الخميس، مايو 02، 2013

عن السلف والشيعة.. تناقضٌ أم تنافس؟




لا يكاد العرب وربما المسلمون يتوقفون، على مدى القرون، عن اختراع حوامل يعلقون عليها انقسام عالمهم وتشظيه، وبما يعنيه ذلك من أن الأصل في العالم هو الانقسام والتباعد. 

وهذا النوع من الانقسام هو أحد نتاجات رؤية للعالم استقرت وغلبت داخل التراث الإسلامي، وذلك مع ملاحظة أن تلك الرؤية للعالم تعد من رواسب ومخلفات عالم القبيلة الذي جاء الإسلام، في سعيه إلى بناء عالم جديد، لكي ينفيه ويرفعه، لكنه استمر حياً وفاعلا في وعي العربي حتى الآن، على الرغم من غياب القاعدة المادية الحاملة له في الواقع. إن ذلك يعنى أن "القبلية" تستمر فاعلة في الوعي الراهن، ولو كرؤية محفزة للانقسام والتفكك، وذلك على الرغم من غياب الحامل الواقعي لتلك الرؤية (الذي هو القبيلة).
ولقد بدا أن أحد أكثر هذه الحوامل التي لا يكف هذا الانقسام عن تعليق نفسه عليها رسوخاً وحضوراً، هو ذلك الانقسام بين السنَّة والشيعة الذي لا يوجد ما هو أكثر فاعليةً منه في التجربة التاريخية للمسلمين، على العموم. فمنذ اللحظة التي انفجر فيها هذا الانقسام، مع تصاعد الأحداث التي انتهت بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فإنه لم يتوارى عن المشهد أبداً، وظل يُعاد إنتاجه تحت رايات دولٍ وأقوام تتبدل مواقعها على ساحتي التاريخ والجغرافيا، ولكن من غير تبديلٍ في عناصر المشهد ذاته. إذ هو مشهد الدم يتحرك من زمن المَقاتل الأولى في صفين وكربلاء إلى المَقاتل الجارية الآن بين ذات الطوائف المتنازعة، في نفس الساحات، وتحت نفس الرايات تقريباً. وكذا فإنه يبدو وكأن الإمبراطوريات التي تقاتلت قديماً تحت رايات عباسية وفاطمية، ثم رايات عثمانية وصفوية، إنما تنبعث الآن لكي تستأنف ما كان من صراعاتها القديمة.
وضمن سياق هذا الترجيع، فإن الورثة لا يستدعون الأحداث بمجردها، بل يستدعون معها كل الأبطال والرموز الذين كانوا هناك في الزمن الأول. وهكذا فقد حضر الرموز جميعاً من الصحابة وآل البيت وأمهات المؤمنين، وحضر معهم وربما قبلهم الفرقاء الذين تحزبوا لهم، وعلى النحو الذي بدا معه أن أربعة عشر قرناً من الزمان لم تكن إلا محض زمان ميت ظل الحدث طافياً فوق سطحه الراكد، حياً وطازجاً من دون أن يضعف أو يبهت. بل وحضرت اللغة بنفس ألفاظها وقاموس مفرداتها من قبيل "المبتدعة والرافضة وأهل الأهواء" وغيرها. وإذن فإنها الذاكرة التي لا تذبل أو تموت وهى تقهر التاريخ، وتُلقي به في غيابة جُب الماضي، ولا تسمح له إلا بأن يكون تاريخ تكرار واستعادة، وليس تاريخ إبداع وولادة. وبالطبع فإنه لن يكون غريباً، ضمن هذا الترجيع، أن يُطلق العرب على حربهم الأخيرة في الخليج، نفس تسمية "الفتنة الكبرى" التي سبق أن أطلقوها على ما جرى في حرب "صفين" القديمة.
ولسوء الحظ فإنها لا تكون الاستعادة - أبداً - لما جرى في صورته الأصلية، بل في صورته المتخيلة المصنوعة التي لا تكاد تنطق إلا بعكس ما قد جرى فعلاً. وهكذا فإن الانقسام بين السنّة والشيعة لا يُستعاد بوصفه انقساماً بين فرقاء اصطرعوا على السلطة واقتتلوا حولها، ثم راحوا يرتفعون بأصول اختلافهم من الأرض إلى السماء، حيث أخفوا الأصل السياسي الذي يتنازعون حوله وراء قناع ديني سميك. وقد كان الواحد من هؤلاء الفرقاء يسعى، من وراء هذا التعالي إلى السماء، إلى تحصين مواقفه وتثبيت اختياراته أو انحيازاته، عبر ما يخلعه عليها هذا التعالي من سمات الديني "المقدس" وينأى بها عن الارتباط بالسياسي "المدنس". والمهم أن ما كان مجرد انحيازات تحتاج إلى التعرية والفضح يتحول، عبر هذا التعالي، إلى "معتقدات" يتقاتل الناس ويموتون تحت راياتها المقدسة. لا تُستعاد تلك الجذور الدفينة للخلاف أبداً، بل إنه يُستعاد بما هو خلاف يقوم أصله ومنتهاه في السماء، وأعني فيما هو ديني محض، حيث يجرى التغييب الكامل لكل ما هو سياسي وواقعي.
ولأن السماء هي فضاء المطلقات، فإن ما يرتفع إليها لابد أن يصبح مطلقاً لا محالة. وهكذا فإن الخلاف بين السنّة والشيعة سوف يصبح، عبر الارتفاع به من الأرض إلى السماء، من قبيل "المطلق" الذي لا سبيل إلى حله أو رفعه. إذ الخلاف حين يصبح مطلقاً، يكون حقلاً لمجرد التصادم، وليس التصالح. وللغرابة، فإنه لم يكن الشيعة وحدهم هم الذين يرتفعون باختياراتهم السياسية إلى السماء، بل كان أهل السنة يمارسون على هذا النحو أيضاً. ولا يتعلق الأمر فقط بما قام به عثمان بن عفان حين تعالى بسلطته إلى السماء مُعتبراً أنها "قميصٌ ألبسه الله له"، بل وحتى بما صار إليه ابن تيمية، وهو أحد أكبر خصوم الشيعة من السلف. فإنه إذا كان الشيعة يؤسسون دعواهم على أحقية الإمام "علي" بالإمامة على ما يقولون أنه النص (الجلي أو الخفي) على إمامته من جهة، وعلى ما تواتر عن فضله من جهة أخرى، فإن ابن تيمية لا يفعل إلا أن يحشد ما لا حصر له من النصوص الدالة على تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان على "عليّ" من جهة، بل ويمضى إلى تفصيل النصوص الدالة على إمامة أبي بكر من جهة أخرى. فقد مضى في "منهاج السنة النبوية" إلى إن "كثيراً من أهل السنة يقولون: إن خلافته (يعني أبا بكر) ثبتت بالنص، وهم يستندون في ذلك إلى أحاديث معروفة صحيحة. ولا ريب أن قول هؤلاء أوجه من قول من يقول: إن خلافة علي أو العباس ثبتت بالنص، فإن هؤلاء (الشيعة) ليس معهم إلا الكذب والبهتان، الذي يعلم بطلانه بالضرورة كل من كان عارفاً بأحوال الإسلام"، وبما يعنيه ذلك من أن ابن تيمية (السلفي) لا يفعل إلا ما يفعله الشيعة من الارتفاع بأصل السلطة إلى السماء أيضاً. وفقط فإنه يجعل ذلك لأبي بكر، في مقابل ما يفعله الشيعة من جعلها كذلك للإمام "علي"، وبما يعنيه ذلك أن الخلاف بين السلف والشيعة، ليس خلاف "تناقض"، بل خلاف "تنافس".
وبالطبع فإن ذلك يحيل إلى أن السبيل إلى رفع الخلاف السنى الشيعي وتسويته، يكون في النزول به من السماء إلى الأرض. لابد إذن - وفى كلمة واحدة - من الرجوع بما أصبح من قبيل "المعتقدات" الإيمانية إلى كونه مجرد تعبير عن مواقف و"تحيزات" سياسية. ولسوء الحظ فإن الكثير مما يتعامل معه المسلمون كمعتقدات إيمانية هو، فى جوهره، محض غطاء لمواقف وتحيزات سياسية. 
وضمن سياق التنزُّل بهذا الخلاف إلى أصله في الأرض، فإن المرء سوف يكتشف أن الجذر الواقعي لهذا الخلاف بين السنّة والشيعة لم يكن مجرد خلافات السياسة وحدها، بل كان أيضاً تصارعات القبيلة، أو حتى تناقضات العشائر داخل القبيلة الواحدة. ولعل ذلك ما يقطع به كتاب المقريزي "في النزاع والتخاصم بين بني هاشم وبني أمية"، الذي يرى للصراع، الذي خرجت من أحشائه فتنة السنّة والشيعة، أصولاً تسبق ظهور الإسلام ذاته.

تم النشر بجريدة الأهرام بتاريخ 2 / مايـــــو / 2013


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق