مسبوقا بتأسيس ونظر, وإلا فهو البناء علي غير أساس.
وبالرغم من أن للأزمة تاريخا ممتدا منذ الاصطدام المصري مع الحداثة, قبل قرنين, فإنه يمكن- ولأسباب عملية خالصة - تركيز النظر علي سياق الاحتدام الراهن للأزمة, اللاحق علي رحيل مبارك من المشهد.
حيث أظهرت الطريقة التي جرت بها إدارة مرحلة ما بعد هذا الرحيل, عن الغياب شبه الكامل لأي نظر وتأسيس, والجري علي العادة المصرية في الانشغال بما هو إجرائي, بكل ما تمخض عنه من التخبط والعشوائية.
 وإذ يستسهل الكثيرون ربط ذلك كله بالجهة التي أوكل إليها مبارك إدارة أمور البلاد بعد رحيله( وهي المجلس العسكري), فإنه يلزم التأكيد علي أن الأمر لا يرتبط أبدا بهذه الجهة أو تلك, بقدر ما يرتبط بما يغلب علي النخبة المصرية, بجميع شرائحها, من طريقة في التفكير تقوم علي تغليب (الإجرائي) علي (التأسيسي).

 ولعل ما يؤكد علي أن أمر الأزمة يتعلق بما هو أبعد من تعليقها في رقبة جهة بعينها, هو ما يبدو من أن خروج هذه الجهة من المشهد لم يقلل من حدة الأزمة المستحكمة, علي مدي العامين الفائتين.
 ومن هنا ضرورة توجيه النقد إلي طريقة التفكير الغاطسة التي تؤسس لطريقة, لا تزال مهيمنة في إدارة الشأن المصري, وليس لمجرد الجهة التي تقوم علي هذه الإدارة.
ولعل مقاربة من النوع الشمولي التأسيسي للأزمة الراهنة, في مصر, كانت تقتضي, أولا, تعيينا وتشخيصا دقيقا لطبيعة الحالة المصرية بعد رحيل مبارك, ليتسني تعيين الطريقة المثمرة في إدارة المرحلة اللاحقة, علي النحو الذي يجنب البلاد مخاطر الانقسام والتشظي, ويهيئها لتحول ديمقراطي ناجح.
 ولعل تشخيصاً كهذا ينطلق من أن مصر كانت تعيش, علي مدي عقود, استبدادا وركودا سياسياً, وضروباً من الانقسام والتمايز لا تقف عند حدود التفاوت المادي, بل تتعداه إلي تباينات القيم والسلوك; حيث بدا وكأن قطاعاً واسعاً من المصريين قد راح يفقد ثقته في كل ما له علاقة بالعصر, وارتد - ساخطاً أو يائساً ـ لا يري خلاصا له خارج إطار الروابط التقليدية (التي كان الدين مركزها الأهم) .
 وضمن هذا السياق, فإن الدين لم يعمل كمجرد خشبة للخلاص فحسب, بل وتحول إلي أداة لامتصاص كل ضروب الكبت التي عانت منها الجماهير في مواجهة دولة الفساد والقمع .
 وقد ترافق ذلك مع وعي لم تتجذر فيه تقاليد الدولة الحديثة; من حيث هي فضاء تتوزع داخله السلطة بين مؤسسات, تشتغل الواحدة في استقلال عن الأخري, ولكن في تناغم معها, ومن دون أن تتطابق مع أشخاص القائمين عليها.
 وفي كلمة واحدة, فإن مصر قد خرجت من قبضة مبارك, وأغلبية شعبها علي علاقة قلقة مع( الدولة) من جهة, وعلي ثقة لا حد لها في( الدين) من جهة أخري.
وبالطبع, فإن مجتمعا قد خرج يعاني علي هذا النحو, كان لابد أن تدرك نخبته أن التنافسية هي آخر ما يصلح له, كآلية لإدارة شأنه السياسي; وذلك من حيث أنها ستؤدي إلي انقسامه وتشظيه علي نحو كامل; وهو ما تعانيه مصر في الوقت الراهن, لسوء الحظ, لكن ميل النخبة المتأصل إلي كل ما هو إجرائي قد جعلها تتوهم أنه لا ديمقراطية من دون تنافسية; ومن دون أن تدرك أن الجوهر العميق للديمقراطية, ليس في التنافسية التي تبقي محض إجراء تشتغل به الديمقراطية في حال توافرت البيئة التي تجعل اشتغاله ممكنا.
 وللغرابة, فإن بناء هذه البيئة كان يقتضي, في الحالة المصرية, إدارة الشأن السياسي علي نحو توافقي ، فالتوافق هو ما كان سيسمح بتثبيت فضائل المشاركة والمحاورة والعمل مع صاحب الرأي المغاير; وهي الشروط اللازم توافرها لأي ممارسة ديمقراطية حقيقية, وذلك بدلا مما آلت إليه التنافسية من إذكاء رذائل الإقصاء والمنابذة والمفاصلة التي تكاد تودي بمصر إلي الهاوية...
فمتي تتخلص النخبة من تفكيرها الإجرائي العقيم؟

تم النشر بجريدة الأهرام بتاريخ 7 / فبرايــر/ 2013
لينـــك المقــــــــــال



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق