الخميس، أبريل 18، 2013

عن القرآن والسلطان




لم تترك السياسة شيئاً إلا وتلاعبت به، وقامت بتوجيهه لخدمة ما تريد وتشتهى، إلى حد أن القرآن لم يفلت، على جلاله وتساميه، من هذا المصير.
وبالطبع، فإنه يلزم التأكيد على أن هذا التلاعب لم يتحقق - على الرغم مما يجرى تداوله من التنازع بين السنة والشيعة - من خلال التغيير والتزوير، بل من خلال ما جرى من تثبيت طرائق بعينها فى تصوره والتعامل معه. 
ومن ذلك مثلاً ما جرى من "تصوره" على النحو الذى جعله إحدى الساحات الرئيسية لإنتاج هذه الأطلقة، وكان ذلك عبر التعالى به من وجود من أجل الإنسان، إلى وجود سابق عليه، ومن تركيب تبلور فى العالم إلى كينونة ذات حضور مكتمل سابق فى المطلق. ولقد ترافق هذا التحويل، بدوره، مع تحولات مسار السياسة فى الإسلام من ممارسة "مفتوحة" إلى ممارسة "مغلقة"، وبكيفية تحول معها من القرآن الذى كان مركزه وقطبه هو "الإنسان"، إلى القرآن الذى استعمره، واحتكره "السلطان". إذ يجب تذكُّر أن التحول فى مسار السياسة من "خلافة الشورى" (مع أبى بكر) إلى "المُلّك العضود" (مع معاوية) قد تلازم مع الانتقال من القرآن الذى "لا ينطق بلسان، وإنما ينطق عنه الإنسان" - بحسب قول الإمام "عليّ بن أبى طالب" الذى لا يعنى إلا أن الإنسان يدخل فى تركيب القرآن - إلى القرآن أمسك به السلطان، وراح يتصوره ناطقا بدلالة مطلقة، مُقرنا له بالسيف، ليحسم به معركة السياسة. 
والحق أن نظرة على الطريقة التى جرى التعامل بها مع لغة القرآن، لتكشف عن التحولات فى مسار الصراع السياسي. فإذ يورد السجستانى، فى كتاب المصاحف، أنه "لما أراد عمر أن يكتب (المصحف) الإمام أقعد له نفرا من أصحابه، وقال: إذا اختلفتم فى اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن قد نزل على رجلٍ من مضر"، فإن الأمر قد اختلف مع عثمان الذى يُروى عنه أنه قال: "إذا اختلفتم فى عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلغة قريش، فإن القرآن أُنزل بلسانهم". وللغرابة، فإن هذا التحول من "لغة مضر" إلى "لغة قريش" قد ترافق مع ما كان يتنامى فى ساحة السياسة - وعبر عن نفسه صريحا مع عثمان - من اعتبارها (أى السياسة) شأنا قرشيا خالصا، بعد أن كانت قبله ساحة مفتوحة يشاركها فيها غيرها. ولعل دليلا على هذا التحول - فى السياسة - يأتى مما أورده الطبري، فى تاريخه، عن المنازعة التى جرت وقائعها حين اجتمع "عبدالرحمن بن عوف" إلى من "حضره من المهاجرين وذوى الفضل والسابقة من الأنصار، وأمراء الأجناد" ليختاروا الخليفة من أهل الشورى الذين عينهم "عمر" قبل موته. فقد "قال له عمار (بن ياسر): إن أردت ألا يختلف المسلمون، فبايع عليَّا، فقال المقداد: صدق عمار، إن بايعت عليَّا قلنا: سمعنا وأطعنا. وقال (عبدالله) بن أبى سرح: إن أردت ألا تختلف قريش، فبايع عثمان، فقال عبدالله بن أبى ربيعة: صدق، إن بايعت عثمان قلنا: سمعنا وأطعنا. فشتم عمار بن أبى سرح، وقال: متى كنت تنصح المسلمين؟. فقال رجلٌ من بنى مخزوم: لقد عدوت طورك يا بن سمية (يعنى عمار)، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها". ولعل كون الرجلين المتنازع عليهما (عليّ وعثمان) من قريش، هو ما يجعل القصد من عبارة الرجل المخزومى لابد أن يتجاوز ما يمكن فهمه منها من وجوب "قرشية" من فى الحكم، إلى أن الأمر يتعلق باستبعاد كل من سوى القرشيين من حق المشاركة فى تعيين الحاكم ونصبه، وبحيث تصبح السياسة احتكارا قرشيا خالصا لا شأن لغيرهم به. 
إن ذلك يعني، وبلا أدنى مواربة، جواز القول بأن الانتقال من "لغة المسلمين"، على تعدد قبائلهم، إلى "لغة قريش" وحدها، إنما يعكس تحولا كان يجرى فى مسار السياسة من كونها شأنا عاما يخص "المسلمين" جميعا، إلى كونها شأنا يخص "قريش" وحدها، أو يخص - حتى - مجرد بيت من بيوتها بحسب ما سيجرى لاحقا، مع بنى أمية وبنى العباس. لكنه، وبالرغم من هذا التضييق النازل من "لغة القبائل" إلى "لغة قريش"، فإنه يبقى أنها تظل - فى الحالين - من قبيل اللغة ذات الأصل الإنساني. وبالطبع فإن هذا التحول من "لغة الإنسان" إلى "كلام الله"، إنما يعنى بلوغ صيرورة "الأطلقة" - التى كانت تعنى تسييد المطلق "إلها" فى المجرد، و"حاكماً" فى المتعيِّن - إلى تمام الذروة والاكتمال. وهكذا، فإن ما يفسر ما حصل من التعالى بالقرآن (لغة وتاريخا وماهية) من الأرض إلى السماء، هو ما جرى من صعود المسلمين (سنة وشيعة) بخلافات السياسة من الأرض إلى السماء. ولعل ما يدعم هذا التوازى بين التعالى بالقرآن والتعالى بالسياسة، هو ما يبدو من أن التعالى بالقرآن كان قد ترافق مع سعى البعض، من الحكام المتأخرين على حقبة الخلافة بالذات، إلى التعالى بسلطتهم إلى مقام ينفلتون فيه من أى حساب أو مساءلة. وهنا، فإنه لم يكن ثمة ما هو أنسب من أن يخفى "الحاكم" نفسه وراء "القرآن"، الذى كان لابد - لذلك - من رفعه إلى السماء، لكى يكتسب، بدوره، (أعنى الحاكم) رفعة الكائن السماوي. ولعل هذه العملية من التقنُّع بالقرآن، هى التى ستقف وراء تبلور المأثور القائل: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". لكنه يبقى وجوب التأكيد على حقيقة أنه إذا كان السلطان قد كسب، بهذا التعالي، إطلاق سلطته، فإن ما ألحقه هذا التعالى بالقرآن من الضرر كان كبيرا، وذلك من حيث ما تآدى إليه من إطفاء أنواره، وإهدار خصوبته، بسبب ما فرضه عليه من إسكات صوته، وتجميد دلالته. ومن هنا وجوب السعى إلى تحرير "القرآن" من قبضة "السلطان". 

تم النشر في جريدة الأهرام بتاريخ 18 / أبريل / 2013


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق