الخميس، فبراير 21، 2013

ركائز الحكم الرشيد




تدرك السياسة‏,‏ وخصوصا حين تكون قامعة مستبدة‏
, أن العقل المنفتح غير المقيد هو أخطر ما يتهددها;
وذلك من حيث يؤشر علي أن نقيضها من الحكم الرشيد هو المؤدي- وليس سواه- إلي تحقيق صالح المجموع, ومن هنا ما تسعي إليه, علي الدوام, من إزاحته وإبعاده.

وإذ تدرك استحالة إنجاز هذا الإنجاز بما تمتلك من وسائل الترويع والبطش, فإنها تتوسل بالدين والشرع لتضعهما في مواجهة معه, وللغرابة, فإن ذلك لا ينتهي إلي إسكات صوت العقل فحسب, بل إلي تهديد منظومتي الدين والشرع علي نحو كامل, ولسوء الحظ, فإن تراث الإسلام( السني والشيعي) يفيض بما يؤكد التاريخ الطويل لهذه الممارسة التي تسعي فيها السياسة لإزاحة العقل باستخدام سلاح الشرع, ولعل من قبيل المفارقة, أن ثورات العرب الأخيرة تكاد تنعش هذه الممارسة التي كان الظن أن تهافتها لم يعد موضع شك, بعد أن فضح الإمام محمد عبده عوارها وفسادها قبل أكثر من قرن.

بالطبع فإن السياسة لا تكف عن الإيهام بأن هذا الإقصاء للعقل لا يكون مقصودا به تحصين ذاتها, بقدر ما هو أحد مطالب ومقتضيات الشرع, وهكذا فإنها تراوغ بالمبالغة في الإخفاء التام لنفسها من المشهد; وبحيث تحقق هذا الإقصاء للعقل فوق ساحات بعيدة عن ساحته, لكنه وبالرغم من حقيقة أن الساحات التي يجري فوقها تأسيس الخطاب الإقصائي للعقل في تراث الإسلام لا تتصل- بالفعل- اتصالا مباشرا بالسياسة, بل تتصل بالعلوم الشرعية والدينية; فإن ما يظهر من أن هذا الإقصاء للعقل يؤدي إلي اختلال نظامي الدين والشرع ذاتهما, إنما يقطع بأن المقصود به هو تحصين السياسة, وليس الدين والشرع, بحسب ما يجري الإيهام, وهكذا فإن الأمر لا يتجاوز حدود أن السياسة تتخفي وتترك للآخرين أن يحسموا معاركها فوق ساحات الاشتغال بالمقدس لكي تغطي علي بؤس قصدها المدنس.

من هنا فإنه إذا كان خطاب الإقصاء للعقل, باسم الشرع, قد راح يؤسس نفسه داخل علم أصول الفقه, فإنه يبقي إمكان بيان عوار هذا الخطاب من داخل هذا العلم نفسه, فقد مضي حجة الإسلام الغزالي- في كتابه المستصفي في علم الأصول- إلي أن الدور الرئيسي للعقل هو إثبات الشرع, ثم يقوم بعد ذلك بعزل نفسه والاكتفاء بالتلقي عنه, لأن الشرع بعد إثباته هو ما يحدد للإنسان الحسن والقبح في الأفعال; وبكيفية لا يكون معها في احتياج إلي غيره, كالعقل مثلا, وإذ يؤسس الغزالي حجته في عزل العقل علي أنه يضع قيما متباينة ومتغيرة للأفعال, فإن ذلك يعني أنه يتصور أن دلالة الحسن والقبح التي يسبغها الشرع علي الأفعال تكون نهائية ومطلقة; وبمعني أن ما قضي الشرع بحسنه مثلا, يظل حسنا علي الدوام, ومن دون أي تعلق بالوقت والبيئة والحال.

ومن حسن الحظ, أنه يستحيل, من داخل علم الأصول نفسه, قبول ما يقرره الغزالي من دوام دلالة الأحكام الشرعية وثباتها; وأعني من حيث يدخل الوقت في جوهر تركيبها, ومن هنا ما احتج به الرازي في مواجهة منكري النسخ- الذي لا يكون إلا في الأحكام دون سواها من الأخبار وغيرها- من أنه إن قيل:
لو كان الثاني(الحكم الناسخ) أصلح من الأول( الحكم المنسوخ), لكان الأول ناقص الصلاح, فكيف أمر الله به؟
قلنا: الأول أصلح من الثاني بالنسبة إلي الوقت الأول, والثاني بالعكس, وإذ يربط الرازي صلاح الحكم الشرعي بوقته, فإنه يقرر استحالة أن تكون دلالته نهائية ومطلقة, بل إنه يدور ويتحول مع الوقت, والملاحظ أن الرازي لم يربط هذا الدوران للحكم وتحوله مع الوقت بما يترتب علي ذلك من مصلحة للعباد, بل بما يئول إليه من رفع شبهة أن يحكم الله بما هو ناقص;
 وبما يعنيه ذلك من أن رفع الشبهة عن الله يرتبط بتقرير ما فيه صلاح الناس.
فضلا عن ذلك, فإنه يبدو أن نسبة الثبات والدوام إلي الأحكام يتعارض مع ما استقرت عليه التجربة الفقهية, حتي مع الجيل الأول من المسلمين; حيث بدا أن ثمة أحكاما ثابتة بالشرع, وبما يترتب علي ذلك من وجوب تقرير حسنها, ومع ذلك فإنه قد جري تعطيل العمل بها بعد بعض الوقت, وعلي النحو الذي يحيل إلي أنها قد توقفت عن أن تكون حسنة, وكمثال علي ذلك, فإن الشرع قد قرر نصيبا للمؤلفة قلوبهم في الصدقات, وقد أورد القرطبي عن أبي جعفر النحاس قوله إن هذا الحكم فيهم ثابت; ولذلك فإن الأمر( الحكم) ماض أبدا, لأن الآية محكمة, لا نعلم لها ناسخا من كتاب ولا سنة,
 وبالرغم من هذا الثبات المقرر للحكم, فإن القاضي ابن العربي قد مضي إلي أن الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا, وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم, كما كان رسول الله يعطيهم; وبما يعنيه ذلك من أن الحكم ليس ثابتا علي نحو مطلق, بل إنه موقوف علي شرط بعينه, وعلي النحو الذي يجعله قابلا للتحول, ومن حسن الحظ, أن هذا التحول قد حدث بالفعل; حين أوقف عمر بن الخطاب دفع هذا السهم( المقرر بالقرآن) إلي اثنين ممن تقطع المصادر بأنهما من المؤلفة قلوبهم هما عيينة بن حصن والأقرع بن حابس,
 وخاطبهما قائلا: إن رسول الله كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل, وإن الله قد أعز الإسلام, فاذهبا وأجهدا جهدكما, وهكذا فإن تغير حال الإسلام من الذل إلي العزة قد قضي برفع ما هو ثابت بشرع محكم; وعلي النحو الذي يقدح في أن يكون الشرع مقررا لقيمة ثابتة, كقيم السواد والبياض التي لا تختلف في حق زيد أو عمرو, علي قول الغزالي, بقدر ما يبدو أن القيمة التي يقررها تختلف, بدورها, تبعا لاختلاف الوقت والحال, ولعل المرء حين يدرك أن العقل هو ما يقف وراء ما يحدث من التحول في دلالة الحكم الشرعي ذاته, يصل إلي استحالة قبول ما يقرره الغزالي من وجوب أن يقوم العقل بإثبات الشرع ثم يعزل نفسه ويكتفي بمجرد التلقي; وأعني من حيث يبقي الشرع بعد الإثبات في احتياج دائم إلي اشتغال العقل عليه, فإن كون دلالة الحكم الشرعي ليست نهائية ومطلقة, بل مفتوحة ومتحركة يؤكد هذا الاحتياج للعقل الذي يقوم بالدور الحاسم في هذا التحريك للدلالة.

وإذ يكون الشرع في احتياج إلي العقل لكي يظل قادرا علي التجاوب مع مقتضيات الحال والوقت التي لا تقبل الثبات, فإن ذلك يعني أن في عزل العقل وإبعاده ما سيؤدي إلي تقويض نظام الشرع بالكلية,وإذ لا يمكن أن يقصد الشرع إلي تقويض نفسه, عبر عزل العقل, فإنه لا يبقي إلا أن السياسة هي ما يقف وراء هذا العزل, لكنه يبقي وجوب التأكيد علي أنها إذ تعزل العقل, فإنها تقوم بتقويض الشرع....فهل يتريث المندفعون إلي هدم كل شيء ؟

تم النشر بجريدة الأهرام بتاريخ 21/ فبرايــــــر/ 2013



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق